حوار مع فتاة سلافية، وحديث مع الشيب

 

التقيت بالأمس بفتاة محجبة فاتنة تخلب اللب، في خمار اسود يزيد وجهها ضياء وتألقاً، وكأنه قمر منير في ظلام ليلة ليلاء، فانشدت في نفسي قول ربيعة بن عامر المسكين:

 قل للمليحة في الخمار الأسود * ماذا فعلت بناسك متعبدِ

ولما احست الفتاة انني استرق النظر بحسن جمالها اشفقت عليّ، او انها اشفقت على نفسها، فقالت: السلام عليكم يا عم، فرددت عليها السلام بلطف ورفق، وقولها يا عم أعاد الى نفسي شيئا من رزانتها ووقارها، وكان ذلك إشارة لطيفة منها، وكأنها تقول لي: ان تصابي الشيخ لا حلم بعده، فاستعذت بالله من فتنة الجمال وسحر العيون، وذكرت قول النمر بن تولب، حين اشتكى من غيد حسان دعونه بالعم، اذ قال:

دعاني الغواني عمهن وخلتني * لي اسم فلا أدعى به وهو أول

وكنت في ريعان شبابي، ونضارة غصني، وسواد شعري، وميعة نشاطي، وغضارة عودي، اسخر من النمر وعتابه على الغانيات، ولكنني اليوم حين ذقت ما ذاقه، وشربت من الكاس الذي شرب منه، عذرت للنمر، وأدركت سرّ تحسره وتعذاله؛ فان الانسان كثير اللوم على ما لم يحط به خبرا، شديد العتاب على معاناة لم يجربها، ولم يحترق بنارها.

ثم أقبلت على الفتاة السلافية، وقد أغراني الفضول بمعرفة سرّ هذا الجمال والنور والخمار، فقلت لها: من ايّ البلاد مطلع شمسك يا فتاتي؟

– انا سلافية الاصل وانتقلت اسرتي للعيش هنا في لندن منذ عشر سنين.

– سلافية ! عرفت سرّ جمالك، فقد قرأت في بعض مطالعاتي ان النساء السلافيات يتمتعن بجمال طبيعي باهر، والسلافية في اللغة العربية من اسماء الخمر، وهي الطفها وأرقها، فيك لطاقتها وفيك صفاؤها، الم تسمعي قول ابن عنين:

فاسقنيها من سلاف صانها * عصّارها في الدنّ حولا كاملا

فأنت سلافية الحور تلعب برأس الشيخ الرزين، وتلك سلافية الخمر تسلب عقل الرجل الحازم، فابتسمت في خجل متصنع.

وكان الشيب في راسي يصغي الى حديثي، فقال: ما لك وللغواني يارجل؟ الم تَر رأسك وقد استحال ليله نهارا، واشتعل المبيضّ في مسوده، وانسحب منه جيش حام، وحل محله جش سام، وصار نصفه الباقي يبابا قاعا صفصفا لا ماء ولا شجر؟ فاحمد الله ان دعتك الغواني ياعماه، وعما قليل سيدعونك يا أبتا، كما اشتكى ابوبكر بن زهير الأندلسي قبلك حين قال:

كان الغواني يقلن يا أخي ولقد * صار الغواني يقلن اليوم يا أبتا

 أما تنظر الى رأسك في المراة لترى ما فعلت بك عوادي الدهر ومرّ الليالي وكرّ الايام؟

فقلت للشيب؛ لقد نظرت الى رأسي في المراة، وأنكرت ما رأيت، وعاد رأسي مني كالثغام، وتمثلت بقول ابن زهر:

إني نظرت إلى المرآة إذ جليت * فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا

رأيت فيها شييخاً لست أعرفه * وكنت أعهده من قبل ذاك الفتى

فقلت أين الذي بالأمس كان هنا * متى ترحل عن هذا المكان متى؟

ولقد مر عليّ دهر -ابها الشيب- كانت المرآة احب شيئ الى قلبي، ولكنها اليوم أبغض شيي الي نفسي، فانها تذكرني بذكريات الصبا والأيام الخوالي، فلا تلمني -يا شيب – ان بكيت على شبابي وأفزع من قدومك، فما أثقلك من ضيف ! وما اصدقك من نذير ! ولقد كنت مخدوعا لطول ما عشت مع سواد لمتي ووفور شعر راسي، حتى جاءني غزوك بغتة، فأثار النقع فوق راسي، وعلق مني غباره، فصارت لمتي طرة صباح تحت اذيال الدجى.

فقال الشيب: هون عليك يا رجل، تلك سنة لله في خلقه، وهل لي من سبيل الى تغيير سننه في الانفس والآفاق، الم تقرا قوله تعالي ( الله الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير) ضعف فقوة ثم ضعف وشيبة، ألا ما اكفر الانسان !وما أشدّ نكرانه ! كم من الدهر كنت زينة على تاج رأسك، وألبستك حلل الجمال والبهاء، وكم لك من ايّام كنت تتبختر وتزهو بنفسك، ثانيا عطفيك،  ولكن الدنيا لا تدوم على حال، والايام دول، فان يكن بياض نهاري قد ساءك اياما، فان سواد ليلي قد سرك دهرا، ولقد أخلصت لك الود، حين كان العود ناصرا، وماء الحياة وافرا، ودماء الشباب في شرايين عروقك صافيا، ولكن ماذا افعل وقد ذبل العود، وغاض الماء، دعك من هذا يا رجل، فلا تندم على شباب لا يعود، وما يجدي البكاء شييا ولا النحيب،  واترك التصابي، وما شانك والغواني، وقد آذنت شمسك بالأفول، وجاءكم النذير،  وكفى بالشيب رادعا، اما سمعت قول سحيم عبد بني الحسحاس:

عميرةَ ودِّعْ إن تجهَّزتَ غاديا … كفى الشَّيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا

فقلت للشيب: نعم، لقد صدق سحيم: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا، ولكنني كلما كبرت -يا شيبتي- يكبر معي اثنان: حب الحياة وحب الجمال، وابغض كل من يسلبني احدهما او كلاهما، ولذا أبغضك ايها الشيب؛ لأني اراك قرين الفناء، كما ابغض قول الغيد الحسان يا عم، فان في ذاك إيذانا لصرم حبل الحياة، وامارة من امارات الادبار عن اطايب الدنيا ونعيمها، وسمة من سمات الإقبال على كدر الحياة وتنغيص العيش. فلا تظننَ -ايها الشيب – ان نظرتي الى الغواني نظرة الريبة والتصابي، وانما هي نظرة بريئة عفيفة، مشغوفة بالجمال وعاشقة للحياة. انني اعشق الجمال واقدسه، واقف إجلالا له وتعظيما، ويتجلى لي هذا الجمال في نسيم الرياض الزاهرة، وخرير المياه المنسابة، وطلوع الشمس الساطعة،وتغريدة الطيور الشجية، وسجع الحمام الندي على غصن الأيكة، وفي ثغر الغواني، والقمر المنير في الخمار الأسود.

ومما زاد من نكدي يا شيبتي، انه لو كان قدومك قد راعني وحدي لكان الامر هينا، ولكنه راع ام محمد كما راعني

رأت وضحا في الرأس مني فراعها * فريقان مبيض به وبهيم

تفاريق شيب في السواد لوامع *  فيا حسن ليل لاح فيه نجوم

فارتاعت ام محمد، فقالت: ما هذا الصبح الذي تنفس في سواد مفرقك؟ فقلت لها: ضحك المشيب براسي فبكى، فاخذت تنتف مني بياض الشعر، حنى اذا انتشر في الرأس، واستحال النتف، اخذت تصبغه بالسواد، فقلت: عسى الله ان يأتي بالفتح او امر من عنده، ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير، فكانت الصلعة التي أكلت نصف شعري، فاجتمع لي بذلك مصيبتان، واصلطلحت الصلعة والشيبة على راسي, فلم يبقيا لي فيه قدرا صالحا لصبغ ولا لنتف، فقلت: كفى يا ام محمد، لقد ضاع راسي بين النتف والصبغ، ولا يصلح الصبغ ما أفسدته عوادي الدهر وقوارع الزمن، فقد اتسع الخرق على الراقع، واستحال الفتق على الرتق، فاصبري يا ام محمد واحتسبي، فلا راد لقضاء الله، ولئن كان قد شاب راسي، فان فلبي لم يشب، بل ازداد حبه لك وقوي.

وما لي ولحديث الشيب، دعنا من هذا ايها الشيب، فليس الان وقت عتاب وملام في امر قد رفعت فيه الأقلام وجفت الصحف، فقد شغلتني من فتاتي السلافية، ثم نظرت اليها معتذرا، فقلت لها: هل لى من معرفة قصة هذا الخمار، فانني لم ار قبلك سلافية مختمرة محجبة؟.

– انا مسلمة اعتنقت الاسلام قبل سبع سنين.

– وكيف عرفت الاسلام؟

– كنت مولعة بقراءة كتب الأديان، ولما قرات الاسلام شعرت انني امام دين مختلف عما عهدته من الأديان، فتوسعت في دراسته، وعكفت على  القران، حتى شرح الله صدري للإسلام  فأسلمت، وكنت أحضر المسجد فبل أن أسلم، لأرى المسلمين في صلاتهم، فسرّني ما رايت .

– وكيف كان رد فعل والديك؟

– كان الامر صعبا عليهم في اول الامر، وكأن صاعقة وقعت عليهم، ولكنهما لما لحظا على مرور الزمن ان سلوكي قد تغير وأخلاقي قد تحسنت تقبلا الامر، وهما الان اكثر تفاهما وتعاطفا، حتى ان والدتي تذكرني بمواقيت الصلاة، وتوقظني لصلاة الفجر، ثم تنهدت وزفرت زفرة عميقة، ثم قالت: أظن ان قلب امي مقتنع بالإسلام، ولكنها تخاف من رد فعل الناس، فان امي تهتم كثيرا بما يقوله الناس في حياتها.

– الحمد لله الذي هداك الى الاسلام، ولا تستغربي -يا فتاتي-موقف أمك وحيرتها واضطرابها، فان معظم الناس يفكرون فيما يقوله الناس في سلوكهم وتصرفاتهم، والانسان كائن اجتماعي، فهو يتاثر بالبيئة والناس حوله، ويبذل قصارى جهده في المحافظة على ما تواضعوا عليه من عادات وتقاليد واديان، وقليل من يستطيع الخروج على ذلك الا بتوفيق من الله، مع عزيمة صادقة وحزم ثابت.

– ولكنني اخاف على والدي، فان قلبه مستغلق عن نور الايمان، وأحب لو يسلم والديّ كما اسلمت، وانا أدعو لهم دبر كل صلواتي.

– يعجبني موقف والديك وتقديرهما واحترامهما اختيارك الاسلام، وترك دين آبائهم وأجدادهم، ويطهر لي انهما من معدن اصيل، وعلى فطرة سليمة متأصلة في نفوسهم، فكثيراً ما تسوء العلاقة بين من يتركون دين آبائهم وبين اسرهم، وقد انتهت في حالات كثيرة الى القطيعة، فاحمدي الله الذي شرح صدرك للإسلام، ثم ألقى لك على قلب والديك محبة وحنانا. اما ما تشتكين منه من نفور قلب والدك عن الاسلام، فان أمره سهل هيّن، فان قلب الوالد معلق بقلب الوالدة، فاذا نجحت في إقناع أمك وانشرح صدرها للإسلام، فانك قد  ظفرت بابيك ايضا، فان الرجال في هذه العصور على دين زوجاتهم، كما كان النساء على دين ازواجهن في غابر الازمان.

– هل زرت بلدك قريبا؟

– لم ازر بلدي منذ ان اقتنعت بالإسلام وارتديت الحجاب، فلم ار قط سلافيا او سلافية مسلمة غيري، ولا اشعر بالامن في بلدي مع هذا الحجاب، ثم وجهت اليّ السؤال: هل رايت انت سلافيا مسلما؟

– لم ار سلافيا مسلما ولا كافرا غيرك، وفتاة اخرى كانت لي زميلة دراسة في كلية لتعليم اللغة الانحليزية

– احب ان اتوسّع في معرفتي بالإسلام، فماذا ترى ان اقرأ؟

– اذا كنت تريدين -يا فتاتي-  ان يبقي إيمانك قويا في قلبك، ويزداد جمال روحك تألقا وضياء، ولا ينطفئ نور وجهك، فلا تقرا غير القران، فانه سبب إيمانك، وفيه ما شئت من دين وعقيدة وعظة وفقه واخلاق وشريعة وادب وحكم ولغة وبلاغة وقصص وتاريخ وعبر، وكل ما تفرق في غيره من الكتب، واخشى ما اخشاه ان تصدك تلك الكتب عن التدبر في القران، وتذوق معانيه، وفهم أسراره. وددت لو اني ولدت من جديد، فاعرف الله كما عرفت، واهتدي الى الاسلام من خلال القران كما اهتديت، ولم اعرف أقوال الفرق، ولا عقيدة السلف والخلف، فان عقيدتك -يا بنيتي- من مشكاة نور الوحي قبل ان تكدّره الدلاء، وعقيدتي عقيدة العوام، وما قاله فلان وفلان من السلف والخلف، ان إيمانك عن معرفة ونظر،  وإيماني عن تقليد وولادة، فشتان ما بين الايمانين. انني أغبطك – يا عزيزتي- على صفاء إيمانك، وضياء وجهك، وجمال روحك.

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى