الاستئناس بالتراث من وحشة الحياة

 

لو لم يكن للقراءة فائدة الا الهروب إليها من هذا الواقع المزري في عالمنا اليوم لكان ذلك غرضا شريفا كافيا، فحين تتقلب الموازين، وتفقد المفاهيم معناها، ويصبح الخداع سياسة، والنفاق دبلوماسية، والكذب فصاحة، والغباوة ذكاء، والكبر اعتداد بالنفس، والشهادة علم، والاستكانة تطبيع، والعدو صديق، والصديق عدو، والجريمة شجاعة، والرئاسة رشوة، والفن عهر، والدين لباس، فحينئذ لم يبق للإنسان إلا أن يلجا إلى ماضيه المجيد وحضارته الزاهرة؛ علّه يخفف عنه بعض الضيق الذي بجد في صدره، يحادث العلماء في حلقاتهم، ويجالس الأدباء في نواديهم، وينادم الخلفاء في أسمارهم، ويرى اللغويين يجوبون في البوادي يجمعون اللغة من أفواه الأعراب، ويصغي إلى أهل الحديث في توثيقهم للنصوص ونقدهم للمرويات، ويحضر سجالات علماء الكلام ومناظراتهم، ويقرا الألغاز النحوية ويتصفح الحيل الفقهية، ويسمع الشعراء يغنون أشعارهم، ويجالس الخليل وهو يكتب معجمه اللغوي الضخم الذي أبدعه ونظمه على غير نظام سابق.

يحادث الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) وما حواه من عجائب البيان، وجميل النثر، وبديع النظم، وروائع القص، وبليغ الخطب، ويقصد ابو حيان التوحيدي ويمتع نفسه بأحاديثه الشيقة مع الوزير ابي العارض في كتابه الامتاع والمؤانسة، محدثا عن الحياة الاجتماعية والثقافية واعلام عصره في اُسلوب ادبي ممتع، يخلب الألباب، ويعلم العقل، ويقوم اللسان والقلم. ويمرّ على ابن مالك، وهو ينظم ألفيته الرائعة، ويخبره ما لقيت الفيته من القبول والانتشار، فيرى أسارير وجهه تبرق قائلا: ذلك من فضل ربي، قلت في مقدمك نظمي: ( واستعين الله في الفية .. مقاصد النحو بها محوية) فاعانني الله ومنح لنظمي قبولا وحظوة. ويشاهد الغزالي وهو مشمر للرد على الفلاسفة، فترى هناك علم خالص وعقل محض في صورة انسان.

وإذا شعر مللا من الفلسفة وتعقيداتها عرج الى الحريري ومقاماته وما أودع فيها من درر النثر وجواهر النظم وجزالة اللفظ ورصانة الأسلوب، يرتوي من ثراء رواية الحارث بن همام، وينهل من نوادر ابي زيد السروجي، أعجوبة الزمان، يضحك ويبكي، ويهزل ويجد، ويعظ ويسخف، فله في كل حالة شارة، ويتقلب مع الزمان كيفما تقلب. واذا أراد بكى واستبكى ووقف واستوقف مع امري القيس في ذكرى حبيبه، وان شاء جاب مع المتنبي في صحاريه متنقلا بين الملوك، ووعى الحكم المنثورة من فيه، وان شاء عاج الى ابى نواس وطرب معه في مجونه في أسمار بغداد، وإن رغب زار المعري رهين المحبسين في سجنه في بيته، وجنى من أزهار ما ينشده لنفسه في محبسه من اللزوميات وإلزامه نفسه ما لا يلزم، وإن ضاقت نفسه من تشاؤم المعري وشكوكه وزهده عن الحياة، هرع الى عمر بن ربيعة فتى قريش المدلّل، وغزله الصريح العذب المتهتك بعذارى مكة ذوات الأحساب والشرف والثراء والجمال.

فاذا لم يعجبك التشبيب الصريح، فما عليك الا أن تميل مع الحب العفيف مع الشعراء العذريين، الحب للحب، والعشق للعشق، سمو عن الشهوات الذاتية، وارتقاء الى سماء الحب الخالص الذي لا يشوبه شائب من المتعة الجسدية ولا الهوى العارض، وان خفت على نفسك، واحسست في قلبك رقة في الدين وغفلة عن يوم الجزاء، فهلمّ الى ابي العتاهية واشعاره في التنسك وزهده عن زخرف الحياة. واذا أردت ان تخرج من التشاؤم والتفاؤل ومن الأمل واليأس ومن الفرح والحزن ومن الضيق والانشراح ومن كل الأضداد، دلفت الى رواق رابعة العدوية سيدة العاشقين، حيث الحب الخالص والعشق السرمدي، فلا أضداد ولا تناقض، ولا تفاؤل ولا تشاؤم، وانما التناسق والتوافق، والتكامل والانسجام.

وهكذا تخرج من جد الى هزل، ومن تشاؤم الى تفاؤل ومن غزل صريح الى غزل عفيف وما شيت من الأغراض والمعاني التي لا نهاية لها، واجدا في ذلك كله لذة لا تساويها لذة، ومتعة لا توازيها متعة، ولولا هذ اللذة والمتعة التي نجدها في تراث علمائنا في أيّام زهوها وعزتها وحضارتها لكانت حياتنا جحيما لا تطاق، ولكن الله منّ علينا بفضله، وأتاح لنا بمنّه فرصة العودة الى هذا الماضي المضيئ، نفرّ اليه من هذالعبث الذي يحيطنا من كل جانب، ونقتبس من نوره ، ونستهدي بضيائه في خضم هذا الليل الدامس، ونستانس به من وحشة هذه الحياة المضطربة بأنواع البلاء والآفات.

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى