لفتة دولية متأخرة

أكملت الحكومة العسكرية بقياد محمد زياد بري العقد الأخير من عمرها بقمع واضطهاد مواطنيها وارتكبت بحقهم مجازر علنية وسرية بحق عشائر ومناطق مختلفة بمجرد أن سياسيا مرموقا من أبنائها يعارض هذا النظام. وفي أواخر السبعينيات وبعد محاولة انقلابية فاشلة قادها ضباط ينتمون إلى مناطق شمال شرقي الصومال (بونتلاند حاليا ) وتأسيسهم الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال (SSDF) قامت الحكومة العسكرية بتحريك قواتها نحو هذه المناطق وإطلاق عنانهم لممارسة أبشع أنواع القمع والاضطهاد بحق المدنيين والبدو الرحل، وتمّ استباحة أموالهم وأعراضهم. وفي مطلع الثمانينيات أعلن معارضون ينتمون إلى شمال غربي البلاد (أرض الصومال حاليا) عن تأسيس الجبهة الوطنية الصومالية (SNM) فبدأت الحكومة العسكرية بوضع ثقلها العسكري على المناطق الشمالية وممارسة  أعمال وحشية بحق المدنيين وبعد ما تيقنت عن صعوبة احتواء الموقف ميدانيا استخدمت مقاتلات الميج العسكرية لقصف المدن، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد وإنما بدأت في داخل العاصمة مقديشو اصطياد أبناء الشمال، ومداهمة منازلهم والاختفاء القسري لهم بعد اختطافهم من الشوارع ومن داخل منازلهم ومقرات عملهم، وتوجت تعدياتها بارتكاب المجزرة التي اشتهرت باسم (مجزرة الجزيرة) في منتصف عام 1989م، ثم بعدها تأسست جبهة المؤتمر الصومالي الموحد (USC) الممثل لعشائر في وسط وجنوب البلاد، فكانت التعديات بحق المدنيين مستمرة والتهمة كما أسلفنا قيام بعض سياسيي أبناء العشيرة بمعارضة النظام.

والجبهات القبلية الني نجحت في اسقاط الحكومة العسكرية في عام 1991م لم تفلح في رفع المعاناة عن كاهل المواطنين حيث بدأت بالانتقام من الأبرياء بدعوى الانتماء العشائري المشترك مع مسئولي الحكومة العسكرية، ثم واصلت الاقتتال فيما بينها وتبادل المدافع الثقيلة في داخل الأحياء السكنية مما تسبب في ارتكاب مجازر أخرى بحق المدنيين العزل ودفع الآلاف نحو النزوح المستمر. وفي عام 2005م انضم إلى الساحة لاعب جديد باسم المحاكم الاسلامية أعطى للحرب الدائرة في داخل المدن ونواحيها نكهة دينية، وتنفذ حركة الشباب المجاهدين التي خرجت من عباءة المحاكم الاسلامية عمليات تفجيرية وقصف مدفعي وهجمات مسلحة واغتيالات منظمة تقول أنها موجهة ضد الحكومة وحلفائها الأجانب لكن في الواقع المدنيون هم المتضررون في المقام الأول في هذه العمليات، والقوات الأجنبية ومنذ مطلع التسعينيات إلى يوم هذا ارتكبت تعديات قد ترتقي بعضها إلى حد المجازر.

رغم هذا السجل من التعديات بحق المدنيين في الصومال طيلة ثلاثة عقود لم يحرك المجتمع الدولي ساكنا من أجل الحديث عن جرائم حرب في الصومال، في وقت تحرك العالم في غضون شهور تجاه التعديات في معظم قارات العالم مثل:

التعديات التي حدثت في البلقان وألقي بسببها القبض على عدد من المتهمين بارتكاب جرائم حرب أبرزهم الرئيس الصربي اسلوبدان ميلتسوفيتش الذي لقى حتفه في داخل زنزانته في مركز احتجازه لدى المحكمة الدولية.

ومجازر البحيرات العظمى (بوروندي، رواندا وكونغو الديمقراطية) التي أسس من أجلها فرع للمحكمة الدولية في عروشا تنزانيا.

وبسبب ما حدث في ودارفور تطالب المحكمة الدولية بإلقاء القبض على الرئيس السوداني عمر البشير واثنين من مقربيه بتهم ارتكاب جرائم حرب في اقليم دارفور.

وليبيريا تحتجز المحكمة الدولية الرئيس السابق جارليس تايلور بتهم جرائم حرب.

أما كينيا فتم استدعاء كل من الرئيس الحالي أوهورو كينياتا ونائبه ويليام روتو من قبل المحكمة الدولية على خلفية أحداث الشغب التي صاحبت انتخابات عام 2008م. وبعض هذه التعديات أخف كثيرا وأقل تعقيدا مما تعرض له الصوماليون من تعديات واضطهاد طيلة الثلاثين السنة الماضية.

الآن وبعد شروع الصومال في انتخابات تشريعية ورئاسية يصدر المجتمع الدولي (الأمم المتحدة والولايات المتحدة الاتحاد الأوربي والاتحاد الإفريقي) بيانا مشتركا يعبر من خلاله شعوره بالقلق تجاه ترشح أمراء الحرب السابقين وشخصيات متهمة بارتكاب جرائم حرب لعضوية المجالس التشريعية في الصومال، مطالبين من الحكومة الفيدرالية والولايات الاقليمية وممثلي العشائر ولجنة الانتخابات العمل على انتخاب مجالس تشريعية أكثر كفاءة وأكثر قبولا من البرلمان المنتهية ولايته.

هذه الدعوة الدولية والمتأخرة عن وقتها بسبب كون معظم رموز الحرب الأهلية والعناصر التي مبعث قلق بالنسبة للمجتمع الدولي قد انخرطوا في العملية السياسية في وقت مبكر وتقلدوا عضوية برلمانية، وحقائب وزارية، ومناصب عسكرية وأمنية، وهي متأخرة أيضا لأن معظم هذه الشخصيات مرشحة حاليا لعضوية المجالس التشريعية وأكثر، وبعضها قد فاز بالفعل على مقعده في مجلس الشيوخ كما حدث في اقليم جلمدج مما يعني موقف حرج للإقليم وللمجتمع الدولي معا..

ومع ذلك تبقى هذه اللفتة جميلة وتستحق الترحيب والإشادة بها، فهي بمثابة رد اعتبار لضحايا الحروب الجائرة التي اكتوى بنارها أبرياء صوماليون منذ  ثلاثة عقود، و تحمل رسالة مفادها أن الجرائم لا تسقط بالتقادم.

بقلم: محمد عبدالله جوسار

محمد أحمد عبد الله جوسار

من مواليد 1974م في مدينة بلدوين، يحمل ماجستير في العلاقات الدولية من جامعة كمبالا، يهتم في قضايا الدين والفكر والسياسية، يعمل صحفيا مع قناة الجزيرة.
زر الذهاب إلى الأعلى