النفس الانسانية في القران الكريم 

قبل الحديث عن النفس كما هو مطلب البحث هنا، نُشِير أولًا إلى تعريفِ النفس في اللغة والاصطلاح، وقد ذكر أهل اللغة العربية للنفس كثيرًا من المعاني، بعضها له صلةٌ بما أريد الإشارة إليه، وهو الحديث عن النفس الإنسانية التي تُكوِّن الشخصية وتؤثر في سلوكها، وبعضها الآخر بعيدٌ عمَّا وددتُ الإشارة إليه، وسوف أكتفي هنا بذكر بعض هذه المعاني تحت العنوان التالي:

النفس بين اللغة والاصطلاح وألفاظ القرآن:

بعض تعريفات النفس في اللغة:

أولًا: النفس بمعنى الروح، يقال: خرجت نَفْس فلان؛ أي: روحه[1]، ومنه قولهم: فاضَتْ نَفْسه؛ أي: خرجت روحه[2].

ثانيًا: النفس بمعنى “حقيقة الشيء وجملته، يقال: قتل فلانٌ نَفْسه؛ أي: ذاته وجملته، وأهلك نَفْسه؛ أي: أَوقَع الإِهلاك بذاته كلِّها[3]، ومنه قول صاحب الصحاح “والتكبر: هو أن يرى المرء نَفْسه أكبر من غيره”؛ أي: ذاته[4].

ثالثًا: النَّفْس بمعنى “الحسد، والعين، يقال: أصابته نَفْسٌ؛ أي: عَيْن[5]، والنافس العائن.

رابعًا: النفس بمعنى الدم، وذلك أنه إذا فُقِد الدم من الإنسان فَقَد نَفْسه؛ أو لأن النَّفْس تخرج بخروجه، يقال: سالت نفسه، وفي الحديث: ((ما ليس له نفس سائلة لا يُنجِّس الماء إذا مات فيه))[6].

خامسًا: النفس ما يكون به التمييز، والعرب قد تجعل النفس التي يكون بها التمييز نفسين؛ وذلك أن النَّفْس قد تأمره بالشيء وتنهَى عنه، وذلك عند الإقدام على أمر مكروه، فجعلوا التي تأمره نَفْسًا، وجعلوا التي تنهاه كأنها نفس أخرى[7].

سادسًا: النَّفْس بمعنى الأخ[8]، وشاهده قول الله تعالى: ﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ [النور: 61].

وجمع النفس: أنفُس ونفوس، أما النَّفَس، فهو خروج الهواء ودخوله من الأنف والفم، وجمعه أنفاس، وهو كالغِذاء للنَّفْس؛ لأن بانقطاعه بطلانَها.

تعريف النفس في الاصطلاح:

قال صاحب كتاب التعريفات: “النَّفْس هي الجوهر البخاريُّ اللطيف، الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية، وسماها الحكيم: الروح الحيوانية، فهو جوهرٌ مشرق للبدن، فعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه، وأما في وقت النوم، فينقطع عن ظاهر البدن دون باطنه”[9].

تعريف النفس عند العلماء المعاصرين:

ذكر العلماء المعاصرون للنفس عدةَ تعريفات؛ منها: أن النفس “هي جوهر الإنسان، ومحرك أوجه نشاطه المختلفة؛ إدراكيةً، أو حركية، أو فكرية، أو انفعالية، أو أخلاقية؛ سواء أكان ذلك على مستوى الواقع، أو على مستوى الفهم، والنفس هي الجزء المقابل للبدن في تفاعلهما وتبادلهما التأثير المستمر والتأثر، مكونين معًا وحدةً متميزة نطلق عليها لفظ (شخصية) تُميز الفرد عن غيره من الناس، وتؤدي به إلى توافقه الخاص في حياته”[10].

معاني النفس في القرآن الكريم:

وردت (النَّفْس) في القرآن الكريم في مواضع عديدة، وتعدَّدت معانيها بحسب سياق الآيات الكريمة الواردة فيها، ومن هذه المعاني:

أولًا: النفس بمعنى الرُّوح، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]؛ أي: تتركون، ويقال: خرجت نَفْسه، خرجت رُوحه، والدليل على أن النفس هي الروح قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ﴾ [الزمر: 42]؛ يريد الأرواح[11].

ومنه قوله تعالى: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ﴾ [الأنعام: 93]، ولك أن الكافر إذا احتُضِر بشَّرتْه الملائكة بالعذاب والنكال، والأغلالِ والسلاسل، والجحيم والحميمِ، وغضب الرحمن الرحِيمِ، فتتفرَّق رُوحه في جسده، وتعصى وتأبَى الخروج، فتَضْرِبهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: ﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93]؛ أي: اليوم تُهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذِبون على الله، وتستكبرون عنِ اتِّبَاعِ آياته، والانقياد لرسله[12].

ثانيًا: النفس بمعنى الإنسان؛ أي: الشخصية البشرية بكامل هيئتِها، وهي الإنسان بكامل دمه ولحمه وشخصيته، وهذا كثير وغالب في القرآن، فمِن ذلك الآيات التالية:

قال الله تعالى مخاطبًا الناس عامة وبني إسرائيل خاصة، بأن يحذروا يوم الحساب ويعملوا صالحًا، وأن الإنسان يأتي ربه في ذلك اليوم فردًا ولا تنفعه شفاعة الشافعين: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 48]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ﴾ [آل عمران: 145].

وقد شاع استعمالُ النَّفْس في الإنسان خاصة؛ حيث تطلق ويراد بها هذا المركَّب والجملة المشتملة على الجسم والروح[13]، ويظهر هذا في غيرِ ما سَبَق، في قوله تعالى أيضًا: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴾ [القصص: 33]، والمقصود هنا الرجلُ الذي قتله موسى عليه السلام في أرض مصر؛ يعني الرجل القبطي.

ثالثًا: النفس بمعنى القوى المفكرة في الإنسان (العقل):

ومنه قوله تعالى: ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾ [المائدة: 116]؛ قال الطاهر بن عاشور في تفسيره: “والنَّفْس تُطلَق على العقل وعلى ما به الإنسان إنسان، وهي الروح الإنساني، وتطلق على الذات، والمعنى هنا: تعلم ما أعتقده؛ أي: تعلم ما أعلمه؛ لأن النفس مقرُّ العلوم في المتعارف، وإضافة النفس إلى اسمِ الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يطَّلِع عليه غيره؛ أي: ولا أعلم ما تعلمه؛ أي: مما انفردت بعمله، وقد حسَّنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في الكشاف[14].

رابعًا: النفس بمعنى قُوى الخير والشر في الإنسان:

النفس بمعنى قوى الخير والشر لها صفات وخصائص كثيرة؛ منها: القدرة على إدراك الخير والشر، والتمييز بينهما، والاستعداد لهما؛ قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7، 8]، وقال سبحانه: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]؛ أي: بيَّنا له الطريقين، طريق الخير وطريق الشر، وهناك إلى جانب الاستعدادات الفطرية الكامنة قوةٌ واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان، فمن استخدم هذه القوة في الخير وغلَّبها على الشر، فقد أفلح، ومَن أظلم هذه القوة وجناها وأضعفها، فقد خاب[15]؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].

حقيقة النفس في القرآن الكريم:

بالنظر في التعريفات السابقة نرى القرآن الكريم يُحدِّث عن النفس، على أنها كائنٌ له وجود ذاتي مستقلٌّ، وبمعنى آخر فإن القرآن يخاطب الإنسان في ذات نفسِه، باعتبار أن النفس هي القوة العاقلة المدركة فيه، فيقول سبحانه: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7، 8].

ويقول جل شأنه: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 – 30].

ويقول سبحانه: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53].

ويقول: ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 18].

ويقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1].

ويقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ [التحريم: 6].

فالنَّفْس هنا وفي مواضع أخرى كثيرةٍ من القرآن، هي الإنسان العاقل المكلف، وهي الإنسان الذي يُتوقَّع منه الخير أو الشر، والهدى أو الضلال، ثم هي الإنسان بجميع مشخصاته جسدًا ورُوحًا.

إذًا فما النفس؟

يقول الدكتور عبدالكريم الخطيب في تفسيره – مجيبًا عن هذا السؤال -: والجواب الذي نعطيه عن هذا السؤال مستمَدٌّ من القرآن الكريم، بعيدًا عن مقولات الفلاسفة وغير الفلاسفة ممن لهم حديث عن النفس، وعلى هذا نقول: يُشخِّص القرآن الكريم النَّفْس ويجعلها الكائن الذي يُمثل الإنسان أمام الله، بل أمام المجتمع أيضًا؛ فالقتل الذي يصيب الإنسان هو قتل للنفس؛ كما يقول سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، ويقول جل شأنه: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32]، وفي مقام القصاص تحسب ﴿ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [المائدة: 45]،

وفي مقام التنويه بالإنسان، ودعوته ليلقَى الجزاء الحسن، تُخاطَب النفس وتُدعَى، فيقول سبحانه: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 – 30]، والنفس في القرآن هي الإنسان المسؤول المحاسَب: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ [آل عمران: 30]،

وإن بالفهم الذي يستريح إليه العقل في شأن النفس، هو أنها شيء غير الروح وغير العقل، وأنها هي الذات الإنسانية أو الإنسان المعنوي، إن صح هذا التعبير، إنها تتخلَّق من التقاء الروح بالجسد، إنها التركيبة التي تخلق في الإنسان ذاتيةً يعرِفُ بها أنه ذلك الإنسان بأحاسيسه ووِجدانه ومُدرَكاته، فالنفس هي ذات الإنسان، أو هي مشخصات الإنسان التي تنبئ عن ذاته، ولا نريد أن نذهب إلى أكثر من هذا، وحسبنا أن نُؤمِن بأن الروح مِن أمر الله، فلا سبيل إلى الكشف عنها؛ كما يقول سبحانه: ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85]،

 وأن النفس جهازٌ خفيٌّ عامل في الإنسان، فهي الإنسان المعنوي، ولهذا كانت موضعَ الخطاب من الله تعالى، كما أنها كانت موضع الحساب والثواب والعقاب[16]،.

فالنفس البشرية آية مبهرة من آيات الله تعالى في خلقه، سرها غامض وأغوارها تشي بتناقضات ومنازلَ ومهابطَ شتى بين القمم والسفوح، وقد نبَّه القرآن الكريم على البحث والتنقيب عن أسرارها قدر المستطاع؛ فقال الله تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، وذلك أمر في باب التبصر بالقلب لا مجرد النظر بالعين، تدبرٌ يُدرَك بالبصيرة النافذة إلى عمق النية لتزكيتها وإصلاح فسادها، فهذا هو الفلاح والنجاح الدائم الذي يورث رضا الله المولى؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 34 – 41]، وأقسم الله تعالى أقسامًا متتاليةً على فلاح من أنصفها بالتزكية، وعلى خيبة من تركها لهواها؛ فقال الله تعالى: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 1 – 10]، والنفس البشرية آية مبهرة من آيات الله تعالى، وهي لا تثبت على حال، ولا يقر لها قرار، متنقلة الأطوار بين معارجَ ومدارجَ بين الطاعات والمعاصي، والمرء لا يعرف على اليقين أين تكون نفسه؛ أفي مدرج علوي كالنفس المطمئنة أم في تسفل وانحطاط كالأمارة بالسوء.

وأغلى مراتب النفس هي النفس اللوامة؛ وهي التي أقسم الله بها فقال: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، فاختُلف فيها؛ فقالت طائفة: هي التي لا تثبت على حال واحدة، أخذوا اللقطة من التلوم، وهو التردد فهي كثيرة التقلب والتلون، وهي من أعظم آيات الله، فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة – فضلًا عن اليوم والشهر والعام والعمر – ألوانًا متلونة؛ فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتنيب وتجفو، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها؛ قال الحسن البصري: “إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا، يقول: ما أردت بهذا؟ لمَ فعلت هذا؟ كان غير هذا أولى أو نحو هذا الكلام”.

وقال غيره: “هي نفس المؤمن توقعه في الذنب ثم تلومه عليه، فهذا اللوم من الإيمان، بخلاف الشقي؛ فإنه لا يلوم نفسه على ذنب، بل يلومها وتلومه على فواته”؛ [ابن قيم الجوزية، الروح، ص: (298، 299)، مؤسسة جمال، بيروت؛ بتصرف وانتقاء].

وذكر القرطبي في الجامع: “وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر: لمَ فعلته؟ وعلى الخير: لمَ لا تستكثر منه؟”.

وقيل: “إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها؛ فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة، وهو صفة مدح؛ وعلى هذا يجيء القسم بها سائغًا حسنًا”، وقال الفراء: “ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانًا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته”؛ [الإمام القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ص: 93، ج: 8، ط: 1، 2003م، بتحقيق/ هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض].

وأما النفس الأمارة فهي النفس المذمومة التي تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له؛ كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، وقد امتحن الله سبحانه الإنسان بهاتين النفسين: الأمارة واللوامة، كما أكرمه بالمطمئنة، فهي نفس واحدة تكون أمارةً ثم لوامةً ثم مطمئنةً، وهي غاية كمالها وصلاحها، وأيَّد المطمئنة بجنود عديدة؛ فجعل الملك قرينها وصاحبها الذي يليها ويسددها، ويقذف فيها الحق، ويرغبها فيه، ويريها حسن صورته، ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه، ويريها قبح صورته، وأمدها بما علمها من القرآن والأذكار وأعمال البر، وجعل وفود الخيرات ومداد التوفيق تنتابها وتصل إليها من كل ناحية؛ [الروح، ص: 300؛ بانتقاء].

وقد استعاذ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من ظلمات النفس وأضرارها حينما تجنح إلى الأوزار والسيئات؛ فقال: ((… ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له…))؛ [أحمد شاكر في مسند أحمد (4/ 264)، وقال: إسناده صحيح عن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما].

والملاحظ في حياة الكثيرين من الناس أنهم مصطلحون بتمام المعنى مع أنفسهم، ولا يجدون فيها عوجًا لطلب الإصلاح والتقويم؛ لأنهم ينظرون إلى أنفسهم بعين الرضا، وحينما يفكر أحدهم في مراجعة نفسه، فإنه لا يحاسبها إلا في أبواب المال والخسارات والمرابح الدنيوية العاجلة، أما محاسبتها لعتابها وإصلاحها، أو تقويمها وتجهيزها للآخرة – فذلك على الناس لا على نفسه، فنفسه في ظنه لا تفتقر أي تقويم أو علاج؛ توهمًا كاذبًا أنه قد بلغ حد الكمال في الفهم والتربية، مع أنه ربما كان مأوى العلل، وإنما يحاسب الخلق على الذر ويرى الهباءة في عين أخيه، ولا يستشعر الجذع في عينه؛ من فَرْطِ ظلمه لنفسه وانتقاصه للناس، وذلك كله ثمرة مصالحة النفس.

في باب التقويم:

وفي باب تقويم النفس عليه أن يحذرها ويخشاها في توثباتها ومطامعها، وأن يزجرها بتذكر الموت والمصير المحتوم، وبالفضيحة بين الخلق في الدنيا والآخرة إذا ما دعته إلى ريبة أو اقتراف محرم أو اكتسابه، وألَّا يطعمها من كل مرغوب حتى ولو كان مباحًا، ففي حبس النفس ما تشتهي رياضُ السلامة والنجاة من الآفات على حد قول من قال:

ومن يطعم النفس ما تشتهي *** كمن يطعم النار جزل الحطب

وعلى المؤمن في باب التقويم أن يرغبها في فعل الحسنات، وارتياد آفاق الطاعات، ولا ينسى أبدًا أن يردد مقولة زوجة العزيز لما اعترفت على نفسها بحقيقتها؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]؛ حتى تنقاد له نفسه وتسجن في حدودها المشروعة؛ لأنها لو تُرِك لها العنان جمحت وشردت، وإن قُيِّدت بقيود الشرع فإنها تسير إلى هداها وعافيتها وسلامتها؛ قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله))؛ [سنن الترمذي (2459)، وقال: إسناده حسن عن شداد بن أوس رضي الله عنه]، وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بالمؤمنين؟ من أمِنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب))؛ [الألباني في السلسلة الصحيحة (549)].

مواقف رائدة في باب المحاسبة:

عن محمد بن عمر المخزومي عن أبيه قال: ((نادى عمر بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكثروا صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبض لي من التمر والزبيب، فأظل يومي وأي يوم، ثم نزل، قال عبدالرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن قمئت نفسك – يعني: عبت – قال: ويحك يا ابن عوف، إني خلوت بنفسي فحدثتني قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها قدرها))؛ [محب الدين الطبري، الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص: 259، ج: 2، ط: 1، 2000م، دار المنار، القاهرة]، ومن مواقف عمر بن الخطاب أيضًا في مراجعة النفس ما نقله ابن القيم قال: “ذكر الإمام أحمد عن جابر بن عبدالله أنه رآه عمر ومعه لحم قد اشتراه لأهله بدرهم، فقال: ما هذا؟ قال: لحم اشتريته لأهلي بدرهم، فقال: أوَ كلما اشتهى أحدكم شيئًا اشتراه؟ أما سمعت الله تعالى يقول: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ [الأحقاف: 20]”؛ [ابن القيم، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ص: 166، دار الكتب العلمية، بيروت].

ومن معاتبات النفس الجادة نقف على خبر حنظلة بن حذيم الحنفي رضي الله تعالى عنه قال: ((لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأْيُ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات))؛ [صحيح مسلم (2750)].

وبمثل ذلك كان أصحاب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يراجعون أنفسهم على الدوام، ويفرضون عليها غمار العزائم القوية حتى في أصعب الأوقات، حتى انقادت لهم؛ وهذه صورة بألوانها الطبيعية من أرض مؤتة يرويها والد عباد بن عبدالله بن الزبير الذي أرضعه رضي الله عنه يقول: “والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قُتل، فلما قُتل جعفر، أخذ عبدالله بن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، وتردد بعض التردد ثم قال:

أقسمت يا نفسي لتنزلنهْ

طائعةً أو لتُكرهنهْ

ما لي أراكِ تكرهين الجنة

إن أجلب الناس وشدوا الرنة

لطالما قد كنتِ مطمئنهْ

هل أنتِ إلا نطفة في شنَّهْ

وقال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه:

يا نفس إن لا تُقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صُليتِ

وما تمنيتِ فقد لقيتِ

إن تفعلي فعلهما هُديتِ

ثم نزل، فلما نزل، أتاه ابن عم له بعظم من لحم فقال: اشدد بهذا صلبك؛ فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما قد لقيت، فأخذه من يده فانتهش منه نهشةً، ثم سمع الحُطَمة في ناحية الناس فقال وأنت في الدنيا؟ ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قُتل…”؛ [الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 162)، وقال: رجاله ثقات].

يا كثير العفو عمن

كثُر الذنب لديْهِ

جاءك المذنب يرجو الـ

ــصفح عن جرم يديهِ

أما بعد؛ عباد الله:

لا طاقة للعبد بإصلاح نفسه وحده مهما بلغت همته دون إعانة من الله تعالى، فنستعين الله تعالى على نفوسنا في باب إصلاحها على الدوام؛ ففي النهار؛ كما روى زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: ((لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها وزكها؛ أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها))؛ [صحيح مسلم (2722)]، ونستعين الله تعالى على نفوسنا بالليل أيضًا؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: ((أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه، فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد، وهو يقول: رب، أعطِ نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها))؛ [الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 130)، وقال: رجاله ثقات].

وليلح العبد على طلب إصلاح نفسه من خالقه ومولاه، بل من الأحوط أن يكِلَ أمره كله إلى ربه صباح مساء، وألَّا يكون لأطماع النفوس ولا لوثباتها نصيب؛ فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: ما يمنعكِ أن تسمعي ما أوصيكِ به أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين))؛ [المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 313)، وقال: إسناده صحيح].

ونسأل الله تعالى أن يمنحنا الرضا والتقى والهدى، وأن يسكب في نفوسنا برد اليقين، وأن يورثنا دروب الصالحين في دنيانا، حتى نلقاه وهو راضٍ عنا، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، لك مماتها ولك محياها، والحمد لله في المبدأ والمنتهى.

فيا عباد الله:

لنتق الله تعالى بإصلاح البواطن والظواهر، ولنتقرب إلى الله بطيب المقاصد وحسن السرائر ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون ﴾ [1].

قال ابن الجوزي رحمه الله: وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني تارة، فخلوت يوماً بنفسي فقلت لها: ويحك اسمعي أحدثك إن جمعت شيئاً من وجه فيه شبهة، أفأنت على يقين من إنفاقه؟ قالت: لا.. قلت لها: فالمحنة عند الموت أن يحظى به غيرك ولا تنالين إلا الكدر العاجل والوزر، ويحك اتركي هذا الذي يمنع الورع لأجل الله، أَوَمَا سمعت أن من ترك شيئا لله عوضه الله خير منه [2]. وقال: وجدت رأي نفسي في العلم حسنا إلا أني وجدتها واقفةً مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها: فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف؟ أين الحذر؟ أَوَمَا سمعت بأخبار الصالحين في تعبدهم واجتهادهم.. أَوَمَا كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين ثم قام حتى تورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع؟ [3].

أيها الأخوة:

 (كم هي خطيرة تلك النفس لما لها من تأثير على حياة الإنسان ومصيره في الآخرة، فقد اتفق علماء السلف على أن النفس قاطع وحاجز بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنها لا تستطيع أن تصل إلى مرضاة الله عز وجل والنجاة يوم القيامة إلا بعد تهذيبها والسيطرة عليها، قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 – 10] [4]) وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد ﴾[5].

كم هي خطيرة تلك النفس لأن نتيجة صلاحها وفسادها لا يؤثر على حياة الفرد ومصيره فحسب، بل يؤثر على الأمة جمعاء، وصلاح الأمة مبداه من صلاح نفسك أيها الأخ المبارك: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾ [6].

قال ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى “قد أفلح من زكاها”: من زكى نفسه بطاعة الله، وطهرها من الرذائل والأخلاق الدنيئة [7].

فالتزكية تطهير للنفس من أدرانها وأوساخها الطبعية والخلقية، وتقليل قبائحها ومساويها، وزيادة ما فيها من محاسن الطبائع، ومكارم الأخلاق.

إن نظرة خاطفة متعمقة لحال المسلمين اليوم يمكن من خلالها إدراك مدى الحاجة العظيمة والماسَّة إلى إعادة تربية وتزكية وبناء أنفسنا، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، وأن الحاجة إلى ذلك أصبحت – وهي دوماً – أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء. وذلك لكثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات وتسلط الطغاة، ولكثرة حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاس، والارتكاس حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.

ولأن المسؤولية ذاتية، ولأن التبعة فردية والإنسان يحاسب عن نفسه لا عن غيره فلابد من جواب واستعداد ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نفْسِهَا ﴾ [8].

ولا نعلم ما نحن مقبلون عليه، أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا، ولأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو عن بناء غيره أعجز… وما لم يشتغل الإنسان بتزكية نفسه فلن يفلح أبداً، أقسم اللهُ على هذا، والله تعالى عندما يقسم قسماً إنما يفعل ذلك لأمر عظيم وخطير جداً، قال تعالى مقسماً بسبع آيات كونية: الشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض والنفس، على أهمية تزكية النفس، وكونها سببا أساسا لفلاح الإنسان. [9] ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾[10].

وعد الله تعالى من اعتنى بتزكية نفسه بالخلود في الجنة. ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾[11]

أيها الأخوة:

ثمة علامات ينبغي للمسلم التنبه لها إذا هي ظهرت، إذ هي دلائلُ على ضرورة مسارعته لتزكية نفسه وتطهيرها، ذلك أن الفلاح -كما تقدم- مرتبطٌ بالمبادرة إلى تزكية النفس.

من هذه العلامات الاستهانة بالمعاصي بشتى أنواعها الصغير منها أو الكبير… إنها تلك المشاعر المهينة التي تختلج في نفس العاصي عند ارتكاب المعصية وبعد انتهائه منها، حتى لو كانت تلك المعصية من الصغائر، لأن الاستهانة بالمعصية بحجة أنها من الصغائر مؤشر خطر… فالمؤمن الصحيح القلب يخاف من كل معصية حتى لو كانت صغيرة، بل حتى لو كان فاعلا لها ومقيما عليها، تجد نفسه تلقائياً تنشغل بالتفكير في عواقب تلك المعصية بين الحين والآخر، وتحس بالندم والحياء من الله، وتجده يدعو ربه أن يخلصه من تلك المعصية ويأخذ بيده إلى التوبة النصوح [12]. ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [13]

ومن علامات الحاجة إلى تزكية النفس الكسلُ عن بعض الطاعات، فقدان لذة العبادة وحلاوة الإيمان… تفسق النفس وتهمل وتستثقل العبادة عندما تفتر عن الطاعات شيئاً فشيئاً، فمثلا: لا تجد في النفس الدافع إلى الاستيقاظ لصلاة الفجر لأدائها مع الجماعة لأنها تكون صلاة ثقيلة جداً على صاحبها والنوم ألذ منها بكثير، والفراش لا يقاوم، والدفء! ولهذا قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة:45].

 بل قد لا تحتمل النفس ما هو أقل من ذلك، كالصبر على البقاء في المسجد لسماع موعظة ما مثلا، أو أداء السنن الراتبة، أو تلاوة أذكار المساء والصباح، ونحو ذلك؛ لثقلها على النفس، أو لعدم استشعار اللذة في أدائها، أضف إلى ذلك اشتغال النفس ذاتها بما هو ألذ عندها من تلك الطاعات بكثير، وهي أمور الدنيا، فينبغي لمن من وجد في نفسه هذا الثقل أن يسارع إلى تزكية نفسه [14].

ومن علامات الحاجة إلى تزكية النفس استمراء خصالها المذمومة، كالكبر والحقد والحسد والغرور، وكذلك الفضول المذموم: كثرة الكلام، كثرة الضحك، كثرة الحديث حول الناس وما يلازم ذلك من الغيبة، كثرة النوم، كثرة الخوض في أمور الدنيا، في أمور الدرهم والدينار، ونحو ذلك. فالله المستعان!

أيها الأخوة:

 من النعم التي يجب إرجاعها إلى الله نعمة التزكية هذه، يقول تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[15]، هذه الآية لو شعر المسلم بمعانيها، وتحرك قلبه بمقتضاها، لأدخلته على الله من باب العبودية المحضة.. [16].

ثمة وسائل وخطوات معينة بإذن الله على تزكية النفس:

أما الخطوة الأولى فهي معرفةُ موقع ِالنفسِ ودرجتِها، لقد وصف الله سبحانه تعالى النفس في القرآن الكريم وجعلها على ثلاث مراتب:

فأدنى وأخس درجة:

هي النفس الأمارة، وهي التي تأمر صاحبها بما تهواه من شهوة فائرة أو ظلم أو حقد أو فخر إلى آخره، فإن أطاعها العبد قادته لكل قبيح ومكروه قال تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم ﴾[17].

أما المرتبة الثانية:

والتي يمكن للنفس أن تعلو إليها فهي النفس اللوامة، وهي النفس التي تندم على ما فات وتلوم عليه، وهذه نفس رجل لا تثبت على حال فهي كثيرة التقلب والتلون، فتتذكر مرة وتغفل مرة، تقاوم الصفات الخبيثة مرة، وتنقاد لها مرة، ترضي شهواتهِا تارة، وتوقفُها عند الحد الشرعي تارة. وفيها قال تعالى ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾[18]

أما أعلى مرتبة:

والتي يمكن أن تصل إليها نفسك وترقى هي النفس المطمئنة، وهي تلك النفس التي سكنت إلى الله تعالى واطمأنت بذكره وأنابت إليه وأطاعت أمره واستسلمت لشرعه واشتاقت إلى لقائه، وهذه النفس هي التي يقال لها عند الوفاة ﴿ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 – 30] [19][20]

الخطوة الثانية في تزكية نفسك: هي الاعتراف بعيوبها، وإن مما يجعلك ترفض الاعتراف بالعيب الشعور بأنك قد بلغت مرحلة من الصلاح لا تحتاج فيها إلى تذكير ونصح لكثرة ما قرأت وعلمت في إصلاح النفوس…

الخطوة الثالثة: لإصلاحِ النفس ِمجاهدتُها. ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين ﴾[21]

الخطوة الرابعة في تزكية النفس: هي تنميةُ الصفات الطيبة ورعايتُها حتى يكون لها الغلبة. قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الحلم بالتحلم)[22].

الخطوة الخامسة في تزكية النفس: وهي من أهمها الدخول على الله من باب العبودية المحضة، وباب العبودية المحضة المقصود هو باب الانكسار والافتقار إلى الله تعالى، والذل، ذلك بأن يستشعر الإنسان أنه ذو صفاتٍ تقتضي الحاجة إلى رحمة ربه[23]. و يلازم الدعاء كما ورد أنّه صلى الله عليه وسلم علَّم حصينا أن يقول: (اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي)[24].

اللهم ات نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليه ومولاها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

فمن وسائل تزكية النفس الإقبال على كتاب الله تلاوةً وحفظاً وتدبُّرَاً، ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾. [25]

ومن الوسائل الذكر بإطلاقه: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾[26]. قال السدي: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله عز وجل[27]، فالدوام على ذكر الله تعالى يشرح الصدر، ويُزكي النفس. ومن وسائل تزكية النفس ذكرُ الموت، وقِصَر الأمل، إن الذي يستجلب الآفات إلى النفس لهفها على الملذات بأنواعها، وما يقتضيه هذا اللهف من صراع نفسي يقسي القلب، ويبعث فيه الآفات: الحسد، السخط، الحزن، الخداع، الجشع، كلها أمراض في النفس لا يجلِّيها إلا ذكر الموت، وقصر الأمل.. قال تعالى: ﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾ [28]. ومن وسائل تزكيتها كذلك: الصدقة [29]، قال تعالى ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾[30]

الظنون في النفس المؤمنة

يُقصد بها ما يَعتَري النفسَ المؤمنة مِن ظنونٍ نحو نفسِها ونحو الآخرين، وهي ظنون وَجدَت مجالًا من النقاش مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

♦ عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ، قَالَ – وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ -: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ؛ مَا تَقُولُ؟! قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ؛ فَنَسِينَا كَثِيرًا! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ، إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا‏. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ‏.‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‏((وَمَا ذَاكَ))‏.‏ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ، فنَسِينَا كَثِيرًا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً))، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ[1].

في نص الحديث حواران: بين حنظلة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ثم بين الصحابيَّين الجليلَين والرسول صلى الله عليه وسلم، فحنظلة رضي الله عنه يُصارح أبا بكر بما في نفسه، وأبو بكر يقرُّ معترفًا بهذا الأمر، وهذا يَعكس الحوارَ الإيمانيَّ الذي كان بين أفراد المجتمع المسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد غدا الاثنان إلى الرسول الذي استمع لحنظلة، وأقرَّ أنَّ هذا حادث، ولا خوف منه. لأن القلوب تتبدَّل، إذا سمعَت الحكْمة والموعظة الدِّينية تحلِّق في آفاق الإيمان العُليا، وإذا عادت إلى أمور الدنيا: زوجة، وولد، ومال، وتعامُلات الناس، فإنها تنتكس إلى الأرض. والمؤمنُ إنسانٌ في حاجة للزوجة والولد والمال والناس، فلا مفرَّ مِن المواءمة بين الحالتين: سماع الموعظة والسموِّ الإيمانيِّ، وبين مُعافَسة الدنيا ومَشاغِلها. إنها ساعة وساعة، وحال وحال.

♦ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ أَنَّ نَاسًا، مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ((مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ شَيْئًا هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ))[2]، وَالْمَعْنَى فِيهِ وَاحِدٌ؛ يَقُولُ: لَنْ أَحْبِسَهُ عَنْكُمْ.

هذا الحديث يتعلَّق بظنون النفس المؤمنة نحو العطاء المالي، فقد طَلب جماعةٌ من الأنصار المال ِمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مِن بيت مال المسلمين، ويبدو أن النَّهَم قد أصابهم، فاستزادوا العطاء من الرسول، والرسولُ يُعطي، فلمَّا وجد الطمع، أرشدَهم إلى أنَّ الأمر يتعلَّق بالنفس، وبنظرتهم له، وبما عنده، فلو كان لديه المزيدُ لأعطاهم، حتى لا يظنُّوا أنَّ الرسول يَحبس المالَ عنهم، ولا يأخذ الشيطان حظًّا مِن نفوسهم، فيظنون ما لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يَنصَحهم بالصبر والتعفُّف والاستغناء، فمَن تحلَّى بهذه القِيَم، فإن الله سيكون معه، ونلحظ أن الأفعال المستخدمة: يَستَغن، يَستَعفِف، يتصبَّر، فالتاء تُفيد هنا الإيجابية الشخصية، حيث يحرص الفردُ على التحلِّي بهذه القِيَم، ويتكلَّفها في نفسه، وفي هذه الحالة، فإن الله تعالى سيَغرِسها في أعماق المؤمن، لأن القيمة تنتقل مِن حالة التطبُّع إلى حالة الطبيعة. ونلاحظ أيضًا أنها قِيَم نفسيَّة، حاكمة لشهوات النفس التي تنعكس في سلوكيات الطمع والأثَرَة والأنانية، وتبذر في القلوب الظنون والشكوك حول الناس.

♦ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ (مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ؛ كَانَ إِذَا اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ)[3].

 هذا الحديث بسيطٌ يتَّصل بسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم ذاته، ولكنَّه يَتناول قضيةً لا تخصُّ الرسولَ كسلوك شخصي، وإنما هي تتَّصل بسلوكيات اجتماعية في أمور الطعام. فإنَّ الرسول كان يأكل ما يحبُّ، فإذا عافَت نفسُه طعامًا ما، فهو لا يأكل منه، بل يتركه. إنه تصرُّف محمودٌ، يشتمل على التَّرْك دون تعليق لفظي قد يُحزن صانعَ الطعام ومُقدِّمَه، ويجعل الآخرين يبتعدون عن الطعام نفسه. فهذا الحديث يَتناول احترامَ البُعد النفسي لِمَن يُقدِّم الطعامَ ويبذُله، ويحترم خصوصيات الشعوب في أصناف الأطعمة المختلفة، مادامت لا تتعارض مع ما أَمَر به الشرع الإسلاميُّ في الطعام الحلال.

♦ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ أَعْتَمَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَجَعَ إلَى أهْلِهِ فَوَجَدَ الصِّبْيَةَ قَدْ نَامُوا، فَآَتَاهُ أَهْلُهُ بِطَعَامِهِ فَحَلَفَ لاَ يَأْكُلُ مِنْ أَجْلِ صِبْيَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأكَلَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِهَا، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ))[4].

إنه موقف إنسانيٌّ، متكرِّر في حياتنا، ألَّا يأكل الأبُ الطعام المقدَّم إليه، مُؤثرًا به أبناءه. وقد فعَلَها أحدُ الصحابة، ولكنه أسبق فِعْلَه بحلف، فلما شعر بالجوع، أكل، مخالفًا يمينَه. واضطربتْ نفسُه، فغدا إلى الرسول يَستَشيره في الأيمان التي حلَفَها. وقد فهم الرسولُ الأمْر، وقدَّر تَنازُع عاطفة الأبوة، ورغبة النفس في أعماق الرجل، فلم يُعلِّق على فعْلة الرجُل، فهي مِن باب المباحات، ولا شيء عليه، وإنما أجاب عن استفسار الرجل، فمِن الممْكن أن يرجع الشخص عن يمينه، لِمَا هو خير، ويكفِّر عن هذه اليمين بالكفارات الشرعية؛ وهي على الترتيب: عتق رقبة، أو كسوة عشرة، مساكين، أو الإطعام لعشرة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام[5]، مصداقًا للآية الكريمة: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 89].

علاج النفس

 (إن الله يحب معالي الأمور وأشرفها ويكره سفسافها)[1] كما ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.

لكن علاج النفوس وتزكيتها أصعب من علاج الأبدان. ليصلح به المرء من قلبه ما مزقته يد الغفلة أو شعثته يد الإضاعة والتفريط أو قيدته يد الشهوات والأهواء.

فيجاهد المرء نفسه ليسد مداخل الشيطان ما استطاع، ويقلع عن لذات الدنيا وشهواتها، ويجد للتزود لما بعد الموت. ومن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة التي لم يجيء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟!

أما ((سعاد)) فقد تكرر منها سوء تصرفاتها، وإزاء كلماتها القاسية، أنّبها زوجها وأغلظ لها القول. وعندما اشتكت لأمها، قاطعتها أمها قائلة: إني أعلم ما قلت له!

لقد قلت: ماذا أفعل؟ إني عصبية المزاج سريعة الانفعال… وهكذا خلقت!

تقبلت ((سعاد)) هذا الكلام بصدر رحب وقالت:

  • فعلا يا أمي، لقد وضعت يدك على الجرح!

أما الأم فكان منها الدرس الواعي لابنتها:

 (لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى. وكيف ننكر تغيير الأخلاق ونحن نرى الصيد الوحشي يستأنس، والكلب يعلم ترك الأمل، والفرس تعلم حسن المشي وجودة الانقياد. إلا أن بعض الطباع سريعة القبول للصلاح، وبعضها مستعصية)[2].

فلا بد لتعديل عاداتنا من الصبر والتدرج فيها. إذ من الصعب التخلي عنها فجأة. مع الأخذ بالاعتبار أن نمو النفس وتزكيتها مثل نمو البدن لن يظهر الأثر في الحال، بل يظهر رويدًا رويدًا.

وكما أن الأخلاق لم تنتج بين عشية وضحاها، كذلك التغيير… فيجب الصبر وعدم العجلة.

فلقد كان ابن المنكدر (رضي الله عنه) وهو الذي كان يسميه الإمام مالك -رحمه الله- سيد القراء.. كان يقول عن نفسه:

  • ((جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت))[3].

نسأل الله تعالى أن تستقيم نفوسنا، وأن يهدينا سبيل الرشاد لنكون من الذين قال الله تعالى فيهم: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)).

فالتخلص من العادات القديمة وإن لم يكن سهلًا، لكنه ليس متعذرًا على ذات العقيدة السليمة، والعقل الذي يعقلها عن القبائح.

فمن اعتادت مشاهدة التلفزيون لساعات طويلة (مثلًا)…

فتترك مشاهدة الإعلانات أولًا – ومن ثم تترك عادة الإفراط في المشاهدة بأن تحدد الساعات والبرامج التي تتابعها…

وهكذا رويدًا رويدًا يتقلص إهدار الوقت، والتعامل المحرم مع ذلك الجهاز. والله تعالى لم يكلفنا ما لا نطيق:

 (فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب، لا يطلب رفعها ولا إزالة ما غرز في الجبلة منها، فإنه من تكليف ما لا يطاق…

ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبًا له ولا نهيا عنه. ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل)[4].

ذلك أن الذنوب مثل السموم -كما ذكر ابن القيم رحمه الله- فإن تداركها المرء من سقي بالأدوية المقاومة لها، وإلا قهرت القوة الإيمانية وكان الهلاك. وقد قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر[5].

نعوذ بالله من الخذلان، وأعاننا على الطاعات التي بها بعد توفيق الله يصان الإيمان ويزيد.

ولعل نقطة البداية لتزكية نفوسنا، المحاسبة الذاتية، فإنها مدعاة إلى تنشيط الذات لتقويم أعمالنا ومعالجة أخطائنا: ورضي الله عن عمر بن الخطاب إذ قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.

 (الكثير منا لديه نقاط قوة ولكن لا يستفيد منها حق الاستفادة ، أو لا يوظفها التوظيف الأمثل. كما أن لديه الكثير من نقاط الضعف التي تعرقل مساعيه لتحقيق أهدافه ، وتشل فاعليته الشخصية.

إن رحلة التغيير الإيجابي في الحياة تبدأ بالتعرف على النفس. وبعد التعرف على النفس يأتي تطويعها وقيادتها وسياستها وتوجيهها لما فيه الخير والصلاح)[6].

فمن كانت سريعة الغضب ، وبعد أن حاسبت نفسها ودققت النظر في مزاياها وفي سلبياتها، أيقنت أنها لا تحسن التعامل مع الآخرين فبدأت تروض نفسها على ضبط النفس…

وبالصبر والعزم تصل إلى بغيتها بإذن الله، ولاسيما إذا اتبعت الطريقة المشروعة في ذلك، وعالجت الغضب بالصمت وضبط النفس، وبالجلوس إن كانت واقفة وبالوضوء والاستعاذة من الشيطان، وبتكلف الحلم يكتسب الخلق الحسن، فإنما الحلم بالتحلم.

ولا يفوتها المحاسبة والتساؤل بين الفينة والأخرى: ما السبيل لأصبح أكثر رفقًا وليونة؟

كيف أتعامل مع صديقاتي المؤمنات حتى لا أخسر صحبتهن؟! 

وبمضاء في العزيمة، مع العقيدة السليمة تتحول العادة السيئة إلى عادة حسنة تتناسب مع قيم الإسلام السامية.

  • ومن وجدت نفسها بعيدة عن الالتزام الحق، فلتفكر مليًا لتعرف هويتها وتكافح الذنوب وتتخذ الأسباب للعمل الصالح.

وحين سبرت أغوار نفسها، علمت أن السبب في عدم وضوح الرؤية هو صحبة شريرة بما تجلبه لها من أشرطة ماجنة أو صور مثيرة…

قاطعت هذه الصحبة، وتلطفت في تركها، خشية المقالب التي من الممكن أن تعملها من حبك للمؤامرات، أو إلحاق الأذى بسمعتها، ولما صممت ألا تتمادى في الخطأ، وأن تجد لها العون الذي يساندها ويعضدها، وطدت صلتها بالصالحات. لأنها تعلم أن المرء على دين خليله.

وما صاحبة السوء إلا عدوة. ولن يركن لعدوه إلا الأحمق.

  • ومن ألفت نفسها الكسل وأهملت الأعمال الجادة والنافعة وتريد تغيير ذلك، فإنه يمكنها أن تروض نفسها ليصبح أنسها ولذتها في الجد والعمل والنشاط. وليس ذلك بالأمر العسير فإذا كان لاعب الكرة وبطل الجري يتدرب ويواصل التدريب، وهو راض ليحصل القوة التي تساعده، أو ليست المسلمة أولى بالبعد عن الكسل، وتدريبها على كل أمر جاد.

ولا ينكر تسامي الغرائز والميول والاهتمامات إلا جاهل.

فقد تصبح غريزة الغضب من أجل العقيدة.

وقد تصبح غريزة الجمع لإنفاق المال في سبيل الله بدل التفاخر.

وهكذا نعالج نقاط الضعف واحدة فواحدة حتى نبرأ منها.

المهم أن تجاهد المرأة نفسها حتى يسلس قيادها لأن ((الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) وتحاسب نفسها قبل أن تحاسب. الأمر الذي يجعلها تطلع على عيب نفسها فتصلحه دون أن تختلق الأعذار لنفسها، وتتعلل بالأوهام.

وهكذا تصبح في تربية مستمرة لذاتها، وتطوير سلوكياتها، لتغدو منقادة لأمر الله، خاضعة له تلوذ به، ولا يعنو وجهها إلا للحي القيوم وحده لا شريك له.

وتكتسب الأخلاق الجميلة بالرياضة (كما ذكر الغزالي) وهي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعًا انتهاء. وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح -أي النفس والبدن- فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا وفقها لا محالة. وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر على القلب[7].

فبالتزكي والطاعة لله ترقى النفوس، وتسمو القلوب والأرواح.

فلتسأل كل واحدة منا نفسها: هل أنا جاهزة لتغيير عاداتي نحو الأفضل؟

وهل أنا مستعدة للدوام على العمل الصالح وتأدية واجبي كمسلمة؟!

فإن كان الرد بالإيجاب فبها ونعمت، وإلا فالبدار قبل فوات الأوان…

ولتبق هذه طريقنا نحو تزكية أنفسنا لننال وعد الله تعالى بالفلاح إذ قال جل من قائل ((قد أفلح من زكاها)) وتبقى تربيتنا للذات مستمرة طيلة الحياة حتى نلقى الله وهو عنا راض:

ولقد جاء في الحديث الصحيح:

 ((إن الرجل ليعمل عمل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)) والحديث متفق على صحته وزاد البخاري: وإنما الأعمال بخواتيمها.[8]

وهذا ما يؤكده حديث آخر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام:

 ((إذا أراد الله بعبد خيرا عسله. قالوا: وما عسله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه إليه))[9].

فما أسعد من يوفقه الله لذلك!

علينا أن نعقد العزم للتزود لما بعد الموت فنقلع عن لذات الدنيا وشهواتها. ولا نكون أسارى لملذاتها.

وعند كل عمل لابد أن نفكر في قيمته من الناحية الشرعية. فنضبط أقوالنا وأعمالنا بالميزان الشرعي.

وإن شئنا أن نكيف حياتنا مع متغيرات الحياة، فلا نتساهل بحال في المحرمات. بل نتمسك بالثوابت.

فنصبح أمتن عقيدة، وأكثر التزامًا بأمر الله وبعدًا عن مناهيه وأكثر واقعية، وأكثر إيجابية. وشعورًا بالرضى والسعادة بعيدًا عن النظرة القاصرة من الشعور بالدونية واحتقار الذات. وتغدو كل واحدة منا صالحة مصلحة، تسعى لإعطاء كل ذي حق حقه. فتزكية النفس من الأولويات. فقد قال تعالى ((لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)) ولم يذكر واقفًا.  نسأل الله مقلب القلوب أن يختم بالصالحات أعمالنا. وأن يوفقنا للزاد الذي يهيؤنا للقاء الله تعالى وهو عنا راض إنه سميع مجيب.

الأدب مع النفس

1 – محاسبة النفس:

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ [الحشر: 18].        قال الله تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].

قال الله تعالى: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2].

2 – صيام الاثنين والخميس:

 روى الترمذي – وصحَّحه الألباني – عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تُعرَض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأُحِبُّ أن يُعرَض عملي وأنا صائمٌ))[1].

3 – قيام الليل:

ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، فقالت عائشة: لِمَ تصنَعُ هذا يا رسول الله، وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: ((أفلا أُحِبُّ أن أكون عبدًا شكورًا!))، فلما كثُر لحمه صلَّى جالسًا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ، ثم ركع[2].

4 – أذكار الصباح والمساء:

روى البخاري عن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيِّدُ الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتِك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))، قال: ((ومَن قالها مِن النهار مُوقنًا بها فمات من يومه قبل أن يُمسِي، فهو من أهل الجنة، ومَن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يُصبِح، فهو من أهل الجنة))[3].

5 – صلاة الضحى:

روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقةٌ؛ فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تَهْليلةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتانِ يركَعُهما من الضحى))[4].

6 – تطهير القلب عما يُغضِب الربَّ جل وعلا:

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظُرُ إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالكم))[5].

7 – أكل الحلال:

 روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجلَ يُطيل السفرَ أشعثَ أغبَرَ يمدُّ يدَيْه إلى السماء؛ يا ربِّ يا رب، ومطعمُه حرامٌ، ومشربه حرام، ومَلْبَسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك))[6].

وفي الصحيحين عن النُّعمان بن بَشير رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مشبهاتٌ، لا يعلمها كثير من الناس، فمَن اتَّقى المشبهات استبرأ لدينه وعِرْضه، ومَن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحِمَى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل مَلِك حِمًى، ألا إن حِمى الله في أرضه محارمُه، ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كله، وإذا فسَدت فسَد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب))

علاج النفس

 (إن الله يحب معالي الأمور وأشرفها ويكره سفسافها)[1] كما ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.

لكن علاج النفوس وتزكيتها أصعب من علاج الأبدان. ليصلح به المرء من قلبه ما مزقته يد الغفلة أو شعثته يد الإضاعة والتفريط أو قيدته يد الشهوات والأهواء.

فيجاهد المرء نفسه ليسد مداخل الشيطان ما استطاع، ويقلع عن لذات الدنيا وشهواتها، ويجد للتزود لما بعد الموت. ومن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة التي لم يجيء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟!

أما ((سعاد)) فقد تكرر منها سوء تصرفاتها، وإزاء كلماتها القاسية، أنّبها زوجها وأغلظ لها القول. وعندما اشتكت لأمها، قاطعتها أمها قائلة: إني أعلم ما قلت له!

لقد قلت: ماذا أفعل؟ إني عصبية المزاج سريعة الانفعال… وهكذا خلقت!

تقبلت ((سعاد)) هذا الكلام بصدر رحب وقالت:

  • فعلا يا أمي، لقد وضعت يدك على الجرح!

أما الأم فكان منها الدرس الواعي لابنتها:

 (لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى. وكيف ننكر تغيير الأخلاق ونحن نرى الصيد الوحشي يستأنس، والكلب يعلم ترك الأمل، والفرس تعلم حسن المشي وجودة الانقياد. إلا أن بعض الطباع سريعة القبول للصلاح، وبعضها مستعصية)[2].

فلا بد لتعديل عاداتنا من الصبر والتدرج فيها. إذ من الصعب التخلي عنها فجأة. مع الأخذ بالاعتبار أن نمو النفس وتزكيتها مثل نمو البدن لن يظهر الأثر في الحال، بل يظهر رويدًا رويدًا.

 وكما أن الأخلاق لم تنتج بين عشية وضحاها، كذلك التغيير… فيجب الصبر وعدم العجلة.    فلقد كان ابن المنكدر (رضي الله عنه) وهو الذي كان يسميه الإمام مالك -رحمه الله- سيد القراء.. كان يقول عن نفسه:

  • ((جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت))[3].

نسأل الله تعالى أن تستقيم نفوسنا، وأن يهدينا سبيل الرشاد لنكون من الذين قال الله تعالى فيهم: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)).

فالتخلص من العادات القديمة وإن لم يكن سهلًا، لكنه ليس متعذرًا على ذات العقيدة السليمة، والعقل الذي يعقلها عن القبائح.

فمن اعتادت مشاهدة التلفزيون لساعات طويلة (مثلًا)…

فتترك مشاهدة الإعلانات أولًا – ومن ثم تترك عادة الإفراط في المشاهدة بأن تحدد الساعات والبرامج التي تتابعها…

وهكذا رويدًا رويدًا يتقلص إهدار الوقت، والتعامل المحرم مع ذلك الجهاز. والله تعالى لم يكلفنا ما لا نطيق:

 (فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب، لا يطلب رفعها ولا إزالة ما غرز في الجبلة منها، فإنه من تكليف ما لا يطاق…

ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبًا له ولا نهيا عنه. ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل)[4].

ذلك أن الذنوب مثل السموم -كما ذكر ابن القيم رحمه الله- فإن تداركها المرء من سقي بالأدوية المقاومة لها، وإلا قهرت القوة الإيمانية وكان الهلاك. وقد قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر[5].

نعوذ بالله من الخذلان، وأعاننا على الطاعات التي بها بعد توفيق الله يصان الإيمان ويزيد.

ولعل نقطة البداية لتزكية نفوسنا، المحاسبة الذاتية، فإنها مدعاة إلى تنشيط الذات لتقويم أعمالنا ومعالجة أخطائنا: ورضي الله عن عمر بن الخطاب إذ قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.

(الكثير منا لديه نقاط قوة ولكن لا يستفيد منها حق الاستفادة ، أو لا يوظفها التوظيف الأمثل. كما أن لديه الكثير من نقاط الضعف التي تعرقل مساعيه لتحقيق أهدافه ، وتشل فاعليته الشخصية. إن رحلة التغيير الإيجابي في الحياة تبدأ بالتعرف على النفس. وبعد التعرف على النفس يأتي تطويعها وقيادتها وسياستها وتوجيهها لما فيه الخير والصلاح)[6]. فمن كانت سريعة الغضب ، وبعد أن حاسبت نفسها ودققت النظر في مزاياها وفي سلبياتها، أيقنت أنها لا تحسن التعامل مع الآخرين فبدأت تروض نفسها على ضبط النفس… وبالصبر والعزم تصل إلى بغيتها بإذن الله، ولاسيما إذا اتبعت الطريقة المشروعة في ذلك، وعالجت الغضب بالصمت وضبط النفس، وبالجلوس إن كانت واقفة وبالوضوء والاستعاذة من الشيطان، وبتكلف الحلم يكتسب الخلق الحسن، فإنما الحلم بالتحلم.

ولا يفوتها المحاسبة والتساؤل بين الفينة والأخرى: ما السبيل لأصبح أكثر رفقًا وليونة؟

كيف أتعامل مع صديقاتي المؤمنات حتى لا أخسر صحبتهن؟!

وبمضاء في العزيمة، مع العقيدة السليمة تتحول العادة السيئة إلى عادة حسنة تتناسب مع قيم الإسلام السامية.

  • ومن وجدت نفسها بعيدة عن الالتزام الحق، فلتفكر مليًا لتعرف هويتها وتكافح الذنوب وتتخذ الأسباب للعمل الصالح.

وحين سبرت أغوار نفسها، علمت أن السبب في عدم وضوح الرؤية هو صحبة شريرة بما تجلبه لها من أشرطة ماجنة أو صور مثيرة…

قاطعت هذه الصحبة، وتلطفت في تركها، خشية المقالب التي من الممكن أن تعملها من حبك للمؤامرات، أو إلحاق الأذى بسمعتها، ولما صممت ألا تتمادى في الخطأ، وأن تجد لها العون الذي يساندها ويعضدها، وطدت صلتها بالصالحات. لأنها تعلم أن المرء على دين خليله.

وما صاحبة السوء إلا عدوة. ولن يركن لعدوه إلا الأحمق.

  • ومن ألفت نفسها الكسل وأهملت الأعمال الجادة والنافعة وتريد تغيير ذلك، فإنه يمكنها أن تروض نفسها ليصبح أنسها ولذتها في الجد والعمل والنشاط. وليس ذلك بالأمر العسير فإذا كان لاعب الكرة وبطل الجري يتدرب ويواصل التدريب، وهو راض ليحصل القوة التي تساعده، أوليست المسلمة أولى بالبعد عن الكسل، وتدريبها على كل أمر جاد.

ولا ينكر تسامي الغرائز والميول والاهتمامات إلا جاهل.

فقد تصبح غريزة الغضب من أجل العقيدة.

وقد تصبح غريزة الجمع لإنفاق المال في سبيل الله بدل التفاخر.

وهكذا نعالج نقاط الضعف واحدة فواحدة حتى نبرأ منها.

المهم أن تجاهد المرأة نفسها حتى يسلس قيادها لأن ((الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) وتحاسب نفسها قبل أن تحاسب. الأمر الذي يجعلها تطلع على عيب نفسها فتصلحه دون أن تختلق الأعذار لنفسها، وتتعلل بالأوهام.

وهكذا تصبح في تربية مستمرة لذاتها، وتطوير سلوكياتها، لتغدو منقادة لأمر الله، خاضعة له تلوذ به، ولا يعنو وجهها إلا للحي القيوم وحده لا شريك له.

وتكتسب الأخلاق الجميلة بالرياضة (كما ذكر الغزالي) وهي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعًا انتهاء. وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح -أي النفس والبدن- فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا وفقها لا محالة. وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر على القلب[7].

فبالتزكي والطاعة لله ترقى النفوس، وتسمو القلوب والأرواح.

فلتسأل كل واحدة منا نفسها: هل أنا جاهزة لتغيير عاداتي نحو الأفضل؟

وهل أنا مستعدة للدوام على العمل الصالح وتأدية واجبي كمسلمة؟!

فإن كان الرد بالإيجاب فبها ونعمت، وإلا فالبدار قبل فوات الأوان…

ولتبق هذه طريقنا نحو تزكية أنفسنا لننال وعد الله تعالى بالفلاح إذ قال جل من قائل ((قد أفلح من زكاها)) وتبقى تربيتنا للذات مستمرة طيلة الحياة حتى نلقى الله وهو عنا راض:

ولقد جاء في الحديث الصحيح:

 ((إن الرجل ليعمل عمل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)) والحديث متفق على صحته وزاد البخاري: وإنما الأعمال بخواتيمها.[8]

وهذا ما يؤكده حديث آخر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام:

 ((إذا أراد الله بعبد خيرا عسله. قالوا: وما عسله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه إليه))[9].

فما أسعد من يوفقه الله لذلك!

علينا أن نعقد العزم للتزود لما بعد الموت فنقلع عن لذات الدنيا وشهواتها. ولا نكون أسارى لملذاتها.

وعند كل عمل لابد أن نفكر في قيمته من الناحية الشرعية. فنضبط أقوالنا وأعمالنا بالميزان الشرعي.

وإن شئنا أن نكيف حياتنا مع متغيرات الحياة، فلا نتساهل بحال في المحرمات. بل نتمسك بالثوابت.

فنصبح أمتن عقيدة، وأكثر التزامًا بأمر الله وبعدًا عن مناهيه وأكثر واقعية، وأكثر إيجابية. وشعورًا بالرضى والسعادة بعيدًا عن النظرة القاصرة من الشعور بالدونية واحتقار الذات.

وتغدو كل واحدة منا صالحة مصلحة، تسعى لإعطاء كل ذي حق حقه. فتزكية النفس من الأولويات. فقد قال تعالى ((لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)) ولم يذكر واقفًا.

زر الذهاب إلى الأعلى