ذوي العمامة البيضاء: الجريئين السود في فجر الإمبراطورية الفاشية

 

شهدت القارة الإفريقية أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ما سُمي التحول التدريجي من “الإمبريالية الغير المباشرة” وهو تطور ظاهرة الاستعمار في مراحله الأولى كاحتلال وهيمنة عسكرية واستغلال اقتصادي، إلى استلاء حقيقي وتمَلُّك الأراضي المحتلة وإدارتها. وهذا من نتائج مؤتمر برلين ١٨٨٤-٨٥ الذي حدد في ظاهره النظام التجاري الأوروبي في القارة السمراء، وفي جوهره تقاسم القوى الأوروبية القارة الإفريقية فيما بينهم[1]. القوى الأوروبية ومن بداية احتلالهم للقارة السمراء وبتفوقهم العسكري والتقني بدأوا يجندون ويُلحقون في صفوفهم مليشيات من السكان الأصليين، ومع مرور الوقت وبشكل تدريجي أصبحت هذه المليشيات جزء أساسي من قواتهم العسكرية وذلك لتوطيد وتعزيز وجودهم في الأراضي التي احتلوها وتوسيعها إلى ما وراء البحار[2].

بريطانيا كانت لها السبق في هدا الشأن، وفي ١٨١٢ أسست شركت الهند الشرقية فرقة غركاس التي يمَثّل النباليون مكونها الرئيسي، ويُعتقد أن فرقة غركاس من أفضل فرق العسكرية البرية في العالم، وكذلك فرقة الجيش الهندي (سيبي) قوات من اصول هندية وآخرين من اماكن مختلفة من الإمبراطورية البريطانية.

وفرنسا اعتمدت على ما يسمي “القوة الاستعمارية” أو “القوة ما وراء البحر” والتي أُسست من بداية سنة ١٨٢٠، مكونة من عدة جنسيات خاصة من شمال إفريقيا وغربها، وكذلك “تريلور اندوجينوس” في شرق اسيا وفي فيتنام تحديدا.

وألمانيا أيضا لم تكن بدعا من أخواتها، وفي مؤتمر برلين كان نصيبها قطعة من شرق أفريقيا، وبالتحديد تنزانيا وما جاورها، في عام ١٨٩١ أنشأت فرقة قوى الحماية “شوتزتروب” من السكان الأصليين فيما سُمي في حينها إفريقيا الشرقية الألمانية، دُربت من ضباط ألمان وبلغ تعدادها إحدى عشرة ألف عسكري، مدعومة بثلاثة آلاف عسكري ألماني وشاركوا في الحرب العالمية الأولى.

وإيطاليا وكالعادة جاءت متأخرة في سباق المستعمرات وتقاسم الكعكة الإفريقية. وبداية دخولها الاستعماري في القارة كانت من إريتريا، ولاقت صعوبات في بسط سيطرتها على المناطق التي كانت من نصيبها، بدءً بهزيمة دغالي ٢٦ يناير ١٨٨٧ وما اعقبها من هزائم كثيرة في حروبها في إثيوبيا، أبرزها هزيمتها المخزية في وقعة اَدْوَا ١ مارس ١٨٩٦.  ومن هنا جاءت فكرة إنشاء فرق عسكرية محلية لتوفير أفراد القوات المسلحة الرسمية وتعويض ما خسرته في الحرب.

وفي بدايات التسعينات بدأت إيطاليا حملاتها التوسعية الاستعمارية، بتحويل الصومال من محمية إلى مستعمرة في ١٩٠٨، واستلائها على ليبيا ١٩١٢، واحتلالها لإثيوبيا في ١٩٣٦.

لم يدخل المستعمر الإيطالي في الصومال بالقوة العسكرية، بل استأجرها سواحل بنادر من سلطان زنجبار ١٨٩٢، واتفاقية حماية مع سلاطين مجيرتينيا وهبيو ١٨٨٩ في الشرق. وعند دخوله في الصومال لم يكن معه سوى عشرات من المرتزقة اليمنيين والإيريتريين، تحت إشراف وقيادة ضباط إيطاليين.

ومع تطور الحوادث وظهور ثورات تحررية مسلحة في بنادر، اضطر المحتل جلب قوات عسكرية نظامية من إيطاليا ومع ذلك لم تكن كافية لوأد واخماد الثورة، ولهذا لجأ إلى سياسة فرق تسد، حيث استمال وقرّب بعض القبائل إليه ومنحهم امتيازات وسلحهم بأسلحة نارية ليضرب بهم الثوار أو المقاومة.

   دُبَدْ  (Dubat)، غُغْل(Gogle)، زَبْتي(Zaptié)، مليشيات وفرق شبه عسكرية غير نظامية أسسها الاستعمار الإيطالي في الصومال في فترة بين الحربين العالميين، ١٩١٤- ١٩٤١. مثل نظرائهم اسباحيس (Spahis) من فرقة العسكريين وغيرها من الفرق الخاصة التابعيين للمستعمر كالمهريين (Meharisti) والزواريين (Savari) في ليبيا.

هذه المليشيات القبلية المسلحة كانت لها دور محوري في جميع العمليات القتالية الإيطالية في الصومال، وتتكون أفراد هذه المليشيات من رجال القبائل المحلية البحتة، كانت بدايتهم كمساعدين ومنفذين لأوامر زعماء القبائل التابعين للمستعمر. الحاكم الإيطالي في بنادر (١٩٠٧_١٩١٠) توماسو كارليتي هو أول من أنشأ أولى نواة هذه المليشيات القبلية بعد احتلال أفغوي لحماية قبائلهم ومواشيهم من الدراويش لأنها كانت تستهدف كل من ساند أو وقف مع المستعمر.

وفي عهد الحاكم الإيطالي في بنادر دي مرتينو وسّع نطاق هذه المليشيات لتشمل جميع أراضي المستعمرة، وفرّق بين مليشيات القبيلة غغل و بين مليشيات حرس الحدود دبد، وفي وقت لاحق أُنشأت فرقة غُغْل التي تحولت فيما بعد الي “غٌغْل الشرطة” أو شرطة الغابة ووظيفتها الأساسية كانت إغارة وملاحقة المتمردين خارج المدن. وفي فترة المحافظ أو الحاكم رفييري ألغي وسرح أغلب المليشيات القبيلة الموكلة لحماية القبائل والمواشي، الذين يتأمّرون من زعماء القبائل، وأبقي مليشيات شبه عسكرية غير نظامية لحراسة الحدود الإثيوبية الصومالية أو تلك التي تحتلها بريطانيا، وتأمينها، وايضا لتأمين طرقات القوافل التجارية وملاحقة قبائل المناوئين لإيطاليا. وأخيرا الحاكم الفاشي دي فيكي حصر مهام و وظيفة المليشيات القبلية غغل فقط بشرطة اتصال بالقبائل، وأنشأ فرقة الهجانة البوليسية “زبتي Zaptié” الصومالية، كما اعاد وبشكل كامل تركيبة وتقوية وتدريب فرقة حرس الحدود “دُبَد” من قبل ضباط و ضباط صف إيطاليين، وألغى ما سواهما من مليشيتات قبلية مسلحة، وجردهم من السلاح[3].

 وكان انتشار السلاح الناري قد خرج عن نطاق السيطرة وأصبح لدى الشعب ١٦ ألف قطعة سلاح ناري مقابل ٢٥٠٠ قطعة لدى قوات العسكرية الإيطالية، ولذا كان من أولويات الحاكم الجديد جمع السلاح من الناس ومنعهم من امتلاكه،  من سيكون إذاً صومالي بدون بندقية؟ يتساءل دومينكو قويريكو في كتابه السرب الأبيض، نصف رجل؟ لم يُرى صومالي قط بدون سلاح[4]

دي فيكي وصل إلى مقديشو كحاكم جديد في الصومال من قبل الحكومة الفاشية الإيطالية بزعامة بينبتو موسليني، في ٨ديسمبر 1923. وعند مجيئه في الصومال كان عدد إجمالي القوة العسكرية المدافعة “المستعمرة” ٤٧ ضابطا إيطاليا و٢٣٧٣ عسكريا ٨٥% منهم يمنيون. وفي السنة الأولي من حكمه، أعاد تأسيس فرقة “زبتي” الشرطة الصومالية من المليشيات العاملة من سنة ١٨٨٨ الي ١٩٤٢ من جديد وأدخل عليها  تغييرات جذرية، وأوصل تعدادها من ٥٠٠ من السكان و١١ من العسكر الإيطالي الي ٨٠٠، وافتتح مدارس لتأهيل المليشيات ورفع مستواهم المهني وتعليمهم اللغة الإيطالية، والنظام، والقانون العسكرية، واستخدام الأسلحة الجديدة، ويتم اختيارهم على أساس انتماءهم القبلي حيث يشترط أن يكونوا من القبائل المحاربين الأشداء، وقوتهم العقلية والجسمانية، الشخصية الصومالية تتسم بالخفة والسرعة اثناء السير أو الحرب.

وهذه الفرقة “زبتي Zaptié” الجديدة (الشرطة العسكرية) كان الهدف منها تسيير دوريات في البلد وفي الأسواق، ومراقبة دفع الضرائب وحرس السجون، ومراقبة الطرقات. وكذلك يستخدمون كجواسيس، ومخبريين.

واما انجازه الكبير كان إنشاء فرقة دُبَدْ وكان هدفها المعلن حرس الحدود، لوضع حد لغارات الحبشة في اراضي الخاضعة لإدارة المستعمر الإيطالي والقبائل الموالية لها، وكذلك ملاحقة خلايا وفلول النشطة لدراويش التي تقوم بإعمال عدائية ضد الإيطاليين واعوانهم، والتي تنطلق من داخل الحبشة.

وللعلم لم يكن هناك حدود محددة ومرسومة على الخريطة، والاثيوبيون يدعون أن الأراضي الأوغادين لهم، ولذا يشنون غارات على القبائل الممتنعة عن دفع الضرائب أو المكوس، مما يضطر هذه القبائل باللجوء إلى الأراضي الخاضعة لإيطاليا، وأن قبائل كثيرة تقطن جانبي الحدود المصطنعة، ولذا بات سهلا على الإيطاليين تجنيد افراد من القبائل المعادية لإثيوبيا.

 كميلو بكيس يعتبر مهندس فكرة إنشاء فرقة دبد وقائدها بلا منازع، يقول في مذكراته، “الصوماليون يتقاتلون ويدمرون فيما بينهم ولكن بدون كراهية أو الازدراء المتبادل فيما بينهم، التعصّب العرقي هو الوحيد الذي يجمعهم روحيا، الحبشة هي عدوهم التاريخي الوحيد، من حيث العرق والدين، وهو الذي يشعرهم الكراهية والازدراء، او الاحتقار نحو الحبشة”[5].

فرقة دبد، “دُبَد Dubat ” كلمة صومالية تتكون من كلمتين “دُوب” وتعني العمامة و “عد” وتعني ابيض، وحرفها الإيطاليون في النطق واصبحت دُبَدْ، وتعني صاحب العمامة البيضاء، يضعون هذه العمامة على رؤوسهم، وزيهم كان عبارة عن قطعتين من القماش الأبيض، يتأزرون احداها ويضعون الأخرى على اكتافهم، ويتعممون العمامة البيضاء. ومستوحي من الزيِّ الصومالي التقليدي.

فرقة دبد هي الوحيدة التي قدمت لإيطاليا خدمة جليلة حتى لقبت “الجريئين السود في فجر الإمبراطورية الفاشية” وقد أسست وبشكل رسمي يونيو ١٩٢٤، ولكن دخلت الخدمة العسكرية يناير ١٩٢٥.

 واصبحت فخر الإدارة الفاشية وجيشها في الصومال،وقد شاركت في استعراضات وحفلات الزعيم الفاشي في روما والتقي ممثليين وقيادات من فرقة دبد  بموسليني، وملك إيطاليا، ولقت الفرقة رواجا كبيرا وترحيبا حارا في اوساط الايطاليين.

 وقد استغل الإيطاليون العداوة التاريخية بين الصومالية والحبشة، لتشجيع الناس على الانخراط في صفوفهم. ويتم اختيارهم من أفضل العناصر القبلية المعروفة بالشدة والبأس في الحرب، ويختبرون ولاءهم للمستعمر ويؤدون قسم الولاء بهذه الصيغة: “انا   على استعداد لخوض الحرب للأجل الحكومة(الإيطالية)،  وأن لا أخاف إلا الله وقائدي[6]“. ويدربون بشكل احترافي من قبل متطوعين من الجيش، ولا يعتبرون جنود أو عساكر بمعني التقليدي، ويبقون مليشيات.

وبعد إنهاء جمع السلاح من جميع مناطق الجنوب وإحكام القبضة الأمنية عليه، وتأمين حدود الحبشة. اتجهوا الي الشمال إلى سلطنتي مجيرتينا وهبيو لإدخالهم تحت إدارة الاستعمار المباشرة، بدلا من الحماية، والذي من خلالها كانوا يتمتعون نوعا من الاستقلال الذاتي، وكانت لهم قوة كبيرة، وقد سلحتهم إيطاليا بشكل جيد لمواجهة الدراويش، عند ما قضوا على السيد محمد عبد الله حسن، جاء دورهم للقضاء عليهم، وبنفس الطريقة الأولى. جاءتهم بصوماليين آخرين (دبد Dubat ) معظمهم من قبائل كانت بينهم وبين سلطنتي هبيو ومجرتينا ثارات، وهكذا كل مرة تضرب بعضهم بعضا وتخرج هي سالمة.  ولم تنته دور فرقة دبد بعد، فلما قضوا على سلطنتي هبيو مجيرتينا، وفي ١٩٢٩ انشأت “فرقة الركوب”[7] هي جناح من دبد تستخدم الجمال للإسراع في التنقل، وإيصال البريد، للعلم أن فرقة دبد كلها كانت من الرجالة .

استخدموا لتعبيد الطرق، والاعمال الخدماتية اللوجستية[8]، وعندما بدأت الحرب الايطالية الإثيوبية في ١٩٣٥-٣٦ كانت فرقة دبد عمود الفقري لجيش الإيطالي وأبلوا بلاء حسنا، يقول العقيد في الجيش الإيطالي بِرجوتي لا ينبطحون علي الأرض، يفتخرون بتحدي الموت ومواجهة العدو بأرض مفتوحة، ويقول ايضا لا شيء  يمنعهم في القتال، يقتلون الكل حتي نساء العدو لا يفرقون بين المحارب وغيره. وقتالهم مبني على السرعة والدقة في إصابة الهدف.انتهي.

بقت فرقة دبد تقدم خدمتها للمستعمر بإخلاص وشاركت معه في الحرب العالمية الثانية ضد بريطانيا في الصومال الي آخر رمق، خسر الإيطاليون الحرب وبها خسرت الصومال، واسدل الستار علي فرقة دبد، واستولت بريطانيا جميع اقطار الصومال في١٩٤١.

[1]  Dubat Alberto alpozzi 8

[2] Idem 8

[3] Ferro e fouco di caroselli 186

[4] Dubat alberto alpozzi 41

[5]  Dubad alberto alpozzi 66

[6] Dubad alberto alpozzi 84

[7] Idem 101

[8] Idem 105

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى