خواطر دعوية (٩)  العلماء والحكام

في زمن الخلافة الراشدة لم يكن هناك تمايز ولا فرق بين العلماء والحكام ، ولم يعرف الناس بأن هناك جماعة من العلماء والفقهاء لا علاقة لها بالحكم والسياسية ، وأن الحكام والأمراء فئة أخرى ليس لها شأن في العلم الشرعي بل يقتصر عملها في السياسية وإدارة شؤون البلاد ، ولكن الذي استقر في زمانهم واشتهر هو كون الحكام كانوا أعلم أهل زمانهم ، حيث جمعوا بين العلم والحكم معا ، كما كان أمراء وولاة الأقاليم وقادة الجند ومستشاريهم وجلسائهم  من العلماء وطلبة العلم .

في هذه الفترة المباركة التي تجلت فيها نصاعة الحكم الإسلامي في العدل ورعاية حقوق العباد الدينية والدنيوية لم يكن كل العلماء يتولون مناصب رسمية في إدارة  الدولة  ومع ذلك لم يكونوا يرون مشكلة في الدخول أو الجلوس مع الخلفاء والولاة ونوابهم والنصح لهم  ، ومن أجل هذا التناسق والتفاهم فيما بينهم لم تخرج إلى العلن ولم تناقش في زمانهم مسألة حكم  الدخول على الأمراء والحكام سلبا أو إيجابا ، كما لم تكن هناك حاجة في تعريف وتوضيح ماهية العلاقة بين العلماء والأمراء .

وبعد انتهاء فترة الخلافة الراشدة تحول الحكم إلى ملكية وراثية حيث يُولي الحاكم أبناءه  من غير مشورة من المسلمين ، ولم يعد دور العلماء والفقهاء كما كان من قبل ، بل أصبحوا من عموم الشعب ، وليس لهم رأي في سياسية الحكم وإدارته ، بل الواجب عليهم القبول بما يصدر عن البلاط .

فهؤلاء الخلفاء والولاة والأمراء الذين تعاقبوا على الحكم لم يكونوا على درجة واحدة في العلم والفقه وبسط العدل وانصاف المظلوم وإقامة الدين وإزالة الظلم ، بل كان منهم من حاول توخي العدل ورعاية مصالح الأمة بقدر طاقته وهم قليل ، ومنهم من كان ظلوما غشوما لا يتورع في سفك الدماء ، واغتصاب الممتلكات بغير وجه شرعي ، مع فسق وفجور ومجاهرة بالمعاصي وغير ذلك من المنكرات التي لا حصر لها .

وبعد ظهور هذه الممارسات المخالفة للحكم الرشيد وما صاحبها من انتشار المظالم وفشو الفساد والاستبداد ، وعجز كثير من العلماء في مجاهرة كلمة الحق وتبيانها ، وظهور علماء يساندون أو يتغاضون عن الظلم الذي يرتكبه الولاة برزت إلى السطح مسألة الدخول على الأمراء ، جوازا أو منعا ، فمن العلماء من لا يرى في ذلك بأسا إذا كان القصد من الدخول عليهم من باب النصح ومساعدة المظلوم ، ومنهم من منع وحذر من التساهل في ذلك مهما كان القصد لأن الاقتراب منهم يتولد شرّ مستطير ، واستدل كل فريق ما يساند قوله ويقوي مذهبه ، ولا أريد نقل أدلة كلا الفريقين ومناقشتها أو الترجيح بينها ، ولكني أردت تسويد هذه الكلمات بعرض الآثار المترتبة والنتائج المرجوة من الدخول عليهم أو الجلوس معهم ، لأن من عادة العلماء ألا يجلسوا مجلسا أو لا يحضروا مناسبة إلا ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، وألا يقروا ظلما ولا يتخاذلوا عن نصرة مظلوم ومساعدة ملهوف ، ولكن السؤال  الذي يتبادر إلى الذهن هو : هل يتسامح الحكام والأمراء من يقدم لهم النصيحة سواء كانت سرا أم علنا ، وهل يقبلون النقد والتصحيح فيما يقومون به من أعمال ، وهل إذا تحملوا مرة فسيكررون مرات أخري ، وخاصة إذا كان من يقدم لهم النصيحة لا يدور في فلك الحاكم ولا يقبل هداياه ولا عطاياه  .

وقد حفلت كتب التاريخ والسير نماذج ناصعة وإن كانت قليلة ونادرة في الغالب أخبار علماء وفقهاء وصالحين صدعوا بالحق وواجهوا الحكام والرؤساء في المحافل وأمام الناس من غير خوف ولا وجل ، ومنهم من حرص النصح لهم بصورة سرية ولا جلبة حسب ظروفهم وامكانياتهم .

وإذا ما رجعنا إلى الوراء قليلا وتصفحنا حال المسلمين منذ بداية زمن الانحطاط إلى اليوم نجد أن دور العلماء تقلص بشكل ملحوظ واقتصر دورهم في زوايا معنية فقط ، ومع ذلك يحرص الحكام الاقتراب منهم أو التظاهر باحتفائهم واستحضار مجالسهم عندما يحتاجون إليهم في تقوية مكانتهم بين شعوبهم .

ولكن السؤال الحقيقي هو هل الحكام مستعدون لتقبل نصائح العلماء والدعاء في مجال الحكم والسياسة أم لا ، وهل للعلماء دور في هذا المجال ، وهل صحيح أن الحكام لا يقطعون رأيا إلا باستشارة العلماء والدعاة .

والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أو التجاهل عنها مهما أحسن الظن بالحكام فإنه ليس في حساباتهم الإصغاء إلى نصائح العلماء وتوجيهاتهم المتوافقة مع روح الشريعة إلا إذا كان يصبّ في صالحهم ، ويعتبرون ذلك تدخلا في شأن لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد بل يصنفون هذا العمل نوعا من المعارضة التي تتخفى وراء الرداء الشرعي والمصلحة العامة ، ولأجل التحكم فيهم تقوم الحكومات بإنشاء مجالس وهيئات ومراكز للفتوى لا تخرج غالبا عن أطروحات الحكومة وسياستها .

وقد تستجيب الحكومات بمطالب بعض العلماء كقبول شفاعتهم في قضايا خاصة أو إيقاف بعض البرامج والحفلات الماجنة أو غير ذلك من الأمور التي ليس لها تأثير كبير على السياسة العامة .

إذا فلا مقدور لعالم واحد أو أكثر من ذلك أن يغيروا شيئا ملموسا في واقع الحياة السياسية والحكم في الوقت الراهن إذا كانوا فرادى أو يعلمون تحت مؤسسات رسمية ، لأن الحاكم كلما شعر خطرا من قبل بعض العلماء استبدل بغيرهم وقام بتقريب بعضهم إلى بلاطه ، لكي يُوقع الشك والريبة والنزاع فيما  بينهم .

وأكبر أثر يترتب على دخول العلماء على الحكام وحضور مناسباتهم هو اعتقاد العامة بأن ما يقوم به الحاكم من ظلم أو إساءة للمسؤولية أو محاباة أو فساد أو غير ذلك من أمور مخالفة للشرع الحكيم أو لا تتوافق مع الأنظمة العامة التي تنظم حياة الناس في العمل والتعليم والتوظيف والصحة وهلم جرّ  ، فإن العلماء جزء من هذا الفساد ولولاهم لما استطاع الحاكم الإقدام على فعلته هذه .

الوسيلة الوحيدة التي من خلالها يستطيع العلماء والدعاة أن يكون لهم دور فعّال في التأثير على الحاكم وأخذ زمام المبادرة وفرض رؤيتهم على الساسة هو اتفاقهم ورصّ صفوفهم وتوطيد العلاقة فيما بينهم وتوحيد رؤيتهم في حماية المقاصد الكلية للإسلام ، وعدم التعامل مع الحكام بصورة فردية عند التعاطي في الشأن العام ، لأن اجتماعهم وتآلفهم يُقوي جانبهم ويجعل كلمتهم محل اهتمام وتوقير ، ولا يستطيع الحاكم التجاوز عنهم أو الاستهانة في مكانتهم ، وإلا فيتعامل معهم بمبدأ العصا والجزرة أو الترغيب والترهيب .

وأخيرا يجب على العلماء والدعاة التعاون فيما بينهم تجاه دينهم وأمتهم .

د.عبدالباسط شيخ إبراهيم مَيلو

يوم الجمعة ٢/١/١٤٤١ه ، ٢١/٨/٢٠٢٠م

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى