أحلام ثقافية(4) عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي (7)

على هامش احتفال اتحاد الصحفيين العرب بمرورخمسين سنة في اليوبيل الذهبي على تأسيسه والذي عقد بالقاهرة ما بين 19 – 21 أكتوبر 2014موالذي تمّ تكريم كوكبة ممن لهم أيادي بيضاء في الصحافة العربية المقروءة والمسموعة والمرئية، وكذا بعض الكتاب الذين لهم دور في نشر الثقافة العربية والبحث العلمي – على هامش ذلك – كان يدور بعض النقاش والحديث اللطيف مع بعض الزملاء والإخوة في دور أهل الصومال في العلم والمعرفة في المنطقة العربية في العصر الحديث، ومن حسن الحظ فقد بدأت قبل مدة غير بعيدة كتابة سلسلة مقالات لها علاقة بالفكرة في الموقع الالكتروني لمركز مقديشو للبحوث والدراسات تحت عنوان : “عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي”غير أنّ هذه الأعلام التي سبق عرضها لم يشمل بأؤلئك الأعلام الذين عاشوا في العصر الحديث ما عدا الشيخ محمد سرور الصبان، بحيث كنت أركز على تلك الأعلام التي عاشت في العصور الإسلامية الزاهية، ومن هنا أردت أن أشير هذه الحلقة بعض الأعلام من أهلنا ولهم أيادي بيضاء في المراكز والأروقة العلمية في العالم العربي في العصر الحديث. وأحببت أن  أبدأ عرض بعض الأخبار تتعلق بشخصية فريدة من نوعها برزت في ساحات العلم بالجزيرة العربية في القرن المنصرم، وهذه الشخصية لها نبوغ في الحديث وعلومه حتى أصبح ممن يشار إليهم البنان ليس في منطقة الحجاز أو في أماكن الأخرى في المملكة العربية السعودية وإنما في الجزيرة العربية وفي بلاد الشام، وهو الشيخ المحدث محمد عبد الله الصومالي، وقد وفقني الله أن إلتقيب به أيام دراستي في جامعة أم القرى بعض أن تعرفت عليه رحمه الله بحيث كنت أزور في بيته ثم في المستشفى عندما لازم السرير الأبيض في أخر حياته، وبعد وفاة فضيلته – رحمه الله -سطرتُ عنه نتف من أخباره ومناقبه في مقال بسيط بعنوان ” محدّث الحجاز الشيخ محمد الصومالي” نشر يومها في مجلة المجتمع الكويتية في عددها 1384 في 12 شوال عام 1420ه الموافق 18 يناير سنة 2000م، وقد قرأ الأستاذ محمد سعيد دلمر هذه الترجمة في الهيئة الإذاعة البريطانية  BBCبالقسم الصومالي في الأسبوع نفسه، ولأهمية الشخصية كتبعنه ترجمة أخرى أحد طلابه وهو الشيخ أحمد قاسم الغامدي تحت عنوان ” الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي ( رحمه الله ) في جريدة البلاد في عددها 15868 ، كما اشترك شخصيتان في ترجمة ثالثة فيما بعد وهما فضيلة الدكتور عمر بن الشيخ محمد السبيل – إمام الحرم المكي الشريف رحمه الله – والأستاذ حسن عبد الرحمن معلم، والأخير هو ابن لأخ الشيخ محمد عبد الله الصومالي وملازم الشيخ وقرأنا هذه الترجمة بعض المواقع الألكترونية وإن كان أصلها منشور في إحدى المجلات العلمية. ولكي تعم الفائذة نسترجع إلى ذاكرتنا ما سبق نشره من قبل مركزين على ترجمتنا دون غيرها، علما أننا سنحيل التراجم الأخرى في الهامش ليتابع القراء ولمن يريد معرفة أكثر في حياة شيخنا ووالدنا رحمه الله وأسكنه فسيح جناته[1].

وقبل الشروع في الترجمة ينبغي أن نشير هنا إلى أنه لم يكن من السهل أن تجد معلومات تتعلق بالشيخ ولاسيما أيام طفولته ورحلته العلمية ، وقد وحاولت كثيراً أن أجد معلومات تخص الشيخ إلا أنني لم أتمكن في ذلك لرفض الشيخ عن ذلك كله بل واعتذاره مراراً كتابة حياته التي لايوجد ما يميز عن غيره حسب ما كان يراه نفسه رحمه الله، وفي يوم من الأيام تحقق حلمي وذلك صبيحة يوم الخميس في 18 من شهر الله المحرم سنة 1419م الموافق 14 مايو عام 1998م حيث قمتُ بزيارة الشيخ إلى بيته بمكة المكرمة برفقة من أخي وزميلي فضيلة الدكتور باشنا إبراهيم محمود الدغودي الوجيري – وفقه الله لما يحبه ويرضاه – وفور دخولنا على الشيخ والسلام عليه وكان الشيخ في صحة تامة في هذا اليوم، وفجأة وجهتُ إليه سؤالاً حول طفولته وأسرته وقد قدر الله أن استرسل الشيخ حديثا عذباً وطويلاً عمّا سألته وكنتُ أدون ما تيسر لي تدوينه.

وفي يوم الأربعاء الموافق 9 من شعبان عام 1420ه قمت بزيارة أخرى إلى الشيخ ولكن هذه مرة في مستشفى محمد صالح باشرحبيل في مكة المكرمة حيث كان يعالج الشيخ إثر تدهور صحته إلى أن أدخل في قسم العناية المركزة. وقد وجدتُ عند الشيخ حفيدته السيدة حواء حسين عقيلة الشيخ محمد سعيد عثمان المجيرتيني – فرع علي سليمان – وفور وصولي إلى قسم العناية المركزة دخلتُ على الشيخ وكان يرغد على السرير في حالة شديدة بحيث كان أغلب جسمه مركباً بالأجهزة المساعدة للنتفس والتغذية. وبعد أن قرأتُ عليه بعض الآيات وسور القرآن الكريم خرجت من غرفته لأجلس كراسي الاستراحة وقد وجد حفيدة الشيخ السيدة حواء جالسة في المكان نفسه تقرأ القرآن وتدعو لجدها ، وقد شرعتُ أتحدث معها بحيث كان يهمني أن أجد منها معلومات ضافية عن حياة الشيخ ما لم أستطع الوصول إليها والتي لم يكن الشيخ يريد أن يبوح بها ، وفعلا لم تخيب آمالي وقد أمطرت عليّ سيلا من المعلومات تتعلق بالشيخ وخاصة في أيامه الأخيرة وهو مما لا نشير به هنا ما عدا بأن الشيخ في أيامه الأخيرة كان يوصي لمن حوله أن يصلي عليه إذا مات الشيخ محمد السبيل  رحمه الله إمام وخطيب المحرم  المكي ، وهو ما حدث فعلاً، كما أخبرتني بأن الشيخ كان يكرر في أيامه الأخيرة دعاءاً نفاذها بأن يرزقه الله الصحة والعافية إذا كانت الحياة خيرا له، وأن يتوفاه ربه إذا كانت الممات خيراً له.

وعندما بلغتني وفاة الشيخ لملمت ما كان عندي من المعلومات تتعلق به وبعثته إلى مجلة المجتمع التي كانت تصل إلى الصومال بالانتظام، رحم الله الشيخ محمد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن شرماركه بن خير كٌوس جيرار أمادن الأغاديني، وجاء ما كتبته يومها كما يلي:

محدّث الحجاز الشيخ محمد الصومالي

في منتصف ليلة الأحد لأربع خلون من شهر رمضان لعام 1420 كانت وفاة العلامة المحدّث الشيخ محمد بن عبدالله الصومالي المكي عن عمر يناهز تسعين عاماً، في مستشفى بمكة إثر معاناة طويلة مع المرض، وقد صلي عليه في المسجد الحرام، ودفن بمقابر عدل.

كان الشيخ من مواليد مقاطعة أوجادين في منطقة الصومال الغربي المحتل من قبل إثيوبيا، حيث نشأ وتربى فيها وحفظ القرآن في صغره على يد معلم حسين الرحنويني كعادة أبناء المسلمين في المنطقة، ثم تتلمذ على يد أشهر علماء منطقة القرن الإفريقي، كالشيخ علي جوهر وغيره.

وفي عز شبابه هاجر إلى أرض اليمن ليواصل رحلته العلمية على الرغم من خطورة السفر آنذاك، لكنه لم يطق المكوث تحت وطأة الاحتلال الاستعماري الحبشي، ومضايقاته أيام حكم الإمبراطور الصليبي هيلا سلاسي، وقد وصل إلى اليمن أيام حكم الأئمة، غير أنه بعد خمس سنوات واصل رحلته في طلب العلم حتى وصل إلى مكة المكرمة عام 1360هـ الموافق 1940م، وأثناء وجوده في اليمن نهل من منابع العلم ومعاقله في اليمن وخاصة ما يتعلق بعلوم اللغة، وعلى كل حال، فقد وصل الشيخ إلى مكة، وفور وصوله إليها، وأدائه فريضة الحج انتظم في حلقات العلم التي كانت تعقد بالحرم المكي الشريف، ثم انتظم في دار الحديث الخيرية.

والشيخ محمد بن عبدالله اشتغل في صدر عمره بعلوم متنوعة من فقه وحديث وتفسير ولغة وغير ذلك، وقد سمع الكثير، ورحل، وجمع، وكان ورعاً زاهداً يحاسب نفسه على الأوقات، ولا يدع وقتاً يمضي بغير فائدة، ولا غرابة في ذلك، فقد أخذ العلم على يد علماء أجلاء فيهم الشيوخ: عبد الرزاق حماة، وأبو محمد عبد الحق بن محمد الهاشمي المكي، وسلطان معصوي بخاري، وأبو سعيد الباكستاني، ومحمد شؤيل المصري، ومحمد حامد الفقي، وقد أخذ عن هؤلاء العلماء وغيرهم أمهات كتب السنة، والتفسير وعلومه، وعلم العقيدة لاسيما كتب العلامة المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي – رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة.

وكان الشيخ محمد بن عبد العزيز يتميز بمعرفة علم رجال الحديث، إذ كان بارعاً متفنناً فيه، وخاصة رجال جامع الصحيح للبخاري، وقد وضع أحد طلابه وهو الشيخ فهد الكشي كتيباً سماه: “المفيد في الرجال المذكورين في صحيح البخاري”، يتحدث عن طريق تمييز أسماء الرجال المشتبه بناء على ما استفاده من حلقة الشيخ العلمية.

ومثل ذلك أشار إليه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في كتابه “المقترح في علم المصطلح”، كما وصفه العلامة المحدث الطحان بأنه “أعلم الناس بعلم الحديث في منطقة الحجاز”، لأنه وسع الحديث الكثير، إذ كان يضبط الضبط الصحيح.

وقد تخرج الفقيد في دار الحديث الخيرية عام 1365هـ، وعين مدرساً في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية عام 1377هـ، وتتلمذ على يديه – رحمه الله- عدد من طلبة العلم لا حصر لهم سواء حين كان مدرساً بدار الحديث، أو حين كان يلقي الدروس في المسجد الحرام بانتظام.

وكان يواظب على حلقاته العلمية ويحضرها نخبة من العلماء الأفاضل: مثل الشيخ محمد بن عبد الله السبيل – رئيس قسم شؤون الحرم المكي والمسجد النبوي، وإمام وخطيب المسجد الحرام- والشيخ يحيى بن عثمان الهندي – من علماء الحجاز في زماننا هذا، وله حلقة علمية في المسجد الحرام حتى الآن، والشيخ مقبل بن هادي الوادعي أحد أبرز علماء اليمن، والشيخ أحمد ولد الحبشي مدرس جامع الأنوار في عاصمة إثيوبيا بأديس أبابا، والشيخ محمد الجيش، والشيخ عبد الله بن الشيخ عمر، والشيخ محمد خير بن عمران حسن، وغيرهم كثير.

وبموت الشيخ المحدث محمد بن عبدالله يستمر جرح الأمة الإسلامية، ويتعمق بفقدان كوكبة من العلماء الأجلاء في عالمنا الإسلامي خلال سنة واحدة وهذا قدر من الله سبحانه وتعالى، والموت حتم وواقع لا مفر منه مهما عاشت النفوس وكانت الشخوص. قال الشاعر:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته   يوماً على آلة حدباء محمول

وقد اشتهر الراحل بالزهد الواسع، وعدم حبه للظهور متأثراً في ذلك بشيخه عبد الرزاق حمزة، وقد أنفد جل أوقاته في نشر العلم، وإلقاء الدروس حتى حين صار إلى السرير عجزاً وشيخوخة، كما كان إماماً جليلاً زاهداً، ورعاً متقشفا، على طريق السلف رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

رحم الله الشيخ محمد بن عبد الله بن حسن المكي الأوجاديني الصومالي، وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وطلبته الصبر والسلوان.. “إنا لله وإنا إليه راجعون”.


[1]مجلة المجتمع الكويتية في عددها 1384 في 12 شوال عام 1420ه الموافق 18 يناير سنة 2000م؛ وانظر أيضا هذه الترجمة في الموقع http://www.odabasham.net/print.php?sid=63418&cat=

وانظر أيضا جريدة البلاد في عددها 15868 في يوم الخميس 22 رمضان عام 1420م

وانظر الموقع http://majles.alukah.net/t132207/

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى