العزلة الاجتماعية في زمن التواصل الاجتماعي

 

والأرض مشتاقة للطوفان …. لعلّها من درن تغسل.
خطر لي هذا البيت لابي العلاء المعري في خضم احداث كورونا وما سببه هذا الوباء من فرض حالة طوارئ كونية القت في قلوب الناس الهلع والرعب. لقد ادرك المعري منذ رمن بعيد طغيان الانسان وظلمه وجوره وفساده السياسي والاجتماعي والاقتصادي فرفع عقيرته صارخا من جور الحكام وجشع المرابين. هذه الصرخة المدوية من ابي العلاء صرخة خالدة تخترق حجب المكان والزمان،وكأن هذا البيت يختصر معاناتنا اليوم في زمن كورونا،وكأن كورونا مثل الطوفان الذي تشتاقه الارض لعلها تغسلها من أردان الانسان الذي طغى وتجبر واستكبر وأشاع الرعب والفساد في البر والبحر.
تلك ميزة الشعراء الكبار المبدعين حيث يخلقون المعاني الخالدة من وحي خيالهم المبدع الذي يرتحل ويطوف في آماد الزمان ليهبوا لنا المعاني الانسانية الخالدة بخلود الانسان على ظهر هده البسيطة. والشعراء العمالقة عادة يحبون العزلة الاختيارية قبل ان تفرض ذلك عليهم الطبيعة؛ لان صيد المعاني الراقية يحتاج الى جو من الهدوء والسكينة والى مناجاة مع النفس ومع الطبيعة والى جو روحاني يخرج الانسان معه من جسده الضيق الى فضاءات من الحرية المطلقة يتخفف معها من قيود الجسم المادي ويتحلق في آفاق روحية تلهمه المعاني وتنفث في روعه عناصر الإبداع الفني والتسامي الاخلاقي. ولا غرو ان يكون شاعرنا المعري رهين المحبسين اي محبس العمى ومحبس البيت الذي حبس فيه نفسه واختلى مع نفسه متأملاً الحياة وتقلباتها والنفس وأطوارها والانسان وغروره فوفق في ذلك الكثير مع غلبة روح التشاؤم في شعره وفي تأملاته.
والعزلة مرتبطة غالبا في تراثنا الاسلامي بالإيجابية والصفاء والروح والمناجاة والتطهر وكل ما يرتبط بمعاني الصفاء والسموّ. وكان رسولنا عليه الصلاة والسلام قد اختار العزلة في غار حراء قبل البعثة يعتكف فيها ويتعبدالله ويعتزل الناس وكان ذلك إيذانا وإعداداً لنفسه الشريفة لتقبل وحي السماء. وهكذا فكل الاعمال الجليلة لا بد وان يسبقها رياضة روحية لتهيئة النفس للامر العظيم. وكذلك الشعراء والكتاب والقراء يلجأون الى العزلة لتصفية النفس من كدر الاهواء وتهيئتها لجو من السكينة يستجمعون فيها قواهم العقلية للوصول الى اعلى قمة في صفائها الروحي حتى تجود قريحتهم احسن ما لديها من درر المعاني ولطائف الإشارات.
والانسان اجتماعي بطبعه. حياته مرتبطة بحياة الآخرين وحوائجه عالقة بحوائج الناس حوله فالمنافع متبادلة والمصالح مترابطة فلا احد يقدر بمفرده على القيام بمصالحه بمعزل عن الاخرين ولكن ينبغي للإنسان ان يعوّد نفسه دايما على عزلة موقتة يحاسب فيها نفسه ويناجيها ويتعرف مكان ضعفها وقوتها ويعطي نفسه وقتا للتثقيف والاطلاع. فهذا التعود الاختياري على العزلة في أوقات الرخاء سيخفف عنك الضغط عند العزلة الاجتماعية الاضطرارية التي تفرضها علينا الأحوال الطارئة في زمن الشدة والأوبئة مثل كورونا.
هذا الوباء الكوني الكوروني فرض علينا قيودا صارمة وتحدى الغرور الإنساني وهو فيروس لا تراه العين وسخر بالعلم والطب وكل ما ادعى الانسان من التقدم في زمن العلم الحديث والتكنولوجيا. انه مع صغره وضآلته فأمره مطاع وإنذاره مستجاب ومخالفته لا تطاق. أبقى الناس في مرابعهم قابعين، والطائرات في مدارجها جاثمة، والسيارات في مرابضها ثاوية ،والشوارع من المارة خالية، والدكاكين من الباعة فارغة، والمعالم من السياح عارية، والمساجد من المصلين خاوية، والكنائس من الناسكين عاطلة، والناس في هرج ومرج واضطراب وهلع وخوف، يحسبون كل صيحة عليهم، ويفر المرء من اقرب الناس اليه ومن أصدقائه، بل انه يخاف حتى من ملابسه وشعاره الذي يلي جسده حتى صارت العطسة تهمة بعد ان كانت رحمة ويشتم العاطس ولا يشمّت، وينقبض الناس عن المصافح ولا يمدّون له يدا بعد ان كانوا يهشون له ويتبادرون لردّ التحية باحسن منها، ويلثم الناس افواههم فلا يرتاحون لكلام بعد ان كانوا يأنسون بأحاديث زملائهم وكانهم نذروا للرحمن صوما. انها لعبرة لمن يعتبر وفرصة حقيقية للمراجعة والمحاسبة.كورونا وضعنا في عزلة اجتماعية في زمن ادعى أصحابها غرورا اننا في زمن التواصل الاجتماعي. واين التواصل الاجتماعي في زمن التباعد الاجتماعي؟

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى