خواطر دعوية (٧) : اطلالة على الخلافات المتكررة في المساجد الصومالية في المهجر 

المساجد أحب البقاع إلى الله تعالى ، وقد ورد في التنزيل الحض على  تشييدها وبنائها ليرتفع صوت الحق من جنباتها (  فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ ،  رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) النور٣٦-٣٨.

وأهل الإيمان فقط هم من يعمرون ويتعاهدون عليها ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ  ) التوبة ١٨.

وارتياد المسجد والتعلق به من صفات وعلامات أهل الإيمان ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإِيمان ) ، وفي سنده خلاف ولكن معناه صحيح وتعضده الآيات والأحاديث الصحيحة في فضل اتيان المسجد .

ويحتل المسجد مكانة رفيعة بين المسلمين ، ويمثل جامعة كبيرة للحياة ، فهو مكان العبادة والتأله، والعلم والتفقه ، والوعظ والإرشاد ، وهو مأوى ومساعدة الفقراء والمحتاجين والمعوزين ، وهو منبر الانتصار للضعفاء والمظلومين ،  ومجلس القضاء والإصلاح، وغير ذلك من الأعمال التي تصب في صالح المجتمع .

وقد حذّر القرءان الكريم أولئك الذين يحاولون تعطيل وظيفة المسجد وتحويل مساره بغير ما أسس له فقال تعالى :  ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) البقرة ١١٤.

فقد تحدث القرءان الكريم عن أناس بنوا مسجدا وتظاهروا بأنهم فعلوا ذلك من أجل الضعفاء وابن السبيل ، ولكن الله تعالى فضحهم على رؤوس الأشهاد بسوء قصدهم وشناعة فعلتهم ، وكان هدفهم أن يكون وكرا للمؤامرة وإساءة للمؤمنين ، فقال تعالى في شأنهم ﴿ وَالَّذينَ اتَّخَذوا مَسجِدًا ضِرارًا وَكُفرًا وَتَفريقًا بَينَ المُؤمِنينَ وَإِرصادًا لِمَن حارَبَ اللَّهَ وَرَسولَهُ مِن قَبلُ وَلَيَحلِفُنَّ إِن أَرَدنا إِلَّا الحُسنى وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكاذِبونَ ، لا تَقُم فيهِ أَبَدًا لَمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوى مِن أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَن تَقومَ فيهِ فيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهَّروا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرينَ ﴾ التوبة ١٠٧-١٠٨ .

فكل من حاول صرفه عن وظيفته الحقيقية فالأية تجره بذيلها .

المسجد بيت كل مؤمن ، يتساوى فيه كل الناس فلا طبقية ولا عنصرية في داخله إذا كان الإيمان يملء القلوب ويسعى إلى اختيار الباقية دون الفانية .

الصوماليون في المهجر ودورهم في بناء المساجد : ينتشر أعداد كبيرة من المغتربين الصوماليين في أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا والجزئي الجنوبي والشرقي في أفريقيا ، وقد بدلوا جهودا جبارة في تأسيس وتشييد مساجد ومراكز إسلامية  تقدم خدمة جليلة للجالية المسلمة ، فجزى الله خيرا  كل من ساهم وشارك في هذا العمل العظيم .

اعتذار : ما كنت أريد الخوض فيما يجري داخل المساجد والمراكز التابعة للجالية الصومالية في المهجر من نزاع وخلاف وشقاق ، لو بقي في اطاره الطبيعي ولم يخرج إلى العلن كما كان سابقا ، لأن الخلافات لم تكن وليدة اليوم بل بدأت منذ عشرات السنين ، ولم تكن تخرج إلى العلن إلا في حالات نادرة  ، ولكن بعدما وصلت الأمور إلى حدّ غير مقبول ، وانتشرت أخبار الخلاف بالصوت والصورة في وسائل التواصل الاجتماعي ، ونقلت بعض الصحف ووكالات الأنباء عن الخلافات الدائرة بين لجان المساجد ، وطرق المتخاصمون أبواب المحاكم ومحافر الشرطة ، ودُفع تكاليف المحامين من تبرعات المساجد ، كما تم جمع التبرعات من أجل مناصرة أبناء القبيلة الذين يخوضون حربا شعواء من أجل السيطرة والتحكم على المساجد ومقدراتها، وظهر للعلن بأن بعض المنتسبين إلى الدعوة والعلم  يقومون بدور إبليس في إذكاء نار الكراهية والعنصرية والقبلية بين أبناء الجالية ومرتادي المساجد من أجل بقائهم في مناصبهم وضمان استمرار مرتباتهم العالية ، والأنكى من ذلك بأن لا يسمح للدعاة والعلماء الذين لا ينتمون  إلى القبائل المتنازعة على المساجد المشاركة أو المساهمة في حلحلة الخلاف وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء ، بل يتم استدعاء أفراد ممن لا علاقة لهم بالدعوة والعلم ولكنهم ينتسبون إلى القبائل التي ينتمي إليها المتنازعون ، من أجل تسوية القضية في إطار قَبَلي وعشائري ، مما يدل على أن المسجد  حُول إلى  زريبة قبائل معينة .

وأعتقد أن هذا الكلام لا يعجبه كثير من الذين يتحكمون في إدارات المساجد ويقتادون من تبرعاته بدون وجه شرعي ، وقد يُوجه إلى كل من يرفع عقيرته في التحذير من مغبة الاستمرار في هذا الطريق المعوج المخالف للخلق السوي سهام من التَشهير والتَخوين والافتراء عليه من أجل تشويه سمعته ، وهو أمر معروف وملاحظ لكل من له دراية في هذا الشأن ، وأن من لم يستحي الإساءة إلى بيوت الله تعالى ويسعى إلى جعلها بؤر فساد وظلم ليس عنده مشكلة في اتهام غيره بما هو بريء منه .

والقصد من تسطير هذه الكلمات هو من باب المعذرة ﴿ قالوا مَعذِرَةً إِلى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقونَ ﴾ الأعراف ١٦٤، وحتى لا يقول قائل ألم  يكن هناك من يدق جرس التحذير والتنبيه حتى لا تصل الأمور إلى ما وصلت إليه .

الخلاف والتنازع على سيطرة المساجد والتحكم في إدارتها ليس منحصرا في الجالية الصومالية وحدها بل هي موجودة في الجاليات الأخرى ولو بصورة أقل وأكثر تحضرا في لملمة خلافاتهم وحلها .

الناس يتساءلون دائما قلمّا تجد تنازعا واختلافا عند بداية تأسيس المسجد أو المركز ، بل الحماس والغيرة على حب الخير  وحث الناس على التبرع والتفاني في جمع التبرعات شعور لا يوصف ، ولكن المشكلة تبدأ بعد إقامة الصرح وفتح أبوابه للعبادة والدعوة والتعليم والتدريس ، ومن الناذر إيجاد حل جدري للخلاف ، وينتهي غالبا بانشطار المتخاصمين إلى فرقتين أو أكثر وانسحاب إحداهما من المسجد والسعي لتأسيس مسجد آخر قد لا يبعد عن الأول إلا بضعة أمتار ، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ينقسم جمهور المسجد إلى مجموعات، كل مجموعة تقف وتنتصر لأحد طرفي النزاع ، وغالب هذا التأييد ليس معناه بأن هذا الطرف مظلوم يجب الوقوف معه أو ذاك ظالم يجب الإيقاف عند حده ، بل من باب وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد ، لأن المجتمع الصومالي مجتمع قَبَلي إذا مُسّ أحد من أفراد قبيلته ولو كان ظالما ينسى تعاليم الشرع والدين ويتصرف كتصرف الجاهلية قبل الإسلام إلا من رحم ربك.

ويستطرد الناس كثيرا الأسباب والملابسات التي تقف وراء هذه  الخلافات المتكررة والموجودة في داخل المراكز الإسلامية الصومالية  في المهجر ، فمنهم من يرجعها إلى تنافس حركي أو اختلاف في المنهج والمشرب أو نزاع قَبلي أو السيطرة على ميزانية المركز والتصرف بها بدون رقيب ولا سؤال أو تحقيق مصالح شخصية أو البحث عن جاه وشرف أو غير ذلك من أسباب خفية لا تستطيع الأطراف المتنازعة فيها البوح بها أو ذكرها خوفا من الافتضاح ، ولذلك يجادل  كل طرف بأن خلافه مع  الآخر  يدور حول الطريقة الأمثل لأداء المركز رسالته بطريقة شفافة يشارك الكل في تقويمه وتصحيحه .

قلت : سبب الخلاف يمكن حصره في نقطة واحدة ، وما عدا ذلك فهو أمر ثانوي توَلد ووُجد بعد إختفاء الأمر الأول ، فإذا ما عاد مجددا واستعاد عافيته فكل المشاكل ستنحل تلقائيا بطريقة سهلة وميسرة ، والسبب هو : ” خلو القلب من تعظيم الله تعالى وتعظيم شعائره وأمره ونهيه ” ، لأن القلب إذا قَسى وجفّت عروقه وهو في داخل بيت الله تعالى ، لا ينفعه وعد ولا وعيد ، وقد يكون  واعظ المسجد جزءا من هذا  النزاع والخلاف ، وقد يُلبس القضية بلباس الغيرة على حرمات الله تعالى وهو بَريءٌ من إدعاآته كبراءة الذئب من دم إبن يعقوب عليهما السلام  ، وقد حفظ لنا التاريخ  أخبار وحكايات وعاظ وعلماء كانوا أول المخالفين لمواعظهم وكلماتهم المجلجلة للمنابر وانقادوا لتعليمات وأوامر النفس الشريرة الأمارة بالسوء .

عندما يخلو القلب من تعظيم المولى جلا في علاه فلا يرى بأسا في تعطيل المساجد أو التصرف في أموالها بغير وجه شرعي أو يعمل من أجل إيقاع  العداوة والشحناء بين المصلين أو تقسيمهم إلى جماعات وفرق ، أو أن يقرب بعضهم ويبعد آخرين من أجل تحقيق مصالح شخصية أو أن  يمنع  بعض الدعاة المشاركة في الأنشطة الدعوية بسبب   قبلي وحزبي أو يُقيد أسماء أقاربه في ملكية المسجد أو يتسلم راتبا وهو غائب عن عمله في داخل المسجد ، أو يدير المسجد عن بُعد ، بَعد أن سلم الإدارة  إلى من يثق به ولا يرده له قولا، أو يفضل استضافة دعاة يفصل بينهم وبين المسجد آلاف الكيلومترات ويُكلف المسجد أموالا طائلة مع وجود داعية قد يكون مجاورا للمسجد ، من أجل أن الأول تربطه علاقة قرابة أو حركة أو مصلحة وغير ذلك من التصرفات والأخلاقيات المنافية للدين والخلق الحسن .

هناك أخبار وحكايات يندى لها الجبين يتداولها الناس همسا حول ممارسات بعض المتسلطين على إدارات المساجد لا علاقة لها بمصلحة المسجد والدعوة .

تعظيم المساجد من أعظم عرى الإيمان ولا يتأتى ذلك إلا إذا امتلأ القلب إيمانا وإسلاما ، ولا يسئ إلى المسجد ورسالته إلا من ضعف إيمانه ، وآثر العاجلة على الآجلة ، ونسي أو تناسى بأن المسجد والدعوة  أمانة ، وغفل بأن تضييع الأمانة من أمارات آخر الزمان ، ومع ذلك  يعتقد بأنه يحسن صنعا ، وقد ورد في الحديث ( يقال الرجل ما أعقلَه ، وما أطرافَه ،وما أجلدَه ، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ) البخاري .

وأخيرا يجب على الأمة جمعاء الوقوف أمام هذه المهزلة التي أساءت إلى حرمة المساجد ورسالتها ، وجعلت الناس يفقدون ثقتهم بالدعاة والعلماء ويرمونهم عن قوس واحد ، معتقدين بأن التدين الذي يتظاهر به هؤلاء الناس ما هو إلا وسيلة للنصب والاحتيال ، إعمالا وتطبيقا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم في عدم المسايرة مع من يتعدون على حدود الله تعالى عِلما وعدوانا وإصرارا وإلا سيكونون مشتركين معهم في الإثم ، فقد روى أبو داود والترمذي بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ : ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق اللَّه ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب اللَّه قلوب بعضهم ببعض ) ثم قال : ﴿ لُعِنَ الَّذينَ كَفَروا مِن بَني إِسرائيلَ عَلى لِسانِ داوودَ وَعيسَى ابنِ مَريَمَ ذلِكَ بِما عَصَوا وَكانوا يَعتَدونَ ، كانوا لا يَتَناهَونَ عَن مُنكَرٍ فَعَلوهُ لَبِئسَ ما كانوا يَفعَلونَ ، تَرى كَثيرًا مِنهُم يَتَوَلَّونَ الَّذينَ كَفَروا لَبِئسَ ما قَدَّمَت لَهُم أَنفُسُهُم أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيهِم وَفِي العَذابِ هُم خالِدونَ ، وَلَو كانوا يُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنزِلَ إِلَيهِ مَا اتَّخَذوهُم أَولِياءَ وَلكِنَّ كَثيرًا مِنهُم فاسِقونَ ﴾المائدة ٧٨-٨١ . ثم قال : ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ، ولتنهوّن عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ، ولتقصرنه على الحق قصراً ، أو ليضربن اللَّه بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم ) . وإن لم يفعلوا ما أمروا به ﴿ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ ﴾ يوسف ٢١.

 وختاما ﴿ إِن أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ وَما تَوفيقي إِلّا بِاللَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنيبُ ﴾ هود ٨٨ .

د.عبدالباسط شيخ إبراهيم مَيلو

الاثنين  ٢٣/١٠/١٤٤١ه

١٥/٦/٢٠٢٠ م

  

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى