الازدواجية في قبول النصيحة وردّها

المقصد الأعلى والهدف الأسمى من مشروعية النصيحة هو اصداء المعروف للمنصوح دينا ودنيا ، فإذا لم يتعلق في أدائها ووصفها حكم شرعي فلا مانع من أن يباشرها  كل من له أهل لها .

وأما النصيحة الشرعية في شأن الحلال والحرام والمعروف والمنكر فلا يجوز أن يتولاها إلا من كان عنده حظ من العلم الشرعي ، عرف الأصول والفروع ومسائل المتفق عليها والمختلف فيها وشروط النصيحة وآدابها مع ديانة وحسن خلق ، وأما من ليس كذلك فلا يجوز له أن يقدم عليها أو أن يباشرها بأي ذريعة من الذرائع .

لن أتحدث هنا عن الأدلة الواردة في فضل النصيحة ومكانتها وموقعها وأحكامها الشرعية وأحوالها ومجالاتها وآدابها وكيفية أدائها وأثرها في إصلاح الفرد والمجتمع وغير ذلك من مباحثها المتشعبة والمبثوثة في بطون دواوين العلم والمعرفة ، ولكني أتحدث عن نصيحة من نوع آخر لا يعتبر  المرأ بأنها نوع من أنواع الأحكام الشرعية  الخمسة من إيجاب أو استحباب أو مباح أو مكروه أو محرم ، بل هي نصيحة تخضع لمزاجه الشخصي وظروفه الخاصة وما يجنى وراءها من نفع مادي أو معنوي أو ربح عاجل أو آجل أو جاه عابر أو سلطان مؤقت ، فإن كانت في صالحه قبلها ورحب بها وهشّ وبشّ في وجه من أهداها إليه وعدّه من خاصة محبيه وخلصّ أصدقائه وفتح له قلبه وبيته واستطرد في ترديد مآثره ومناقبه ولو كان من أعدى أعدائه وأسوأ معارفه قبل هذه النصيحة ، لأنها تصب في صالحه ومنافعه الخاصة ، ولأجل ما جُلب على الإنسان من حب مَنْ أحسن إليه تصبح مثل هذه النصيحة سببا لفتح الأبواب المغلقة وتذويب الحواجز النفسية وتقريب البعيد وإزالة الشحناء والعداوات .

وأما إذا كانت النصيحة المقدمة إليه لا تعنيه وحده بل يشاركه في مضمونها ومغزاها غيره ولو كان غير حاضر في الموقع ، وما يترتب عليها

من ربح أو خسارة أو نجاح أو فشل يعم الجميع من دون تفريق وإن كان مستفيدا منها لا يلقى لها بالاً ولا يصغى إليها سمعا بل يعتبرها نوعا من التطفل والتدخل في شأن الآخر ، وقد يصنف صاحبها ممن أعماه الحسد أو أسكرته الغيرة أو من يبحث عن هفوة أو سقطة ليطير بها كل مطير ، وقد يتخذ قرارا يقضى بإبعاد مثل هذا الناصح عن موقع سلطته ومركز ثقله ، وقد يتطور الأمر إلى تشويه سمعته ونشر أخبار ملفقة عنه من أجل إغتياله معنويا ونفسيا حتى لا يحاول مرة أخرى إلى ممارسة هذا النوع من التطفل  .

وقد يسأل سائل عن لغز وطلاسم هذه الحكاية الغريبة التي تجعل النصيحة  تُقبل من وجه وترد من وجه آخر ، قائلا من المستحيل اجتماع الضدين في آن ووقت واحد  :

قلت : فارح (للتمثيل فقط) رجل عصامي كثير الحركة عالي الهمة يطرق كل باب لزيادة رأس ماله ، له دكان لبيع الأقمشة أو مطعم لتقديم الوجبات السريعة أو مكتب لتأجير السيارات أو مؤسسة صغيرة للصرافة والحوالة أو مدرسة خاصة للمرحلة الابتدائية أو خلوة لتحفيظ القرءان الكريم أو يرأس شركة مساهمة ذات أعمال متعددة أو غير ذلك من الأنشطة التجارية ، فإذا ما جاءه أحد وقدم له نصيحة في كيفية وطريقة زيادة الأرباح بدون خسائر أو تقليل المخاطر إن وجدت أو كيفية التعرف على الأسواق الصاعدة أو التعامل مع الشركات الكبيرة التي تزود عملاءها ببضائع ذات جودة عالية بسعر أقلّ  أو طريقة إيجاد أيدي عاملة رخيصة أو غير ذلك من الأمور التي تنمي تجارته وترفع أرباحه، قبلها واستحسنها بصدر رحب وابتسامة عريضة بل وشكر صاحبها بلسان الحال والمقال وأثنى عليه وقدم له هدية وأوصى إلى معارفه وأصدقائه وعماله بحسن التعامل معه إذا  ما احتاج إلى خدمتهم.

مثال ردّ النصيحة:

في ليلة مظلمة لا قمر فيها أصبح الاستاذ فارح إماما أو خطيبا أو شيخا أو مديرا للمركز الكبير أو منسقا ومنظما للملتقيات الدعوية  أو مسؤولا عن العلاقات الخارجية أو مديرا للجمعية الخيرية أو عضوا في مجلس الشورى أو نائبا أو أميرا أو مراقبا عاما للحركة الإسلامية العابرة للقارات أو نائبا في البرلمان أو وزيرا أو رئيسا أو قل ما شئت من مسؤولية عامة في مرافق الحكومة والمجتمع المدني .

وبعد تولى فارح منصبه الجديد بلغ الخبر أصدقاؤه وأصحابه الذين كانوا لا يبخلون عليه بالنصح والتوجيه من أجل تنمية تجارته ، فعقدوا العزم  الوقوف إلى جانبه وتقديم النصيحة والمشورة له ، لأن نجاحه نجاح للأمة وفشله كارثة على المجتمع بأكمله ، لأن الآثار المترتبة على المسؤولية العامة تؤثر سلبا أو إيجابا على الجميع ، والسعي لمحافظتها وصونها من كل عطب واجب على كل قادر .

وبعد محاولات كثيرة وافق الاستاذ فارح الجلوس مع مناصحيه السابقين ، وقدموا ما لديهم من نصيحة ، ولكن الاستاذ لم يعجبه الطريقة التي جاءت النصيحة واعتبرها اعتداء على مقامه ومنصبه ، وتدخلا سافرا في شأن لا يعنيهم من قريب ولا بعيد ، ونظر إليهم نظرة شك وريب ، وأعتقد بأن ما وراء الأكمة أعظم مما ظهر على فلتات ألسنتهم ، وقرر أن يتعامل معها كأنها لم تكن ، وأقنع نفسه بأنها مكيدة مبعثها الحقد والحسد .

لماذا قَبل الاستاذ فارح النصيحة الأولى ولم يستسغ الثانية ورفضها وأساء الظن لمن كان صديقا له قبل تولي المنصب ؟ .

المعادلة بسيطة وسهلة وهي : كل ما ينتج عن عمله السابق من ربح أو خسارة ينفرد بها وحده فقط ولا يشاركه أحد في زيادة ونماء تجارته، فكذلك لا يتقاسمه أحد في خسارته ، ولذلك كان لازما عليه قبول كل نصيحة تساعد في زيادة أرباحه وتقليل خسائره .

وأما رفضه للثانية : لأن المنصب في عرف الناس مغنم لا مغرم ، ومن تولى فيه لا يفارقه ما دام يحظى بثقة سيده الذي عينه فيه ، ومهمته الأولى هو أن يكون عبدا وخادما لمرؤوسه، وكل فشل وانتكاسة وسوء إدارة يحصل في جميع الإدارات الحكومية أو المؤسسات الأهلية يتم تغطيتها عن طريق جهاز مدرب للدفاع عن الفاشلين ونهابي أموال الأمة وسراقها ولأجل ذلك لا يقبل نصيحة الناصحين .

أيها القاري اللبيب من سبر أحوال الناس وتتبع أخبارهم وتعامل مع أمم وأجناس مختلفة رأى عجب العجاب ، ولا يتأتى له ذلك بين ليلة وضحاها ، لأن الخبرة لا تأتي فجأة بل بطول الوقت والقراءة والممارسة واحتكاك الناس وتدوين المواقف وتحليلها بصورة ناصعة لا غبش فيها .

فهذه محاولة من فقه أحوال الناس وعوائدهم مواقعهم.

د.عبد الباسط شيخ إبراهيم

السبت ١٤/١٠/١٤٤١ه

٠٦/٠٦/٢٠٢٠م

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى