الشهادات المزوّرة: مشكلة عالمية  

في مقال نشرته جريدة ذي غاردين البريطانية في شهر أكتوبر  عام ٤..٢م ، ذكرت أن أحد صحفييها تمكّن من الحصول على شهادة جامعية في الطب من جامعة أكسفورد ” من أفضل خمس جامعات في العالم ”  وبكالوريوس في الآداب من جامعة أخرى وشهادات الثانوية العامة باسم طالب كان ينتظر نتيجة الامتحان عن طريق موقع يبيع الشهادات المزورة .

وذكر راديو الرابع في شبكة بي بي سي في برنامج  أذيع في شهر يناير ٢٠١٨م بأنه حصل على وثائق تدل على أن الآلاف من حاملي الجنسية البريطانية دفعوا آلاف الدولارات من أجل الحصول على شهادات مزورة في مجالات مختلفة ومنها شهادات عليا في الطب والتكنولوجيا ، وفي عام ٢٠١٥م  ، باعت شركة واحدة  أكثر من (٢١٥٠٠٠ ) مؤهل مزيف على مستوى العالم  وحصلت مقابل ذلك على  ٥١ مليون دولار .

وفي مقال نشرته مجلة غلوبل تايمس في شهر مايو ٢٠١٥م  ، وكان عنوانه “الشهادات المزيفة تسبب مخاطر حقيقية في جميع أنحاء العالم ” وجاء فيه :  أن أطباء غير مؤهلين قاموا بتشخيص مرضى بصورة قاتلة ، كما تسبب أطباء شرعيين وعلماء نفس مزيفين في إرسال أناس إلى السجون بعد أن شهدوا أمام المحاكم  بصورة  خاطئة ، وخسرت شركات بملايين الدولارات أمام القضاء بعد أن تبيّن أن مؤهلات موظفيها مزيفة.

الشهادات المزورة مشكلة عالمية عابرة للحدود والقارات وما من بلد من بلدان العالم إلا ويشتكي منها ، ولكن هناك اختلاف في كيفية محاربتها والقضاء عليها وسجن مروجيها وفضحهم من دون مواراة ، فكثير من الدول لا تتسامح مع هذه الفعلة الشنعاء ، في وقت ما زالت  دول أخرى  تغض الطرف عن ملاحقة حاملي الشهادات المزوّرة .

كثير من مآسي ومشاكل دول العالم الثالث تكمن في عدم مبالاة السلطات في تحقيق صدقية الشهادات أو أهلية حامليها بل الفساد والمحسوبية التي تنتشر في مفاصل الدول من الهرم إلى الأسفل قد يُشجع في انتشارها، بل الشهادة المزورة عالية الدرجات تتفوق على الشهادة الحقيقية.

وهذه الشهادات المزيفة آفة ومصيبة على النظام العام وسبب رئيسي للتأخر وعدم النهوض، لأن حاملها كلابس ثوبي زور، وإذا تولى منصبا رسميا أو أهليا لا يتورع عن ارتكاب مخالفات تعود ضررها على المجتمع.

المدرس المزوّر لا يخرّج إلا تلامذة فاشلين، والسياسي الذي اشترى الشهادة لا يبني وطنا، والمتطبب الكذّاب يُصعب حياة الناس وهلمَّ جرا.

وقد تحدث العلامة علي الطنطاوي رحمه الله تعالى في مقاله المسمى ” ريع اللصوص ” عن لصوص المعرفة فقال فيه ” التلميذ الذي يسرق الجواب في الامتحان ، إنه حين يسرق بعينه من ورقة جاره أكبر ذنباً من الذي يسرق بيده من جيبه ، لأن سرقة المال يزول أثرها بردِّ المال ، ومن سرق الجواب ونال الدرجة زوراً ، ثم أخذ بعدها الشهادة زوراً ، ثم نال المنصب زوراً ، يستمر أثر جريمته دهراً ، وربما صار بشهادته معلماً وهو غير عالم ، فنشأ على يديه الآثمتين جماعة من الجهلاء ، فيكون كحامل جرثومة المرض يعدي من يتصل به ، ومن أعداه ذهب فأعدى سواه ، فسرى المرض في جسد الأمة ” .

لم تعد اليوم الشهادات المزورة تنحصر في باب العلم التجريبي أو النظري الذي أجادته وطورته قريحة الإنسان بل انتقلت إلى ميدان العلم الشرعي، فهناك مئات من معاهد وجامعات لا وجود لها إلا بالاسم ، أو موجودة ولها مراكز ومقرات ولكن مستواها التعليمي متدن ولا يرقي إلى الشروط المطلوبة في التعليم الجامعي تُخرّج  في كل سنة آلاف من الطلبة وتمنحهم شاهدات عليا في الدراسات الإسلامية ، من غير اكتراث لما يترتب على ذلك من مشاكل عامة وخاصة .

وللمعلومية أن دارس العلم الشرعي لا يشترط في أهليته العلمية أن يكون حاملا شهادة رسمية من مصدر موثوق به ، بل يكفيه أن يثني ركبتيه أمام شيخ وعالم في أي مجلس كان ، في المحضرة أو المسجد أو المدرسة أو المعهد أو الجامعة أو غير ذلك من محاضن العلم والمعرفة ، وقلّ أن يوجد طالب علم شرعي يدعي كذبا وزورا بأنه درس وتتلمذ على الشيخ الفلاني ، ولكن من السهل أن لا يرى بأسا بأن يستلم شهادة غير مكتملة الأركان من مؤسسة ما بعد دفع مبالغة مالية ، متعللا  بأن اشتراط الشهادة في مجال علوم الشريعة فهي مكيدة من أعداء الإسلام لتحجيم العلم الشرعي ، ولكن لو سلمنا صحة ما يدعيه فهل يبيح ذلك استخراج شهادات مزوّرة .

الشهادات المزوّرة في العلوم الدنيوية وإن كان ضررها كبيرا إلا أنها أقل جرما من مثيلاتها في أبواب العلم والشرع لأنها تفسد حياة الإنسان دنيا وآخرة، وتجعل الجهال وأشباه العلماء يتجرؤون على باب الفتوى والتوجيه .

قيل إن طالبا في المرحلة الأخيرة من الجامعة سأل أحد العلماء الأذكياء عن تعريف شهادة الزّور ، فما من العالم إلا أن تنبه لخطورة الموقف فأجاب قائلا: ” هي الشهادة التي ستمنحك الجامعة بعد شهور “.

ومن أغرب هذا الزمان أن جامعات لا تملك مقرات ولا ميزانيات تقوم بافتتاح فروع لها في طول وعرض العالم الإسلامي وتمنح أعلى شهادات جامعية كالدكتوراه مثلا ، وهو أمر من الصعب تفسيره لماذا تفعل ذلك .

لم يقتصر التزوير في الشهادات فقط بل عرج إلى الألقاب والمناصب العلمية كالأستاذية ( البروفسور) والدكتور والعلامة والسماحة وغير ذلك ، وأغرب من ذلك ألا ترى من يجحد أو ينكر ذلك الإدعاء .

انتشار الشهادات المزوّرة في الصومال حكاية لا نهاية لها، ولم تخرج إلى العلن بعد سقوط الحكومة المركزية قبل ثلاثين عاما بل كانت موجودة قبل ذلك ، ولكن انتشر خبرها وراج سوقها بعد ذلك ، لأنها أصبحت شرطا في تولى  الوظائف العامة والخاصة ودخول البرلمان وغير ذلك من الأعمال .

وبسبب ووجود نظام قبلي أصبحت الشهادة المزوّرة تتقدم على الشهادة  الصحيحة التي لا تجد موقع قدم في الوظائف العامة  ما جعل البلد يتحول إلى كومة من التخلف والجهل .

وأخيرا لا يمكن محاربة الشهادات المزورة إلا إذا وجد نظام سياسي يعمل من أجل خدمة بلده ورعاية مصلحة شعبه ويضع الأنظمة المرعية فوق مصالح الأشخاص والأحزاب ، وإلى ذلك الحين فمزيد من التزوير والتأخر! .

د.عبدالباسط شيخ إبراهيم ميلو

الاثنين ٩/٣/١٤٤٢ه

٢٦/١٠/٢٠٢٠م

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى