دراسات صومالية  ( 2 ) تشييد المدن والكتابة عنها في بلاد الصومال

قبل أن نتناول الحديث عن دراسة أسباب تأسيس المدن ينبغي أن نعرف أن دراسة المدن ليست حكراً على الجغرافيين فقط، بل هناك أطراف أخرى يهتمون بالمدن وما يتعلق بها من العلوم والدراسات ، ولكن في نواح مختلفة عن تلك التي يعالجها الجغرافيون ، أو يهتمون بما يتعلق بها. والحقيقة أنّ تلك الدراسات تختلف حسب مراد أصحابها من دراسة إلى أخرى  ” فالاقتصادي يهتم بالمدينة مثلاً فيدرسها من ناحية ثمن الأراضي داخل المدينة ، أو تكلفة تعمير ها أو إعادة تعمير بعض أجزائها ، أو تكلفة إنشاء بعض الجسور أو الأنفاق في المدينة، أو غير ذلك من الأمور الاقتصادية ، وكذلك فإن عالم الاجتماع يهتم بدراسة المدينة في النواحي الاجتماعية ، مثل مظاهر الفقر والثروة في المدينة ، مناطق الإجرام ، توزيع الطبقات الاجتماعية داخل المدينة ، مناطق التمييز العنصري أو الديني أو العرقي، داخل الفرد أو الأسر ؛ سلوك سكان المدن مقارنة مع سلوك السكان الريفيين ، أو العادات والتقاليد المتبعة في المدينة، وغير ذلك من القضايا الاجتماعية الحضرية ، كما أنّ المؤرخ يهتمّ أيضاً بدراسة المدينة من تأثير البعض منها على سير تاريخ تلك المنطقة أو تأثير الهجرات العُرفية إلى بعض المدن في أسلوب تطورها، أو علاقته بالثورات الفكرية أو الحضارية أو السياسة التي ظهرت في بعض المدن ، أو دور المؤسسات أو النظم السياسية الموجودة في بعض المدن في خلق بعض الأحزاب أو الحركات القومية أو الحزبية، أو مدى مساهمة إحدى المدن في تغيير مجرى الأحداث في تلك المنطقة ، أو في المناطق المجاورة ، أو غير ذلك من القضايا التاريخية”[1].

تشييد مدن جديدة أو تعمير المدينة بعينها وتأسيسها فإنه لم يكن أمراً جديداً وليد الحدث في الصومال أو في منطقة شرق إفريقيا فحسب، وإنما كان هناك أيضاً اهتمام عند المسلمين الأوائل حيث كانوا يهتمون بإنشائها وتشييدها لدى المجتمع الإسلامي بل وأخبارها أحيانا كثيرة  في مختلف العصور. ومن خلال قراءة التراث الإسلامي تُعدّ مدينتا البصرة والكوفة من أوائل ما اهتم به المسلمون في تأسيسها وإنشائها لا سيما في عهد خليفة المسلمين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضيّ الله عنه[2] ، وجاء بعد ذلك بغداد ، القيروان ، الفاس ، القاهرة والأخرى.

وقد استمر المسلمون على هذا الدرب وعلى هذا المنوال حتى تمّ تأسيس وإنشاء مدن كثيرة في مختلف الأصقاع على مختلف الأزمنة والأمكنة حتى اتسعت رقعة الخلافة الإسلامية وصارت دولة كبيرة مترامية الأطراف، تمتد إلى آفاق بعيدة. والحقُّ أن أول ما كان يهتمّ به المسلمون في تخطيط المدينة ، كان في تشييد مسجد في وسطها، وكذا دار الإمارة ، كما كانت الأسواق والمرافق المهمة في أوليات ما يخطط له فى تعمير المدينة وإنشاؤها . وكان خلفاء الإسلام يحرصون كل الحرص على بناء المساجد ودار الإمارة في أول وهلة، ولكن في أن يكون بناؤها في  وسط المدينة[3]

وهناك عوامل ودوافع مختلفة لعبت أدواراً قويةً فى تأسيس المدن ، مثل العامل الديني الذي هو : انتشار الدين الإسلامي فى ربوع مختلفة في هذا الكون ، واستمرار عملية الفتح والجهاد ليخضع الخلق لخالقه ، كما قال المولى عزّ وجلّ : ” له الخلق والأمر .. “.

وقد حظيت منطقة الشرق الإفريقي باهتمام كبير من قبل قادة المسلمين في الشرق الإسلامي ، كما حصل ذلك في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، حيث تمّ تأسيس بعض المدن على الساحل الإفريقي الشرقي مثل مدن : مالينده وزنجبار ومنباسا ولامو وكلوه وباته، وذلك حينما كثر المخالفون والخارجون على هيبة الخلافة في تلك النواحي[4].

وأما في بلاد الصومال فقد لعب انتشار الإسلام واتساعه دوراً  كبيراً في عملية إنشاء المدن والمراكز ، بل وأدى ذلك إلى قيام ممالك إسلامية فيها، من القرن الحادي عشر الميلادي ، سواء في جنوب البلاد أو شمالها ، وصارت هذه  المدن مشيخات وممالك فيما بعد ، بدءاً من مدينة ورشيخ شمالا إلى لامو جنوبا في أقصى جنوب المنطقة.

 أما في القطر الشمالي فكانت الممالك الإسلامية تلعب دورا مهمّا في نشر الإسلام وتأسيس بعض المدن والمراكز الثقافية لتكملة  الدور الديني والحضاري من منطقة زيلع إلى مناطق سيدامو وبالي وحوافى مرتفعات شوا الشرقية.

وفى النواحي العمرانية فيكفى أن الجغرافي المسعودى ذكر بأن للحبشة مدنا كثيرة وعمائر واسعة ، مشيراً إلى المستوى الحضاري والعمراني الذي كان  تتمتع بها تلك المدن فى تلك القرون الماضية سواء فى البناء والتشييد والاهتمام وتوسيع رقعة المدن وتطورها ومن بين المدن التي أشار إليها المسعودى زيلع، دهلك ، باضع ومصوع[5].

أما المدن الجنوبية فلم تكن أقل مستوى فى التعمير والبناء، بل وفى الرخاء والرفاهية وعلى رأسهم مدينة مقدشو التي أصبحت في فترة من الفترات كمركز حضاري تجارى ينبض بالحياة ويعج بحركة التجارة حتى عمتها الرفاهية والرخاء واتسع بها العمران وأصبحت فى قمة المجد والريادة بفترة طويلة فى المنطقة[6].

ومن هنا توجهت أعداد كبيرة من طلبة العلم  تشد رحالها إلى مدارس بعض تلك المدن المزدهرة والتي  احتوت مراكز ثقافية ومنابر علمية فأخرجت أجيالا تحمل هذه الثقافة تشق طريقها إلى مناطق أخرى. [7]. وعلى كل حال، فأنّ تاريخ المدن الساحلية ينبغي أ ن يوظف أغلب المعلومات التي يعثر عليها في المصادر، رغم قلتها وندرتها، وأغلبها من المصادر الجغرافية وكتب الرحالة. ويكفي أن نشير إلى مدينة مقدشو التي ورد اسمها في أغلب المصادر الجغرافية والسجلات العربية القديمة،  كما أشار إلى هذه المدينة بعض الرحالة الذين زاروها أو وصلت إليهم أخبارها عن طريقهم الخاص.

والحقيقة قلما تجد كتاباً جغرافياً أو بلدانياً حاول أن يتناول  منطقة الساحل الشرقي الإفريقي قد غفل عن تلك المدينة سواء ذكر اسمها الصريح ( مقدشو) أ وأشار إليها بأسماء أخرى مترادفة  [8].

وهناك مصادر ومراجع مهمة للجغرافية الصومالية أشارت إلى أجزاء مختلفة من المدن والبقاع في بلاد الصومال، مثل:

  • كتاب جغرافيا، ابن سعيد المغربي ، أبو الحسن علي بن موسى ( ت 673ه هـ – 1274م) .

حقق هذا الكتاب وقام بتعليقه الأستاذ محمد العربي، وصدرت الطبعة الأولى، من منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت 1970م.

  • وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية عن شرق إفريقيا، جيان : لسيوجيان شارل الفرنسي.

وقد ترجم الكتاب ملخصاً يوسف كمال الأمير ، القاهرة ، 1927م

  • الجمهورية الصومالية، دراسة لبيئتها الطبيعية وامكانياتها الاقتصادية ونظم الصوماليين الاجتماعية وعاداتهم وعلاقتهم بمصر في مختلف العصور، للدكتور عبد المنعم عبدالحليم سيد.

وجزء كبير من الكتاب تناول المؤلف بجغرافية الصومال وبيئتها الطبيعية مع قضايا أخرى لها علاقة بأمور اقتصادية واجتماعية وتاريخية. وقد صدر هذا الكتاب بمدينة القاهرة – مصر ، وكان يحمل الكتاب رقم العدد 291.

  • الصومال الجنوبي ( دراسة في الجغرافية الإقليمية )، مجيب ناهي النجم

والكتاب من منشورات وزارة الثقافة والإعلام لجمهورية العراقية ، سنة 1982م .

  • بعض المدن العربية على ساحل أفريقيا الشرقي في العصور الوسطى، لزكي عبد الرحمن، الجمعية الجغرافية المصرية، المحاضرات العامة للموسم الثقافي سنة 1964م.
  • العلاقات التجارية بين مدينتي عدن وزيلع في العصر الإسلامي، لدكتور معمر الهادي القرقوطي، ليبيا، ص 38 – 47، مجلة التراث، جامعة زيان عاشور الجلفة ، العدد الحادي عشر، جانفي – ليبيا 2014م، ، مخبر جمع دراسة وتحقيق مخطوطات المنطقة وغيرها.

[1] – فوزى عبد المجيد الأزدى : جغرافية المدن والمراكز الحضارية ، بيروت – لبنان ص32

[2] – تم تأسيس مدينة البصرة والكوفة بيد عتبة بن غزوان وسعد بن أبي وقاص في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضيّ الله عنه ، انظر الطبري: تاريخ الرسل والمملوك  ، مصدر سابق 3/590 – 597 4/40 –

[3] – الشيخ محمد عبد الله ريراش:  مرجع سابق  ص51.

[4] – محمد النقيرة: انتشار الإسلام: في شرق إفريقية ومناهضة الغرب له، مرجع سابق  ص85 .

[5] – المسعودى : مصدر سابق  1/1/8. 1/9

[6] – محمد النقير:  مرجع سابق ص28

[7] – غيثان بن على جريس: الهجرات العربية إلى ساحل إفريقيا ، مرجع سابق ص 22.

[8]  – مثل بنادر، حمروين وغير ذلك. ولا عجب في ذلك لأن هناك مدناً صومالية أخرى لها أسماء كثيرة مثل هرر ويسمى أيضاً أدرى وزيلع ويسمى أيضاً أودل ، وبوساسو ويطلق أيضاً عليها بندر قاسم نسبة إلى آل القواسم في الشارقة.

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى