رمضان في زمن كورونا

جاء رمضان ولا يزال كورونا يعيث في الارض الفساد، وينشر الرعب والخراب في العالم، وينفث سمومه في النفوس قبل الأجسام، ويفرق بين الأحباب ويفرض التباعد بين الأقرباء، ويزرع الشكوك بين الأصدقاء، ويثير التهم والمخاوف بين الاصفياء. اغلق المساجد والمعابد  والمطاعم والمسارح والملاهي. فهو الآمر والناهي، فلا راد لحكمه فحكمه مطاع ومخالفته لا تطاق. قهر الدول التى كانت تدّعي العظمة والقوة قبل الدول الضعيفة فمرغ انفها بالتراب فاظهر ضعفها وهشاشتها. ضرب الصين وأمريكا فأرداهما لا يقدران دفاعا عن النفس ولا يظهران مقاومة للعدو. مثله كمثل الفارس المدجج بالسلاح الذي يقطع هامة البطل المغوار ويقتلعها من راْسه حتى تنقطع له القلوب وتنخلع له الأفئدة وتمنى الجبان الضعيف لو خسف به الارض وابتلعته في باطنها.
فهذا كورونا فرض قوانينه على هذا الشهر المبارك فألغى صلاة تراويحها باغلاق المساجد في كثير من بلدان العالم الاسلامي فلا جمعة ولا جماعة ولا تراويح ولا اي اجتماع للخير او الشر، فكأن كورونا يستشعر الشر المستطار من كل اجتماع للناس سواء اجتمعوا للهو او للعبادة او للتسلية او للصلاة. فكل اجتماع عنده مذموم، وكل تقارب ممنوع. فكلما ابتعد الانسان عن اخيه الانسان، كان اسلم لنفسه واصح لجسمه، وكلما اقترب ودنا كان ذاك مظنة مهلكة لنفسه ولغيره من اهله وأحبابه.
فيا عجبا! فان الفلاسفة وعلماء الاجتماع وصلوا من بحوثهم قاعدة اجتماعية باتت مسلمة لدىهم ترى ان الانسان اجتماعي ومدني بطبعه، ولكن كورونا فنّد هذه المقولة وسخر من مفهومها ويرى ان الانسان فردي أناني متوحش بطبعه. وصدق كورنا وكذب الفلاسفة وعلماء الاجتماع؛ لان كورونا نظر في سلوك الناس وتصرفاتهم الحقيقية على واقع الارض ولا يأبه للتنظيرات التى وضعها الفلاسفة لتجميل الطبيعة الانسانية التي لم تتغير ولم تتهذب رغم الجهود التي بذلها المصلحون من الأنبياء والعلماء والمفكرين لتهذيب نفوسهم وترقية سلوكهم وتصفية قلوبهم وتزكية عقولهم. ولكن الناس هم الناس منذ الانسان الاول على ظهر الارض فلم تتبدل صفاتهم الوحشية الاولى، وكأن الجشع والأنانية والظلم وغيرها من الصفات الحيوانية صارت ملكة فطرية لازمة لوجودهم ومترسخة في طبائعهم.
ومهما يكن من امر، فاننا نستطيع ان نجعل هذا الشهر المبارك فرصة لعبادة فردية في بيوتنا مع اهلنا وأولادنا فقد تكون العبادات الفردية احيانا أفضل وأكثر ثوابا من العبادات الجماعية بحيث لا يشوبها رياء ولا نفاق. واذا كان كورونا الزمنا البيوت فاننا نستطيع ان نلزم أنفسنا ونشغلها فيما ينفعها من التقرب الى الله والى الأهل والأولاد الذين وجدوا في هذه الجائحة فرصة سانحة يعرف فيها الاولاد آباءهم معرفة اكثر، ويعلم الوالد من احوال ابنائه ما شغلته عنه شواغل الايام وصروف الليالي.
وكذلك يتعارف الزوجان معرفة أعمق مع ما يمكن ان تسبب هذه المعرفة العميقة بين الزوجين في مجتمعاتنا من أضرار. فان الشائعات هي التي تدير العلاقات بين الزوجين اكثر مما يديره العقل والحكمة. وهناك مثل صومالي يقول المتزوجان ليسا بأصدقاء وليسا باعداء. وهذا يعني انهما يعيشان دايما في حذر بحيث لا تكون بينهما ثقة مطلقة ولا عداوة مطلقة وانما يكونان دايما في علاقة ليست بالدافىة كل الدفء الى حد الفتور، وليست بالساخنة كل السخونة الى حد الغليان، ولا يبسط الرجل معه زوجه حبل الود كل البسط حتى لا يفيض، ولا يقبضه كل القبض حتى لا ينقطع، فهذا المثل هو الأساس الذي يحتذيه كثير من الناس في ترشيد علاقته ة مع شريكة حياته. فان كثيرا من الرجال يعتقدون ان معرفة زوجه الكثير من تفاصيل حياته او سلوكه خطر عليه. وقد يكون ذلك وراء سبب ما نراه من عدم إصغاء كثير من الصوماليين لنصائح الأطباء والمسئولين بالبقاء في منازلهم حفظا لصحتهم وصحة أهليهم واولادهم، فكأنهم يفضلون التعرض لكورونا على البقاء في البيت وما قد يعرضه ذلك من كشف الاسرار ! ولله في خلقه شيون!. وقد سمعت ان  زوجة صومالية فقدت حياتها وقتلها زوجها لانها طلبت منه الا يخرج من البيت حتى لا يكون سببا لعدوى كورونا!
خلاصة القول، ان المؤمن لا يزال في خير في جميع أحواله اذا اخلص النية وعرف قضاء ربه، كما  قال الرسول عليه الصلاة والسلام: “عجبا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ”. وما ينقم منا كورونا اذا كان امرنا كما وصفه رسولنا، فان أصابتنا سراء شكرنا وان أصابتنا ضراء صبرنا، وليس كورونا الا من احدى الأضرار التي امرنا بالصبر عليها حتى يرفع الله عنا البلاء. وما ينقم منا كورونا اذا كان إلزامنا في البيوت عبادة وفرضه علينا حجرا صحيا تفكرا في ملكوت الله وتسليما لقضائه وقدره. وقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية من قبل ” وما ينقم مني الأعداء فان سجني خلوة وقتلي شهادة وجنتي في صدري ونفيي سياحة”

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى