أين نحن من القراءة…؟؟

 “اقرأ” كانت أولى كلمة تلقاها رسولنا محمد عليه السلام من لدن حكيم عليم ، وكانت هذه الكلمة توجيهاً حضارياً ودعوة صريحة لهذه الأمة أن تبني كيانها المجيد وهويتها المقدسة على العلم والمعرفة ،  فمعرفة الخالق قبل كل شيء ً، ثم تلي بقية العلوم المادية أو الدنيوية حسب مكانتها وأهميتها لدى البشر وحاجته إليها . ولا خلاف بين الأمم ماضيها وحاضرها في ضرورة القراءة ، وأهميتها في نهضة البشرية جمعاء ، وبناء الحضارات ، وتنمية العقول وتطوير أصحابها نحو مستقبل مشرق . ومعلوم أيضاً أن القراءة إحدى أهم المهارات اللغوية وبدونها لا يمكن التعليم ولا التعلم الجيد ، إذ لا شك أن للقراءة أهميةً كبرى لمكونات الفرد المتعلم ثقافياً ، وبالأخض نحن الآن في عصر يسود فيه صراع حضاري وآخر ثقافي وبمضمر ذلك تنسجم الأحوال إلى تسابق معلوماتي بين تلك الحضارات المتنافسة للهيمنة على مجريات العصر.

هذا ولا أظن أننا بحاجة إلى الحديث عن فوائد وأهمية القراءة لدى الفرد، ولكن باعتقادنا نحن المسلمين تكفي للقراءة أهمية أن ابتدأ الله بها وبصيغتها الطلبية ” اقرا باسم ربك الذي خلق ” في حين باكرة نزول الوحي على صاحب الرسالة الخالدة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهي أولى أية نزلت من القرأن الكريم وتزمر من مضامينها أهمية العلم واهتمام البالغ الذي أعطاه الله القراءة قبل كل شيء. 

وتعتبر مهارة القراءة وسيلة لتعميق التفكير الإنساني وتقوية أفكاره بغض النظر عن حيثياتها، وتلعب دوراً كبيراً في ترقية القدرات العقلية والابتكارية والنفسية لدى القرّاء ، فمن المعروف أن كل الناس تقريباً لديهم الملكة أو القدرة على القراءة باستثناء المعاقين عقلاً أو عضواً، علماً بأننا قصدنا الناس هنا الشريحة المتعلمة ، وقد تتباين هوايات هؤلاء بحسب طبائعهم وانطباعاتهم تجاه القراءة ، مع العلم بأن الهواية في حد ذاتها تتطلب إلى تنمية ومنح رعاية خاصة وإلا يفقد الفرد هذه الملكة نتيجة عيوب في تنميتها وعدم منحها قدراً كافياً من الاهتمام .

ومن هنا قد لا يدرك البعض أهمية القراءة وضرورتها والاستفاذة من نتائجها في ظل التطور التقني والتسابق المعلوماتي عبر المراكز العلمية النوعية ، وعبر القنوات أو الفضائيات والشبكات الدولية للمعلومات ، وقد أصبح الصراع صراعاً معلوماتياً بين الأمم ، إذ تقاس ثروة الأمم بما تكتنزه عقول أبنائها من معارف ومعلومات وتقنيات لا بما تختزنه أراضيها من معادن وبترول، ولا ننسى أيضا أن ارتفاع نسبة الكلمة المطبوعة ما قبل العولمة كان هو الأساس الحضاري لتصنيف البلدان إلى متخلفة أو نامية أو متقدمة ولكن أين كان موقعنا عن هذا المقياس؟!

عند ما وصل العالم إلى هذا التطور التقني الهائل أصبح بإمكانك أن تلتحق بأرقى الجامعات في العالم التي يؤطرها أشهر الأساتذة ، وتحصل منها على شهادة معترف بها دون أن تغادر منزلك أو تتخلى عن عملك، وفي حين كان الوضع قبل خمس عشرة سنة إذا أردت أن تحصل على شهادة جامعية أو أن تحسن معلوماتك لتواكب التقدم العلمي كان عليك أن تغترب وتتخلى عن عملك وتفارق أهلك وبلدك ، وتلتحق بإحدى الجامعات لاستئناف دراستك مهما كان مستواها العلمي هزيلاً.

 لكن مع هذه الطفرة المعلوماتية التي وصل إليها العالم فإن الأجيال دون المستوى المطلوب وباستثناء قلة قليلة منها، بل إن شبابنا اليوم يعاني عقماً ثقافياً ونقصاً معلوماتناً أو أنيمية معلوماتية – إن صح التعبير.                       ومن ضمنهم خريجوا الجامعات وغيرهم ممن نال الشهادات العليا ومع احترامي الشديد لهم ، وهذا ما قد يستغربه الكثيرون ، وربما اعتبروه غير صحيح … مستندين في ذلك إلي وجود هذا الكم الهائل من المدارس والمعاهد والجامعات ، علي اختلاف اختصاصاتها العلمية ، وإلى الأفواج التي لا تكاد تحصى من الطلبة في بلاد المسلمين .. إن اختلاف وجهة نظرنا مع هؤلاء لا ينطلق من معارضة في أرقام عددية للمعاهد والجامعات ، أو للطلبة والمتخرجين ، فنحن لا نناقش في الكمّ والعدد ، ولا ننكر وفرة المؤسسات التعليمية ، ولكنه مع كل ذلك فإن المستوي العلمي في عصرنا قد تدنّي وهبط ،  والسبب في ذلك أن قرائتنا لم تكن تكتسب لعمق غرضي، وإنما لغايات أخرى لا تجدي كثيراً في عالم المعلومات كاجتياز الامتحانات أو مجرد نيل شهادة أياً كانت نوعها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: فهل كل من نال الشهادة عالم؟!!

 فالإجابة متروكة للواقع ، ولكن مما لا شك فيه فإن درجة النتاج هنا ستكون متدنية، ما دامت أجيالنا هاجرت القراءة والاطّلاع بعد أن هبّت عليهم رياحُ التثقف من هنا وهناك ، واكتفو بالمذكرات المقررة على الفصول الدراسية دون الرجوع إلى المصادر والمراجع الرئيسة والأصلية ، وكأنّ لسان حالهم يقول:  وداعاً أيّتها القراءة …!!

 ولكن دعنا نكشف هنا أسرار بعض الأقلام حول مشكلات القراءة عند الشباب ، فقد تبين في استبان منظم أجري لمعرفة مشكلات القراءة عند الشباب في إحدى الجامعات العربية أن 21% ممن شاركو في الاستبيان لا يقرأونمطلقاً باستثناء مقرراتهم الدراسية، وهناك 20% آخرون يقرأون مراجع في ميدان اختصاصاتهم فقط ، أما درجة القراءة عند القرّاء فهناك 26% يقرأون أقل من ساعة يومياً، ونحو 35% ما بين ساعة وساعتين ، في حين أن الذين يقرأون أكثر من أربعة ساعات يومياً لا تتجاوز نسبتهم 2% . هذا وقد كشف تقرير للشبكة العربية لمحو الأمية وتعليم الكبار عن وجود نحو72 مليون أمي في سن الإلزام خارج منظومة التعليم النامي ، إذ تشير الدراسات إلى متوسط ساعات القراءة في بعض الدول الأوربية يصل إلى 200 ساعة سنوياً بينما تنخفض هذه الساعات وتتقلص إلى 6 ساعات سنوياً للفرد العربي.

  وفي إحصاءات سابقة  عن منظمة يونيسكو تبيّن أن نسبة الأمية المعلوماتية في الوطن العربي لا تزال تزيد على 74% ، وقد تنفق الدول المتقدمة ما بين8-10 من دخلها العام على البحث العلمي والتقني في حين أن إنفاق الدول الإسلامية والعربية لا يتعدى 1,2% هكذا حالنا إسلامياً وعربياً…..! ويا للأسف بما نحن فيه… وسيدوم الأسف ما دام بعض شبابنا يتطلع بنظره إلى البلاد الأجنبية المتقدمة علمياً وفي ظل عصر ظهرت فيه أهمية المعرفة والمعلومة وغير ذلك من المخترعات الحديثة التي وضحت أهميتها في كثير من مجالات الحياة ، وقد تأثر هؤلاء الشباب بما حققته تلك الدول من تقدم في العلوم والمعارف، ولعلهم من غير رصيد كاف من الوعي والعلم أو المعلومة يواكبهم على هذا التقدم الجارف ، مما دعاهم إلى محاولة تقليد شعوب هذه الدول في عاداتهم الاجتماعية وسلوكهم ظنّاً منهم أن هذه العادات والتقاليد هي التي أوصلتهم إلى هذا التقدم العلمي الكبير، ونود أن نقول لهؤلاء الملهوفين بانبهارالتقدم الغربي أن يرجعوا بنظرهم قليلاً إلى الوراء ليعرفوا أن نواة علوم الغرب بزغت في دول الشرق فهي علوم المسلمين الأوائل الذين نبغوا في مجالات العلوم كافة فهموا قول الله عز وجل:( اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم )   وانطلقو من مبدأ ديني قوامه (واتقو الله ويعلمكم الله) .. بهذا قرأوا واطّلعوا وجرّبوا كثيراً ثم اتّقوا الله وعبدوه، فهداهم الله إلى كثير من العلوم التي ما زالت تدرس بعضها في المحافل العلمية بأوروبى حتى الآن.

ولكن في مرحلة تالية حلّت بالمسلمين عوامل عديدة أدّت إلى انشغالهم بمشاكل بلادهم وسلطانهم وأنفسهم ، في حينها عكف الغرب على تطوير العلوم الإسلامية والسعي نحو الاكتشافات العلمية التي تحقق له مزيداً من الهيمنة والقوة ، وها نحن نرمق أعينَنا إليها. وأرجو ألّا يفهم عزيزي القارئ بأني قد أرفض التقليد أو التشبه بالغير من جميع أشكاله ، بل إن التَشبُّه بالغير في الأمور الحسنة مطلوب، ولكن الرفض في التقليد الأعمى بالغرب بحيث تكون نتيجته غير مفيدة بل وتؤدي في أغلب الأحيان إلى أحوال لا تحمد عقباها ، حتى لا يكون الأمر كذلك ، فاعلم أيها الشاب ويا أيها طلاب الجامعات، ويا حاملي الشهادة العليا أن الجامعات والمعاهد والمدارس لا تقدّم علماً كافياً ، وإنما تعطي المفاتيح وتمهد الطريق للتعليم والتعلم ، إذن حاول أن تكوّن نفسك وأن تقدّم بالتعليم الذاتي بل عليك أن تشمّر عن ساعدك وتجتهد فتحسن علاقتك مع الكتب النافعة لتنهل العلم منها ومع هدف، ثم تقوم ببناء مجد أمتك وتسهم في تنمية أجيال المستقبل ، وأن القراءة العميقة والاطّلاع الواسع هما العلاج لدحر النقص المعلوماتي الذي تعانيه أمتنا ولا ننسى أيضا فإنه خيرُ جليسٍ في الزمان كتاب ، والكتاب هو الذي مجد حضارة ماضينا ولهذا نقول:

   فيا أمة الإسلام لا تتنكري                  فأساس كل حضارة  ماضيها  

الدكتور فوزي محمد بارو ( فوزان )

الدكتور/ فوزي محمد بارو (فوزان)، رئيس جامعة أطلس الصومالية، كاتب وباحث أكاديمي متخصص في مجالي التربية واللغويات، عمل رئيس تحرير لمجلتي "لسان العرب والوطن" في السودان، ومديرا عاما لمركز الفاروق للتعليم والتنمية بالصومال، ومديراً إقليمياً للجنة مسلمي إفريقيا مكتب الصومال، عمل محاضراً وباحثاً بجامعتي إفريقيا العالمية بالسودان، وجامعة السميط بتنزانيا، ورئيس قسم البحوث والنشر بمركز البحوث والنشر والاستشارة بزنجبار، وعميداً لكلية الآداب والدراسات الاجتماعية بجامعة السميط بتنزانيا، وهو عضو مؤسس بجامعة دار الحكمة بالصومال، ويعمل حالياً مستشارا وعضواً في عدد من الهيئات المحلية والعالمية، وله العديد من المقالات والبحوث والكتب في مجالات العلم المختلفة.
زر الذهاب إلى الأعلى