المسرح والدين والفن  في الصومال

 

الفن يحتاج الى بيئة آمنة، وقدر من الاستقرار، وحالة من النشوة والامل تستدعي التعبير عن الفرح والسرور. فالحالة الأمنية في الصومال تغني الدعاة الان عن إعداد العدة للتعامل مع أماكن الرقص واللهو؛ فلا يكون الغناء والرقص الا في مجتمع حي، آمن في سربه، يجد قوت يومه وغده. فاذا رايتم الصوماليين يرتادون المسارح، فهذا بحد ذاته علامة من علامات التعافي، وامارة من امارات عودة الحياة الطبيعية الى ربوع ديارنا، فاستبشروا خيرا، ويجد الدين نفسه دورا في هذه الحياة المضطربة المفعمة بالنشاط والحيوية، أمراً بالمعروف ونهيا عن المنكر؛ فحيث لا فن فيه فلا حياة فيه، وحيث لا حياة فلا حاجة للدعاة.

والفن عادة مرتبط بالترف، وقد وصل الفن الى اعلى ذروته في الحضارة الاسلامية في ازهى عصورها، والغناء والرقص والقيان والموسيقى قد راج في بغداد وفي الاندلس في ايّام ترفها وفي عزّ حضارتها وقوتها. وكذلك فقد تطور الفن الصومالي بعد الاستقلال، ووصل الى فترته الذهبية في السبعينات، وهي الفترة التى شهدت نهوضا شاملا ملحوظا في حياة امتنا، وما خلق ذلك من امال في الحياة، وشعور بالثقة في النفس، مما اطلق حركة الإبداع الفنى،  وفتق الأذهان، وأفاض الخواطر، وأثرى الافكار، وارهف الحواس ، وأثار المشاعر، وبعث في حياة الامة روحا جديدة، مفعمة بالنشاط، ومحبة للحياة، ومتفائلة بالمستقبل، فكان المسرح الوطني مسرحا لهذه الامال كلها، وذكرى لتلك الايام المشرقة في مخيلة الوعي الجماعي لامتنا.

الفن والدين لا يتناقضان، ولكن اذا أسيء فهم كل منهما ينتجان معنى متناقضا، فيصير الفن هابطا، وينتج الفسق والمجون، ويتحول الدين الى شعائر جامدة، وينتج التطرّف والغلو. فالفنانون يحتاجون الى الدين، لإشاعة الطمأنينة في قلوبهم، وبث السكينة في نفوسهم، كما يحتاح الدعاة الى الفن، لإرهاف احاسيسهم، وإثراء عواطفهم، وترقية ذوقهم الفني. فالفن حاجة بشرية فطرية في النفس التى تعشق الجمال، وتطرب له وتهتز لسماع الصوت الجميل، وترتاح لرؤية المناظر الباهرة، وتنتشي فرحا بطيب عزف العود.

والإسلام دين الفطرة، وطريقته في التعامل مع هذه الحاجات النفسية ليس المنع والحظر، وانما طريقه الترشيد والتسديد والارتقاء به من الأغراض السفلية الى آفاقه العليا، ومن الميوعة والمجون الى فن له رسالة انسانية رفيعة. ولقد اهتم الاسلام بالجمال، ولفت نظر الناس الى جمال الكون، وحسن نظامه، وبدائع خلقه في ارضه وسمائه وبحاره. والأدباء والفنانون خير من يفهم هذا الجمال الذي بثه الله في ارجاء الكون، ونبه الى النظر فيه والاعتبار به بما حباهم الله به سبحانه من شعور مرهف، وعواطف جياشة، وأرواح صافية ملهمة، تحلق في السماء، وتتصل بالأرواح العالية، ثم تفيض شيئا من هذه المعاني السامية لإثراء الحياة الإنسانية، والإرتفاع بها الى مراقي الصعود.

والمسرح مركز ثقافي لا غنى عنه في أمة حية ومجتمع راق. واذا أردت ان تعرف صورة مجتمع ما، وأطواره في الترقي أو في التدنى، فانظر الى ما يعرض في مسارحه، فان ذلك يعدّ بمثابة مرآة عاكسة لصورته. فالمسرح بناء من أحجار وطين، فليس له قيمة ذاتية، وانما يكتسب قيمته فيما يبث من الحياة في مجتمعه، وما يعرض فيه من أنواع الفنون لترقية عواطف مواطنيه. ولا يمكن للمسرح أن يقوم بهذا الدور الإيجابي في حياة الناس دون أن ينتج المجتمع الغذاء الروحي والثقافي الذي يحتاج اليه لتأدية رسالته الوطنية على أحسن وجه وأكمل صورة، وإذا لم يجد المسرح  هذا الغذاء الروحي العالي، وهذه الثقافة العالية، سيتحول إلى وكر لبث الدنايا، وعرين لنشر السموم في المجمتع. ولا لوم عليه في ذلك، وإنما اللوم على المحتمع الذي أخفق في تزويده الزاد الفكرى والثقافي الذي يمكنه من إشاعة الحياة في نفوس مواطنيه.

ومن حق العلماء أن يستغلوا هذه الوسيلة لايصال رسالتهم الدعوية الى الناس، ولكنهم يحتاجون أيضا الى تطوير أساليبهم وتجديد محتوى رسالتهم، إذا أرادوا عرضها في المسرح. فهم مثلا يستطيعون أن يكتبوا قصصا أو روايات أدبية دينية قابلة للعرض في المسرح، كعمل فني إبداعي، وليس مجرد وعظ ديني مفتقر إلى الإبداع الفنى. وقد أعلن بعض العلماء حالة استنفار شديدة لإعداد العدة لمواجهة فتنة المسرح، ويمكن للعلماء أن يحولوا فتنة المسرح الى فرصة لتطوير الأفكار، وتنويع الخطاب، وابتداع الأساليب، وتجديد البضاعة، لمزاحمة غيرهم في عرض بضاعتهم على منصة المسرح. وقد تذمر كثير من العلماء من قبل في استعمال التلفزيون والإنترنت والفيسبوك، حتى اذا تيقنوا أن التكنولوجيا تتجاوزهم ولا تعبأ بهم، ارتموا في أمواجها فلم يغرقوا فيها كما كانوا يخشون، بل أتقنوا السباحة فيها، وأحسنوا استغلالها أيما استغلال.

الإسلام جميل ويدعو الى الجمال، وان الله جميل يحب الجمال، وكذلك الفن جميل، يعشق الجمال ويدعو اليه، فإنهما يتكاملان ويتعاضدان في إظهار هذا الجمال كل بطريقته الخاصة؛ فاذا هبط الفن أو أساء الناس فهم الدين، فالعيب ليس في الفن ولا في الدين، وانما العيب فينا وفي فهمنا للفن وللدين. والأمم الراقية في حاجة إلى ترقية شعورهم الدينية، كما يحتاجون إلى تربية أذواقهم الفنية، فلا بد من ترقية النواحي المختلفة للنفس الإنسانية حتى تحتفظ بتوازنها ويجد كل ناحية من نواحيها غذاؤها الملائم.

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى