السلفية الصومالية: عودة الى الجذور ام استباق للأخطار؟

ينظر كثير من الناس الى المذاهب الفقهية كمذاهب دينية فقط تعنى بتنظيم سلوك الأفراد والجماعات، ويرون مهمة الفقهاء منحصرة في معرفة الاحكام الشرعية  ولكن المتأمل في المذاهب الفقهية وتطورها وانتشارها فلن تخطي عينه ان لها ابعادا سياسية واجتماعية اخرى تجعلها في كثير من الأحيان جزء من الهوية الثقافية في بعض البلدان. فعلي سبيل المثال نرى المدهب المالكي انتشر انتشارا واسعا في المغرب العربي حتى صار ركيزة أساسية متجذرة في الهوية الثقافية لبلدانها بل تحول الى جزء مهم من الهوية الوطنية لبلدان المغرب العربي فلا ينفصل عن الهويات الوطنية الاخرى التى تشارك فيها الامم وتشعرها بالوحدة والانتماء المشترك مثل الدين واللغة والتاريخ والثقافة وعير ذلك من روابط الانتماء ووشائج القربى والتواصل. وكل ذلك لما لهذا المذاهب من تاثير في حياتهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في مراحل مختلفة من تاريخهم المديد وما يمثله من كنز مهم من تراث هذه الامة لابد من حفظه وصيانته.
فلما انتشر المد الوهابي في العالم الاسلامي منذ النصف الثاني من القرن الماضي ثبت المذهب المالكي في بلدان المغرب العربي لموجات اعاصير التيار السلفي الوهابي الذي كان يتكون من شقين: الشق العقدي في صيغته السلفية الوهابية، والشق الفقهي في صيغته الحنبلية، الا ان هذا الشق الاخير كان متسترا في الشق الاول، والحنبلية لم تكن ظاهرة للعيان ولكنها كانت محمولة تحت عباءة العقيدة السلفية التي كانت بمثابة فتح للقلوب كما يراها أصحابها وتمهيد للأرضية المناسبة لبذر البذور الحنبلية. تصدى علماء بلدان المغرب لهذه الموجة لما لهذه البلدان من مراكز اسلامية عريقة مثل القرويين في المغرب والزيتونة في تونس، واستطاعوا ان يحتفظوا بمذاهبهم التقليدية، ولم يجد المد السلفي الوهابي هناك تربة خصبة للتمدد والانتشار السريع، وكذلك لم يجد فرصة سانحة لتهميش المدهب الفقهي التقليدي او ان يحل محله بسهولة لان المذهب المالكي في تلك البلدان كما أسلفنا القول له جذور راسخة في تاريخ القوم حتى اصبح جزء من هويتهم الوطنية وكنز من كنوزهم الحضارية والثقافية.
ما ذا حدث في الصومال؟
كان المذهب الشافعي هو المدهب السائد في الصومال كما كان المذهب المالكي منتشرا في بلدان المغرب العربي. ولما طرق المد الوهابي أبواب الصومال منذ نهاية الستينات من القرن المنصرم لم يجد مقاومة تذكر من العلماء التقليديين؛ فلم تكن هناك مراكز اسلامية عريقة كتلك التى كانت في المغرب العربي. وقد أبدى بعض العلماء التقليديين  بعض المقاومة ولكنها لم تكن مقاومة منظمة على قدر التحدي الذي كانوا يواجهونه من المد الوهابي الذي كان بيده المال مع حماس الجماعات السلفية لنشر افكارهم الجديدة في المجتمع. العقبة الحقيقية الوحيدة  التى كانت تواجه التمدد السلفي في الصومال كانت الحكومة العسكرية التى كانت تراهم خطرا سياسيا حقيقيا فتحالفت الحكومة مع العلماء التقليديين لمواجهة خطر مشترك وان كان الخطر  الذي يستشعره كل منهم مختلفا كل الاختلاف، بحيث ان العلماء التقليديين كانوا يخشون من التهديد الذي تشكله نلك الجماعات لمراكزهم التقليدية الدينية، في حين ان الحكومة العسكرية كانت تتوجس من الأطماع السياسية للتيارات الاسلامية. ولما انهارت الحكومة العسكرية في عام ١٩٩١ خلا الجو للجماعات السلفية فانتشرت انتشارا سريعا وأنشأت المدارس والمعاهد ونشرت افكارها وتمددت تمددا مذهلا في جميع مناطق البلاد.
ومما يلفت النظر ان كثيرا من لعلماء التقليديين رفعوا راية الاستسلام بعد ان انكشف ظهرهم بسقوط الحكومة، وانضم بعضهم الى الجماعات الاسلامية طوعا او خضوعا للاغراءات التى كانت تستعملها تلك الجماعات لاستمالة خصومهم، واختار بعضهم الاخر العزلة حتى يفتح الله لهم فرجا اخر او يقصى الله أمراً كان مفعولا. وقد استغلت التيارات السلفية من هذا الفراغ السياسي والديني في البلاد فقاموا بتهميش المذاهب التقليدية في البلاد في الفروع متمثلا في المذهب السافعي وفي الأصول متمثلا في المذهب الأشعري فبذرت بدورها فنمت وازدهرت فحلّ كتاب صفة صلاة النبي محل سفينة الصلاة وكتاب التوحيد محل جوهرة التوحيد وابن كثير محل الجلالين، وباختصار حلّ الامام ابن حَنْبَل محل الامام الشافعي وابن عبدالوهاب او ابن تيمية محل الأشعري.
ان العلماء التقليديين الكبار في كثير من بلدان العالم الاسلامي كما راينا في المغرب العربي وكذلك في الشام وفي تركيا وفي اسبا وقفوا سدا منيعا ضد محاولات المد الوهابي لتغيير منظوماتها الفقهية والعقدية. وقد كان مما يوسف له ان علماء تقليديين صوماليين كبار انضموا الى التيارات السلفية وشاركوا في اقتلاع جذور المذاهب التقليدية التي نشأوا عليها وتعلموا في مدارسها ومناهجها فكانوا كمن يبحث عن حتفه بظلفه، وقد ذهب بعضهم الى الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة علماء كبارا شيوخا يتقنون فنون العلم ورجعوا بعد اربع سنوات واقفين على الطرف النقيض لنسف منظومتهم الفقهية والعقدية ليضعوا محلها منظومة فقهية وعقدية اخرى مما ادى في النهاية الى فوضى علمية عارمة، فليس من السهل اجتثاث شجرة اصلها ثابت في التاريخ ووضع مكانها شجرة غريبة مستورة لا قرار لها ولا جذور.
لقد كان لكثير من العلماء التقليديين الصوماليين دور في ضياع كنوز الامة الثقافية والفقهية والعقدية، وكان ينتظر منهم ان يقوموا بحفظه كما قام بذلك غيرهم من العلماء  في كثير من بلدان العالم الاسلامي. لم يكن تاثير ذلك محصورا في مظاهر الفوضى العلمية التى نراها فحسب وانما تجاوز ذلك الى تعميق الانشقاقات والخلافات المدهبية والحركية مما زاد من حالات التدابر والانقسامات في البلاد. وقد سمعنا في الآونة الاخيرة دعوات من بعض التيارات السلفية خاصة جناحها الاعتصامي الوارث لتركة الجماعات السلفية في الصومال للعودة الى الجذور واحياء المذهب الشافعي تعلما وتعليما وتأصيلاً. ولا ندري هل هذه الدعوات يقظة حقيقية واعتراف بالخطأ جاء بعد دراسة ما آلت اليه الامور من الفوضى العلمية والانقسام المذهبي والانشقاقات الحركية  ام مجرد تكتيك اخر لاحياء المذهب الشافعي بعد ان تاكدوا من موت الجماعات التقليدية التى كانت تدعى ملكيته؟
وقد لا يكون الامر بعيدا عن التغيرات السياسية التى تدور في معقل السلفيين في السعودية ودخول العلاقة والتحالف التاريخي بين آل السعود وآل الشبخ ( السلفية) في منعطف خطير يؤذن بتحولات جذرية ستكون لها اثارها الخطيرة على التيارات السلفية في العالم. وربما يكون التوجه السلفي الاخير للعودة الى الجذور استباقا لنتائج تلك التحولات التي تراها انه لن ينتهى لصالح مصالحها، فبذلك تكون قد اعدّت لها ارضية مناسبة لاستمرارها ووجودها بغض النظر عما يتولد عن هذا المخاض من آلام وآمال. ومهما يكن من امر، فان هذه العودة الى الجذور -لا شك- تحول كبير في تطور الجماعات السلفية الصومالية، وقد يكون ايضا إيذانا لرغبة حقيقية في صوملة السلفية التى كانت في السابق نبتة مستوردة غرست في ارض غير ارضها، ولكن السلفيين يريدون الان صوملتها وذلك في مزجها بعناصر محلية مأخوذة من التربة الصومالية مما يعطيها فرصة اكبر للنمو الصحيح والتجذر الراسخ وغرس شجرة محلية اصولها ممتدة الى الروابط التاريخية للامة. تلك محاولة ذكية ولكنها محفوفة بالمخاطر. فاذا نجح السلفيون في الاحتفاظ بعقيدتهم السلفية الوهابية وفي الوقت نفسه نجحوا في العودة الى جذورهم الفقهية فان ذلك يفتح لهم مجالا اوسع للتأثير والبقاء وينبئ عن نضوج فكري وفقهي ستكون له اثار إيجابية في مستقبلهم على المدى البعيد.
والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون.

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى