خواطر دعوية (١٢ ) : طلب الإمارة بين التحريم والتحليل  

لا تستقيم حياة الناس ولا يسود الأمن والاستقرار ولا يمكن تعمير الأرض وبناء الإنسان إلا إذا وجد نظام وقانون يحمل على عاتقه تنظيم حياة الناس  بصورة يعود عليهم النفع الدنيوي والأخروي معا ، ويحفظ لهم دينهم وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم وعقولهم ، ويسعى الحيلولة بين ظلم الناس بعضهم بعضا. وإن كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كافية في زجر الناس عن اقتراف الموبقات وتعدي الحدود إلا أنها لا تصلح لجميع الناس ، لأن منهم من لا يقيم للشرع وزنا ولا يردع عن الظلم ولا يوقف عند حده إلا إذا أيقن بأن عقوبة قاسية في انتظاره إذا ما تعدى الحدود ، ولذلك قال الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه : ” إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن “. في وقت الرسالة والنبوة كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يتولى بإدارة الدولة وتعيين الولاة ومحاسبتهم واختيارهم وفق نصوص الوحي ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحابي أحدا في هذا المجال ، بل كان معيار الاختيار الأمانة والكفاءة وعدم التطلع والاستشراف لها ، ولذلك حذر الناس في طلبها والسعي لوصولها وتقلدها تحذيرا عاما وخاصا، فأما العام عن أبي هريرة  رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : ( إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة» . رواه البخاري .

وأما الخاص فعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها )  متفق عليه.  وعن أبي ذر  رضي الله عنه  قال: قال لي رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي. لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم ) . رواه مسلم ، ولما سأله أبو ذر وقال : يا رسول الله، ألا تستعملني ؟ فضرب بيده على منكبي ، ثم قال: ( يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها ) رواه مسلم . وعن أبي موسى الأشعري قال: دخلت على النبي ﷺ أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل .  وقال الآخر مثل ذلك، فقال النبي ﷺ : ( إنا والله لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه ) متفق عليه .

ومن أجل هذه الأحاديث ذهب عدد من أهل العلم إلى  تحريم طلب المسؤولية سواء كانت إمارة عامة أو خاصة ، وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى  : ” قوله : ( لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ ) : هو نهيٌ ، وظاهره التحريم ، وعلى هذا يدلّ قوله بعد هذا : ( إنَّا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا يسأله أو حرص عليه) ، وسببه : أن سؤالها والحرص عليها، مع العلم بكثرة آفاتها، وصعوبة التخلص منها ،  دليل على أنه يطلبها لنفسه ، ولأغراضه . ومَنْ كان هكذا، أوشك أن تغلب عليه نفسه ، فيهلك. وهذا معنى قوله: ( وكل إليها ). المهم ٤/١٦ .

وأرجع كثير من العلماء أن سبب النهي عن طلب الإمارة يعود على ما جبل على الإنسان من حب الرئاسة والتصدر ما يجعل هدفه الحقيقي من طلب هذا العمل هو الاستعلاء والعلو والتحكم على رقاب الناس أو ظلمهم أو الانتقام ممن لا يقدر رؤيته لسبب من الأسباب  ، وفي هذا الصدد قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: ‘ فإن عِزَّ السلطان وشرف الولايات، ونخوة الرياسة، وتعظيم المأمورين للآمر، مما جبل الإنسان على حبه، فكان الأمر بها جارياً مجرى الندب، لا الإيجاب، بل جاء ذلك مقيداً بالشروط المتوقع خلافها.. وإن النظر في مخالفة الداعي فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهى عما تنزع إليه النفس ‘. الموافقات ص٢٦.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : “وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة والمال بها، وقد روى كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.. فأخبر أن حرص المرء على المال والرئاسة يفسد دينه مثل أو أكثر من فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم”. مجموع الفتاوى٢٨/٣٩٢ .

وقد يقول قائل : إذا كان المرأ واثقا من نفسه ، أهلا للولاية ،  ولا تغيره المناصب ولا يتورط في فسادها ولا يسعي من أجل الاستعلاء والتصدر وظلم الناس بل همه ينصب إلى إفادة الأمة ورفع الظلم عن كاهلها بقدر استطاعته  ، أفلا يكون ذلك سببا لدعوة أهل الديانة والأمانة إلى طلب الرئاسة والسعي إليها حتى لا ينفرد المفسدون والظالمون في تحكم مسير الأمة وخيراتها ، لأن هذا الصنيع قد وجد له أصل في النصوص الشرعية ، ففي القرآن الكريم ورد في قصة يوسف عليه السلام بأنه سأل الإمارة : ﴿ قالَ اجعَلني عَلى خَزائِنِ الأَرضِ إِنّي حَفيظٌ عَليمٌ ﴾ يوسف ٥٥ .

قال الإمام الطرطوشي في سراج الملوك :  ‘ يستفاد من الآية أن من حصل بين يدي ملك لا يعرف قدره ، أو أمة لا يعرفون فضله فخاف على نفسه، لو أراد إبراز فضله ، جاز له أن ينبه على مكانته وما يحسنه، دفعاً للشر عن نفسه وإظهاراً لفضله فيجعل في مكانه ‘ .

قال الإمام القرطبي : ” يوسف عليه السلام إنما طلب الولاية، لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح، وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره.

وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ، ولم يكن هناك من يصلح، ولا يقوم مقامه ، لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها، ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به، من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف عليه السلام.

فأما لو كان هناك من يقوم بها ، ويصلح لها ، وعلم بذلك : فالأولى ألا يطلب “.  تفسير القرطبي ١١/٣٨٥.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية  : “وأما سؤال الولاية فقد ذمه صلى الله عليه وسلم. وأما سؤال يوسف وقوله: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ) : فلأنه كان طريقا إلى أن يدعوهم إلى الله ، ويعدل بين الناس، ويرفع عنهم الظلم، ويفعل من الخير ما لم يكونوا يفعلوه، مع أنهم لم يكونوا يعرفون حاله، وقد علم بتعبير الرؤيا ما يؤول إليه حال الناس.

ففي هذه الأحوال ونحوها: ما يوجب الفرق بين مثل هذه الحال، وبين ما نهى عنه ” .مختصر الفتاوى المصرية  ص ٥٦٤ .

قال العلامة  القاسمي : وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه ، لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه، وجواز التولية عن الكافر والظالم. وأصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحته، وفي أن المتولي أمرا ،  شرطه أن يكون عالما به ،  خبيرا ، ذكي الفطنة ، كذا في (الإكليل). تفسير القاسمي .

وقال الإمام الزمخشري في تفسيره ” وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى، وإقامة الحق، وبسط العدل. والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله، لا لحب الملك والدنيا ‘ .

وأما في السنة النبوية فقد روي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله ، اجعَلْني إمام قومي ، فقال: ( أنت إمامهم، واقتدِ بأضعفِهم، واتَّخِذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا ) حديث صحيح .

وهذا دليل على أن المرء إذا عرف من نفسه القدرة على تحمل الأمانة له أن يطلبها ، ولذلك لبّى النبي صلى الله عليه وسلم على طلبه وأذن له أن يكون إمام قومه .

وقد يرد إشكال في هذه المسألة بأن السؤال في إمامة الصلاة دون طلب الإمارة المنهي عنها . يقول العلامة ابن عثيمين في التفريق بينهما : ‘  ولكن يحمل هذا الحديث إما على التفريق بين طلب الإمارة والإمامة ، لأن الإمامة وظيفة دينية محضة ، والإمارة فيها سلطة ، فيها نوع من استعلاء وما أشبه ذلك ، وإما أن يقال: أنه إذا طلبها من يطلبها وهو أحق الناس بها ،  فإن طلبه هذا يكون بمنزلة التنبيه لولي الأمر ،  ليس طلبًا محضًا ،  وأن الإنسان إذا رأى من نفسه أنه أحق الناس وأوفى الناس بهذه الوظيفة فله طلبها ، وهذا الوجه أحسن ،  وربما نقول: إن الوجهين صحيحان لكن هذا أقرب إلى الصواب, ويؤيده أن نبي الله يوسف  عليه الصلاة والسلام  قال: ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )  لأنه رأى أن بيت المال قد ضاع ،  وأنه ذو حفظ وعلم فطلبه لعدم وجود من يقوم مقامه. انتهى

وأخيرا فالبعد عن طلب الإمارة والسعي لها  صغيرة كانت أم كبيرة ،  فهو مطلب شرعي صيانة للدين والشرف سواء كان طالبها أهلا لها أم لا ، ولكن لما ابتعد أهل الخير والفضل عن حياضها وزهد الإخيار عن ميدانها فأصبحت وكرا للفاسدين والمفسدين وتحول المعروف إلى منكر وأصبح المنكر مألوفا ومرحبا به ، وساد الظلم وفشت المحسوبية ونهبت الحقوق واغتصبت الممتلكات ، ولا يمكن إصلاح الأمة ومحاربة الظلم وانصاف المظلومين وتخفيف الحمل الثقيل عن كاهل الضعفاء والمحتاجين وإعادة الأمل إلى قلوب المقهورين إلا إذا انخرط أهل الديانة والأمانة الذين يقدمون رضا الرحمن على رضا الناس والباقية على الفانية ولا تستهويهم صولجان الحكم وبهرجته إلى ميدان الحكم والسياسة وتقديم أنفسهم للناس وعرض مواهبهم للعيان لكي يطمئن إليهم الناس ويختاروهم ، وإن لم يفعلوا ذلك فهم يتحملون مسؤولية تقصيرهم في حق الأمة دينا ودنيا ، لأنهم أعطوا اللصوص والخونة الفرصة ليعيثوا في الأرض فسادا ، ولذا قال الإمام الطرطوشي : ‘ إذا رأى الأمر في يد الخونة واللصوص ومن لا يؤدي الأمانة ، ويعلم من نفسه أداء الأمانة مع الكفاية جاز له أن ينبه السلطان على أمانته وكفايته، ولهذا قال بعض العلماء من أصحاب الشافعي رضي الله عنه: من كملت فيه آلات الاجتهاد وشروط القضاء، جاز له أن ينبه السلطان على مكانه ويخطب خطبة للقضاء، وقال بعضهم: بل يجب ذلك عليه إذا كان الأمر في يد من لا يقوم به ‘ . سراج الملوك .

اللهم ولي علينا خيارنا ولا تولي علينا شرارنا .

د.عبدالباسط شيخ إبراهيم ميلو

الخميس ٢٠رجب ١٤٤٢ه ، ٤مارس ٢٠٢١م .

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى