خواطر دعوية (٨) : إعادة البرمجة على طريقة تفكير الإسلامي الصومالي

من الطبيعي أن الإنسان يولد صغير الجسد ، ضعيف الإدراك ، والعقل والفهم ، ولا يتم له كل شيئ في وقت واحد بل بالتدرج والترقي رويدا رويدا ، كلما كبر جسده كبر عقله وإدراكه استجابة لطبيعة وأسلوب من يتولى تربيته وإعداده ومقدار فهمه واحاطته بالمسؤولية الملقاة على عاتقه حيال هذه النبتة الوليدة البريئة الجديدة ، وإذا كان المربي دون المسؤولية اهتم برعاية الجسد وتسمينه دون الاهتمام بروحه وعقله ، ولأجل أهمية العقل والخلق كان الآباء يختارون لأولادهم بمربين يمتازون برجاحة عقل وحسن سيرة حتي يكتسب الأبناء قسطا من أخلاق أساتذتهم .

الحركات الإسلامية لديها برنامج تربوي وتثقيفي يجب على العضو أن يخضع لها قبل انضمامه إلى الحركة وبعدها ، فجل هدا التدريب يوجه إلى العقل والتكفير ، ويتلقى العضو سلسة من توجيهات مكثفة تصل إلى درجة غسيل الدماغ بحيث يصبح العضو لا يرى الأشياء إلا من خلال جماعته وحزبه ، فالحسن عنده ما تراه الحركة حسنا ، والقبيح كذلك ، فالحبيب من تحبه الحركة ، والعدو كذلك ، والمصلحة ما تقرره الجماعة ، والمفسدة كما تصورها هي ، فكل شيئ لا يصدر عنها يجب التثبت فيه وإعادة النظر في شأنه .

وليس معنى ذلك أن الجميع ينطبق عليهم هذا الوصف ، ولكن من أكثر القراءة ودرس تاريخ الأمم  وخالط الناس ، ولم يحجر عقله وسمعه وتجاوز عن المراهقة العقلية وانتقل إلى مرحلة النضج العقلي واكتسب الخبرة المتراكمة يستطيع أن يستعيد عافيته ويبدأ المراجعة والتصحيح ، ولكن عددهم قليل بالنسبة إلى الكثرة الكاثرة التي ما زالت تقدس هذه التوجيهات الملغمة .

المجتمع الصومالي مجتمع قبلي يُعلي شأن القبيلة ويقدسها أكثر من تقديسه للدين ، مع أنه مجتمع محافظ تظهر عليه شعائر الإسلام بصورة جلية لا لبس فيها ، ولكن أصبحت القبيلة جزأ من كينونته وتجرى في عروقه أكثر من جريان الدم في الوريد ، ولذلك لم يستطع كثير من الإسلامين الانفكاك والتبرؤ من طلاسم ووصايا القبيلة المخالفة للدين والعقل والمنطق ، فهي ترحل معهم أينما رحلوا وتَقيل معهم أينما قالوا .

وبسبب الحملة المكثفة التي تعرض لها الإسلامي الصومالي سابقا وما يزال يتلقاها إلى اليوم مع مغريات مالية تتأبط بها الحركات وتأتي بشكل منتظم من الدول والحركات الراعية للأفكار المستوردة، وتوزع على أعضائها بصورة انتقائية وتكون الأولوية للمطيعين والمتقبلين بما يقال لهم ، يتحول العضو إلى مسخ أو إنسان آلي لا يستطيع التعامل مع من يختلف معه في الرأي أو الفكر  أو    الانتماء الحركي والحزبي والقبلي والمصلحي بل لم يعد يتحمل أي مهادنة أو مداراة أو حوار مثمر أو احترام متبادل مع هذا المخالف ، لا قيمة ولا وزن لهم عنده ، وقد يرميهم بما ليس فيهم من البدعة أو محاربة السنة أو الميوعة أو التساهل والاستخفاف بشعائر الدين أو الانشغال بالسياسية دون الدعوة أو مراقبة الآخرين وتتبع أخطائهم وزلاتهم وغير ذلك من التهم المتبادلة بين أبناء الحركات الإسلامية الصومالية إلا من رحم ربك .

ومع مرور قرابة أكثر من أربعة عقود من انطلاق مسيرة الحركة الإسلامية الصومالية بصورة منتظمة كحركات لها أطر وتنظيمات إلا أنها بقيت كزريبة عائلية لا يجوز للعضو الخروج على الخطوط المرسومة أمامه ، وتتولى قيادة الحركة  التفكير فيما يصلح له  نيابة عنه ما دام اسمه مقيدا في سجلات الحركة حفاظا  وحماية على مصلحة الحركة كما زعموا ،  وكل من يحاول إعمال عقله أو التفكير خارج الصندوق فمآله إلى الفصل أو التجميد أو غير ذلك من العقوبات.

كثير من أعضاء الحركات يصابون بانفصام الشخصية يصعب عليهم الإفصاح عما يدور في خلجاتهم أو القبول بما يُملى عليهم من أفكار لا يستطيعون التقبل بها بدون تمحيص ، فيضطرون العيش بحياة مزدوجة خوفا على مصالحهم الخاصة التى لا تتحقق إلا التظاهر بطاعة عمياء أمام متنفذي الحركات ، فإن كان في موقع آمن أشاح وجهه وتبرم عما يدور في كواليس الحركة ، وإذا كان مع القوم أشاد وأشار إلى محامدها ومناقبها.

التربية الحركية تجعل العضو يؤمن بأن الحق ينحصر فيها  ويدور معها حيث ما دارت ، رأيها صواب لا يحتمل الخطأ ، كل راية لا ترفعها الحركة فهي راية مشبوهة ، فكل مشروع لا تقيمه الحركة فمصيره إلى الفشل ، فلا يوجد في الساحة علماء ودعاة إلا من انضم إلى مظلتها ، فالمراكز والمساجد التابعة لها فقط من يقومون بالدعوة الصحيحة .

وهذا العضو لا يمدح إلا علماء حركته ، ولا ينشر إلا صورهم ، ولا يوزع إلا محاضراتهم ودروسهم ، ولا يعلق إلا في تغريداتهم ، فهو جاهز للانقضاض على كل من يظن أنه ليس على وفاق ووئام مع مشايخه ، فهو حرب لكل من حارب شيخه بحق أو بغير حق .

الأمر لا يتوفق على أعضاء الحركات الذين ما زالت أسماؤهم مقيدة على دواوين الحركات ولا يزالون يقدمون الطاعة والولاء لها ، بل هناك إسلاميون صوماليون انفصلوا عن الحركات طوعا أو كرها أو لم ينضموا إليها أصلا ولكنهم يزاولون مثل أو أسوء مما يتعاطاه أعضاء الحركات ، إما بسبب ما تعرضوا له من غسيل دماغ في فترة عضويتهم ما زالت تؤثر عليهم ولو كانوا بعيدين عن رقابة الحركة وأوامرها ، أو اعتقدوا  بأن أسلوب المعاداة والمنابذة التي تنتهجها الحركات على وجه  كل من لا يروق لها  هو الأسلوب الأمثل في حفظ مقام  الإسلامي بين الناس ، ولأجل ذلك فإذا ما صار مسؤول مسجد أو مركز أو غير ذلك من منابر الدعوة يصول ويجول كمثل ما تفعل الحركات ، فتعامله مع الدعاة سواء كانوا أعضاء في الحركات أم لا ، تشوبه حساسية مفرطة لا تعطى فصحة للتعقل والتأمل .

والغريب أن عددا كبيرا من الإسلاميين الصوماليين يحملون شهادات عليا من  جامعات و كليات  متنوعة حول تخصصات ودراسات إسلامية أو علوم أخرى  أو كانوا في حقل الدعوة والتعليم ما يزيد عن أربعة عقود أو أكثر أو جاوزا الستين والسبعين من أعمارهم ، وبعضهم يدير مراكز دعوية ومساجد كبيرة  ويتصدرون للتدريس أو للخطابة أو يقومون بأعمال ذات علاقة  بالدعوة ومع ذلك يعيشون على مرحلة المراهقة الفكرية والعقلية ، ويتبنون مبدأ الشوفينية الذي لا يعترف إلا بنفسه وجماعته ويحصر الحق في جنباته ولا يعترف الآخر ، وينتهي به المطاف إما معي أو مع الطوفان .

فكأن هذه الشهادات أو السنوات التي قضاها في هذا الميدان لم تغير من تفكيره شيئا ولم يستطع تطوير عقله قليلا ، ولكن المراهقة العقلية صاحبت معه في محطات حياته فأصبحت جزأ من كينونته فلا يقدر الانفكاك منها ، ولذا يتعامل الناس بهذه الطريقة  .

الإسلامي الصومالي الذي يستوطن في المهجر والآفاق  ينتظر الضوء الأخضر من قيادة الداخل إذا ما أراد اتحاد قرار يعود نفعه على مصلحة الجالية أو الدعوة ، أو حاول  التعاون مع الآخرين ، وقد يرجو صدور أوامر تطالبه  بتدريس كتاب معين وهلم جرا .

التغيير إلى الأحسن والتطور إلى الأفضل وتربية النفس بقبول الفضائل وإعمال العقل وتنميته مطلب مشروع لا ينبغي للمرء التغافل عنه، فمن رفض ذلك ورضي العيش بنمط لا يقبل التجديد ولا التطوير  فقد حكم على نفسه بالفشل .

يمكن إعادة وبرمجة طريقة تكفير الإسلامي الصومالي بعقد دورات مكثفة في  إعادة النظر في مواضيع قد تم تفسيرها سابقا بصورة انتقائية ، إما بقصر فهم أو بتأويل فاسد أو بضيق أفق حتى يستعيد عافيته ويجدد نشاطه وينظر الحياة من زاوية أوسع وأعقل : ومنها : بيان الفرق بين الوحي المقدس والرأي البشري ، وعدم الخلط بين الإسلام والإسلامي  ، وأن الحركة وسيلة وليست غاية ولا هي صالحة لكل زمان ومكان ، وأن الولاء للإسلام وأهله ولو لم يكونوا أعضاء في الحركات ، وأن الرأي يبقى رأيا ولو صدر عن كبير القوم ، وان الدعوة لا تملكها حركات ولا يشترط في أدائها الانتساب إلى حركة ، ويجب إفساح المجال لكل داعية ما لم يكن هناك مانع شرعي لا حركي ولا تنظيمي ، وأن التعاون لا يأتي عبر كلمات معسولة بل بتطبيق حقيقي ، وغير ذلك من المواضيع التي أسيء فهمها وكانت سببا لفقدان الإسلامي الصومالي شخصيته.

وشكرا

عبدالباسط شيخ إبراهيم مَيْلَو .

الجمعة ٢٧/١٠/١٤٤١ه

١٩/٦/٢٠٢٠م.

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى