خواطر دعوية (١٣) : وقفات مع قول الله تعالى ﴿ وَلا تَركَنوا إِلَى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ﴾

الظلم شأنه عظيم ومصيره أليم وطريقه مهلك ، فهو شؤم في الحال، والمآل ، وأفحشه وأفظعه الشرك بالله تعالى ، ولخطورته حذر لقمان الحكيم ابنه منه قائلا ﴿ يا بُنَيَّ لا تُشرِك بِاللَّهِ إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظيمٌ ﴾ لقمان ١٣ ، ولا نجاة للمرء في يوم العرض الأكبر ولا أمن ولا أمان له إلا إذا استصحب معه الإيمان الخالص مع تبرء تام من الظلم الأكبر ﴿ الَّذينَ آمَنوا وَلَم يَلبِسوا إيمانَهُم بِظُلمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدونَ ﴾ الأعراف ٨٢.

والظالمون ينتظرهم مصير مؤلم عاجلا أم آجلا،  دنيا وآخرة إن لم يتوبوا عن فعلتهم القبيحة ﴿ وَلا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ ، مُهطِعينَ مُقنِعي رُءوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَواءٌ ﴾ إبراهيم ٤٢-٤٣.

وقد روي عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة حول حرمة الظلم ومصير الظالمين .

والغرض من تحرير هذا المقال هو بيان حال من يتعاطفون أو تميل وتركن قلوبهم إلى الظلمة مهما كانت مبرراتهم وحججهم ، لأن الكثيرين يخالطهم الشك بأن معاونة الظالم ومؤازرته ومشاركته تنحصر فقط في القول والفعل دون القلب ، ونورد هنا ما قالته العلماء وحرره النجباء من أئمة التفسير وجهابذة التأويل عند تفسيرهم لهذا الآية :

ولا تركنوا : قال أبو العالية لا ترضوا بأعمالهم ، وقال ابن جرير عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا ، وهذا القول حسن أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم . تفسير ابن كثير .

قال الشيخ عبدالرحمن السعدي : ففي هذه الآية : ” التحذير من الركون إلى كل ظالم، والمراد بالركون ، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم . وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة، فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!! نسأل الله العافية من الظلم . تفسير السعدي.

قال سيد قطب : ‘ لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا . إلى الجبارين الطغاة الظالمين ، أصحاب القوة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبدونهم لغير الله من العبيد.. لا تركنوا إليهم فإن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على  هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه. ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير ‘ في ظلال القرآن.

قال العلامة الزمخشري : ‘ ولا تركنوا ‘ على البناء للمفعول، من أركنه إذا أماله، والنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم، ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله: “ولا تركنوا”: فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله: إلى الذين ظلموا أي: إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين  . تفسير الزمخشري .

قوله تعالى 🙁 إلى الذين ظلموا  (قيل : أهل الشرك . وقيل : عامة فيهم وفي العصاة ،… وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم ،  فإن صحبتهم كفر أو معصية ، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة . تفسير القرطبي .

وقد حذر غير واحد من أهل العلم معاونة الظلمة ولو بصورة غير مباشرة أو تزيين أعمالهم من باب المجاملة ، يُروى عن الامام الإمام أحمد بن حنبل، حينما كان مسجوناً في محنة “خلق القرآن” سأله السجان عن الأحاديث التي وردت في أعوان الظلمة ، فقال له: الأحاديث صحيحة ، فقال له: هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال له: لا، لست من أعوان الظلمة، إنما أعوان الظلمة من يخيطوا لك ثوبك ، من يطهو لك طعامك ، من يساعدك في كذا، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم! .
وروي أيضا انه جاء خياطٌ إلى سفيان الثوري فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان ( وكان السلطان ظالما )، هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط .

فإذا كان من لا يباشر الظلم ولا يوفر للظالم ما يحتاج إليه في مزاولة ظلمه من مشورة أو مؤازرة ولا يرافقه في المحافل وقاعات الاجتماع من أجل تكثير سواده بل بمجرد توفيره بمواد تصنف من باب الكماليات ، يكون من أعوان الظلمة ، فكيف تكون حال من وقف مع الظالم ولو مرة واحدة .

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية  { وقد قال غير واحد من السلف، أعوان الظلمة من أعانهم ولو أنهم لاق لهم دواة أو برى لهم قلما ومنهم من كان يقول بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم  ).

كان العلماء من قديم الزمان يتشددون على دخول الأمراء الظلمة ويرون ذلك مخالفا لما ينبغي عليه طالب العلم ، ولذلك لما اختلف الإمام الزهري إلى بعض أمراء زمانه ، كتبه إليه أحد العلماء قائلا له : ” عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك : أصبحت شيخا كبيرا ، وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه: ﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكتُمونَهُ ﴾ ، واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت : أنك آنست وحشة الظالم ، وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ، ولم يترك باطلا ، حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم ، وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم ، يدخلون الشك بك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهلاء ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك ، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم : ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلقَونَ غَيًّا﴾ مريم ٥٩ ، فإنك تعامل من لا يجهل ، ويحفظ عليك من لا يغفل ، فداو دينك فقد دخله سقم ، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ، والسلام . ما رواه الأساطين للسيوطي.

إذا المشكلة ليست على دخول الظلمة من أجل نصيحتهم أو الشفاعة لديهم أو قضاء حوائج الناس عندهم ، بل المشكلة تكمن في مؤانستهم والسكوت عن ظلمهم وتقصيرهم في أداء واجبهم ، ولأن مجرد الدخول عليهم بدون تحقيق مصلحة راجحة يعطي انطباعا لدى العامة بأن العلماء راضون عن فساد الحاكم وجوره ، وأن هذا الصنيع يضفي عليهم شرعية في تمادي باطلهم ، ولذا قال الإمام سفيان الثوري : في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك . وقال الإمام  الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا ، وعن محمد بن مسلمة : الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء .

وقد روي عن بعض العلماء أنه قال  “من دعا لظالم بالبقاء ، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه “. لأن الداخل عليهم لا يؤمن أن يدعو لهم ولو من باب الاحتراز عن أذيتهم.

ويتعلل كثير من العلماء بأن الحاكم وإن كانت عنده مظالم ولكن ما يتحقق في يديه من مصالح أكثر من ظلمه ، أو وجوده مع ظلمه أفضل من عدمه لأن الفوضى لا تكون بديلا ، أو لا يوجد في العالم عدل كامل ، أو القبول بظلم صغير تفاديا بظلم أكبر من الحكم المعروفة ، ولأجل ذلك  ينبغي الوقوف معه ومؤازرته وعدم مباعدته لأن ارتكاب أهون الشرين أقل ضررا من أكبرهما.

ولكن كل هذه التعليلات والتبريرات التي يسوقها كل من يريد أن يكون قريبا من بلاط الحكام لا تمنع الظالم من ترك ظلمه أو حتى تخفيفه لأنه ينظر إلى كل من يقترب منه بعين الاحتقار والازدراء ولا يغير من أسلوب حكمه شيئا إلا ما يصب في صالحه واستمرار كرسيه .

وأخيرا فالموقف جلل ينبغي للعلماء وطلب العلم أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ولا يعطوا الظلمة فرصة لاتخاذهم سلما لمآربهم المخالفة للدين والخلق السوي .

د.عبدالباسط شيخ إبراهيم ميلو

يوم الإثنين ٢ من شهر شعبان ١٤٤٢ه،  ١٥/٣/٢٠٢١م .

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى