المقامة المنامية: حوار مع الإمامين الغزالي وابن رشد. (الجزء الاول)

قال الاستاذ ذهب بن فضة: أويت الى فراشي في ليلة شتوية شديدة البرودة. ولما تغطيت بالملحفة ودبّ الدفء في جسمي أغمضت عيناي وسلمتهما للنوم، ولكن النفس الامارة بالسوء أبت الخلود للرقاد، وبدات تثير في ذهني الذكريات تلو الذكريات. اذكر ما كنت فيه اليوم من هزل وجد وصفاء وكدر، وتمر عليّ الأحداث مرّ السّحاب، وكأنني اشاهد شريطا سينمائيا في ظلمات ثلاث، ظلام غمضة العيون وظلام الغرفة وظلام الليل الدامس، ظلمات بعضها فوق بعض، وكنت في هذه الطلمات مغمض العينين يقظان القلب، اقلّب الامور واضرب أخماسا بأسداس، وأقول في نفسي: لو قلت كذا لكان احسن، ولو فعلت كذا لكان أفضل، ولو سكت عن كذا لكان اسلم، وما الى ذلك من حديث نفس لا ينضب معينه ومناجاة قلب لا تجفّ جداوله.
ومن كل هذا الحديث كانت هناك حادثة علقت في ذهني من ذكريات ذلك اليوم، إِذْ انني في مساء ذلك اليوم نقلت من كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن ابي اصيبعة مقولة لابن رشد الفقيه الفيلسوف يقول فيها (من اشتعل بالتشريح ازداد ايمانا) وشاركتها في ملتقى فقهي. وكان مما اثار دهشتي تعليق احد الاخوة الأعضاء على المقولة قائلا: ان بعض من ترجم لابن رشد ذكر انه مات شاكا في وجودد الله! ثم قال ولا يستبعد ذلك من قرا كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال!). ارتعت  لهذا القول وطار النوم من عيني وبتّ ساهدا، اتقلّب في الفراش وافكر في احوال امتنا وما الت اليه الامور من المضحكات المبكيات، وقلت في نفسي: واعجبا! اذا كان ابو الوليد شاكا في وحود الله (ملحدا) فمن ذا يا ترى يكون مؤمنا بوجود الله؟ وقد اسلمتني فكرة الى فكرة، وقادني موضوع الى موضوع، اتتبّع خيوط ماساتنا وأتعرف على جذور أزمتنا في رحلة متخيلة عبر العصور زاهرها وذابلها، ومثمرها وقاحلها، وخصبها وجدبها، وجزرها ومدها، التقي بعلماء الامة وفقهائها الاجلاء وفلاسفتها العظام مستفسرًا عنهم الداء العياء ومستخبرا عما حلّ بالامة من المرض العضال.
قال ذهب بن فضة: فبينا انا على تلك الحال، فاذا انا ارى فيما يرى النائم رجلين يتسامران في بهو امام قصر منيف مشرف على نهر كأن ماءه الذهب ويحدّّقه من كل الجوانب انواع الأشجار وصنوف الازهار والرياحين. تبدو علي الرجلين  اثار النعمة وألبسهما الله تاج الهيبة وزينة الوقار، ويشعّ منهما النور والضياء، ويتبادلان الحديث بسرور ومودة، ويطاف عليهما بصحاف من ذهب تنوء بما تشتهي الانفس وتلذ الاعين من الأطعمة والثمار والفواكه، فدلفت نحوهما وقد سبق الى انفي عبق المكان منتشيا بشذا عرفه في الأرجاء، ودنوت منهما دنوّ حذّر، ثم ألقيت عليها السلام بصوفت خافت متقطع، فردّا عليّ السلام وقالا: من الرجل؟ ومن اين اقبل؟ فقلت: طالب علم او أنس، يدعى ذهب بن فضة، قادما من دار الدنيا. فرحبا بي وبشّا في وجهي، وخففا عني وتبسّطا معي في الحديث حتى ذهب عني الروع واستأنست بحديثهم، فقلت: لمن الوجوه الطاهرة المضيئة؟ فقال احدهما: انا ابو حامد الغزالي،  وقال الاخر: انا ابو الوليد بن رشد. فكدت أطير فرحا، فقلت ربحت الرحلة، ربحت الرحلة، فقالا: أية رحلة يا بنيّ؟ فأخبرتهم بما كنت مهموما فيه من البحث عن جذور ما اصاب المسلمين وأقعدهم عن الحركة حتى صار جوادهم مصليا بعد ان كان مجليا، وساروا في الموخرة بعد ما كانوا يسيرون في المقدمة، وأصبحوا تلاميذ بعد ان كانوا اساتذة.
فقال الشيخ ابو حامد الغزالي: وكيف عرفت ان رحلتك قد ربحت وانت لا تعرفنا ونحن لا نعرفك؟ فقلت: أنتما علمان، والعلم لا يعرّف، وانا نكرة لا تتعرف، ولقد عرفتكما من خلال الاثار القيمة والمؤلفات المفيدة التي خلفتماها للاجيال اللاحقة لاستهداء الطريق، ولكن الخلف قد اضاعوا الأمانة واتبعوا الشهوات فلم يستضيئوا بنور علمكم  ولم يقتبسوا من نار هداكم.
فقال القاضي ابو الوليد: كيف كانت الأندلس بعدي؟ وكيف حال مدينتي قرطبة زهرة مدن الأندلس؟ فقلت: عَظّم الله اجركم، ايها القاضي الفيلسوف. لقد انتهى الوجود الاسلامي في الأندلس منذ قرون. فقال الفيلسوف: انا لله وانا اليه راجعون، ولا حول ولا قوة الا بالله. وكيف كان مصير المسلمين هناك؟ وأين المكتبات الزاخرة، والقصور الفاخرة، والمساجد العامرة، والحدائق الناضرة ،والملوك الباهرة، والحضارة الزاهية؟ فقلت: كل ذلك اصبح اثرا بعد عين. فالمسلمون في الأندلس هُجّروا من ديارهم غصبا بعد قرنين من رحيلك، وفروا بدينهم كرها او طوعا، وتحول جامع قرطبة الكبير الذي كنت تواظب فيه صلاة الجماعة الى كاتدرائية (كنيسة)، وصار قصر الحمراء من اثار الماضى، يؤمها السياح للفرجة والعبرة، وأحرقت المكتبات وأضرم النيران على الكتب والمخطوطات. وقد طوحت بي طوائح الزمن الى ارض الأندلس في عام ١٩٩٩ ورأيت ما بقي من  اثارها الاسلامية في قرطبة وغرناطة والمرايا وجين وإشبيلية فتمثلت بقول الشاعر:
أما الخيام فإنها كخيامهم * وأرى نساء الحي غير نسائها.
فتركها والعين عبرى والكبد حرّى والفؤاد مقروح، وماذا ينفع البكاء وقد وقع القضاء؟
ولما لم احس حركة من القاضي بدرت مني التفاتة اليه لأطمئن عليه، فاذا القاضي الفيلسوف لم يستطع ان يتمالك من هول الخبر ورايت الدموع تنهمر من مآقيه وتسيل على خديه، فصدّع ذلك قلبي واحرق أحشائي فبكيت لبكائه، فقلت له: صبرا ايها الفيلسوف العظيم،  فان الدنيا دول ولا تدوم على حال. وان تكن الأندلس قد ذهبت، فان اعمالكم لم تذهب سدى، وآثاركم فيها باقية لا تندرس على مر العصور، شاهدة على الحضارة الزاهية التي شيدتموها، وصروح العلم التي رفعتموها، وفنون العمارة التي ابدعتموها، والنقوش العجيبة والزخارف الجميلة التي زينتموها في قصورها ومساجدها. ولَك عندي بشرى طيبة واخبار سارة ستسمعها مني في وقتها في حديث سمركم الليلة. تهلّلت اسارير وجهه، فقال لي: تسمع إذنك خيرا يا بنيّ.
ثم تنهّد الشيخ ابن رشد ونظر اليّ نظرة تبدو عليها علامات الخزن وقال لي: لقد أثّرت في نفسي ذكريات أليمة يابنيّ، واهٓجْتٓ كوامن الأشجان في صدري، وكيف كان مصير كتبي التي احرقت ظلما في نكبتي في بلدي وفي قومي؟ ثم سرح ببصره الى السماء فسمعته يتمثل بقول طرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة * على المرء من وقع الحسام المهنّد.
فقلت له: يُؤسفني ان أكون سببا لاثارة الذكريات القديمة في نفسك، وما أردت ان أؤذيك او أشق عليك، ولكن المنح لا يولد الا من رحم المحن، والنعم لا تأتي الا في ثنايا المعاناة، وهذه احدى البشرى التي كنت وعدتك ان أزفّها إليك. والعظماء لا يزدادون من نكبة الأمراء الا رفعة، واحراق الكتب كإحراق العود، كلما اشتد اشتعالها زاد طيبها وعرفها وانتشارها.
‎وإذا أراد الـلـه نشــر فـضـيلـة * طـُويـت أتـاح لهـا لسـان حسـود
‎لولا اشتعال النار فيما جاورت * ما كان يُعرف طيبُ عَرف العود
وهذا ما حصل لكتبك التى اراد قومك إفناءها، فأراد الله إبقاءها شعلة مضيئة للبشرية جمعاء. وقد زهد فيها قومك جهلا فيما اودعته فيها من الدرر والجواهر فدخلوا مرحلة انحطاط مظلمة،  ورغب فيها الافرنج واعتنوا بها ايما اعتناء؛ لإدراكهم لما فيها من الفوائد الجمة والعلوم النافعة، فنهلوا منها وجنوا ثمارها اليانعة، فنهضوا بعد كبوة، وصحّوا بعد غفوة، واستناروا بعد ظلمة. ولقد افتتن الافرنج بك وباسمك فتونا فسموك Averroes. وفي الوقت الذي كانت كتبك تحرق وتصادر في بلاد المسلمين كان كتابك الكليات في الطب وشروحاتك الفلسفية تدرس في اعرق الجامعات الاوربية كمراجع أساسية في الطب والفلسفة.
وجم الفيلسوف القاضي وأطرق هنيهة ثم رفع راْسه واضعا يده على لحيته فقال وقد غطّت على محيّاه سيما الاسى والحزن: يا بني، ان هذا لمن اللغز الذي يحير العقول ويدمي القلوب ويجعل الحليم حيرانا، وا عجباه! فكيف يلقي علمي رواجا في الافرنج وكسادا في بني قومي؟ وكيف يكون شجري مثمرا عند الكفار جدبا عند المسلمين، وكتبي منشورة في الغرب مهملة في الشرق، واسمي مشهور في اوربا مغمور في الحجاز، ان هذا لمن العجب العجاب؟. فقلت له: ايها الفيلسوف القاضي، لا تحزن ولا يضق صدرك لهذا الامر؛ فان كتبك قد جاءت الى قومك في حالة ادبار درلتهم وأفول شمسهم فلم يقدّروا جهودك حقّ قدرها، وصادفت الغرب حين صعودهم وبزوغ شمسهم فانتفعوا بضيايها واقتبسوا من نور علومها.
فقال الشيخ ابو حامد: لقد راعني ما دهى الأندلس واهلها. وما ذا عن بغداد حاضرة الخلافة الاسلامية ومهد العلم وقبلة العلماء؟
فكان جوابي: ايها الامام الجليل، ان بغداد قد جرفها تيار التتار بعد قرن من رحيلك، وعاثوا فيها فسادا، وخربوا العمران، واحرقوا الكتب ورموها في نهر دجلة، وجرت الدماء كالسيل الدافق في الأزقة. فقال: قاتل الله الهمج، قاتل الله الهمج، فانهم ما دخلوا ارض علم الا جعلوها خرابا، ولا غزوا حضارة الا أشاعوا فيها دمارا، فلا هم انتفعوا بالعلم، ولا هم تَرَكُوا غيرهم ينتفعون به. ألا ما اقبح الجهل! ألا ما اقبح الجهل! وماذا عن مؤلفاتي وكتبي؟ وهل منّ الله عليّ بانقاذ بعضها من همجيتهم ووحشيتهم؟ فقلت له: كان من لطف الله علينا بقاء جملة من كتبك سالمة من الحرق والتخريب، ولم تنلها أيدي العابثين. فقال الشيخ: وهل وجدتم كتابي المستصفى واحياء علوم الدين، وكل الصيد في جوف الفرا؟ فقلت له: نعم، أبشر ايها الامام، قد وجدناهما، ووجدنا غيرهما من مؤلفاتك العجيبة وما دبجت فيها من الدرر الثمينة والعلوم النافعة، وقد كتب الله لأعمالكم القبول عند الناس، والقى حبكم في قلوب عباده المؤمنين، وهذا جزاء الله لعباده المخلصين المحسنين. وستسمع مني ما يثلج صدرك ويريح نفسك لما تركته من اثار طيبة، وساعرض عليك بين فينة واخرى شذرات مما اودعته من الدرر في كتبك حتى تتيقن صدق ما أقوله، مستفسرًا عن بعض ما استغلق علينا فهمه من كلامك. فقال لي: بشرك الله بخير، وأعطاك ما تحبه مما يرضاه الله يا بنيّ، لقد اسمعتني ما سرَّني – أسمعك الله ما يسرك- وفرّجت عني همّي – فرّج الله عنك همّك- وأزاحت عن كاهلي عبئا أرقني خوفا من ضياع أعمالي، أزاح الله عن كاهلك الهمّ والغمّ.
ثم سكت الشيخ ابو حامد ريثما يستريح وأطرق هنيهة ثم رفع راْسه كمن ذكر شييا مهما فقال: نسيت ان أسالك عن  القدس والاقصى، ولقد رحلت عن الدنيا والقدس في يد الصليبيين. فقلت له: عادت القدس بعدك الى اهلها بقيادة ابنك صلاح الدين الأيوبي الذي لقن الصليبيين دروسا لا ينسونه أبدا، ولكن المسلمين عادوا الى سيرتهم الاولى من الاختلاف والنزاع، فذهبت ريحهم وكرّ عليهم الصليبيون كرة اخرى. والآن ومنذ قرن والقدس في يد اليهود والنصارى، فقد هُجِّر أبناء فلسطين، واحتلت ارضهم، واخرجوا من ديارهم، واغتصبت ممتلكاتهم، وعاث اليهود في الأقصى فسادا، وصارت فلسطين كلها مستوطنة مهداة من الصليبيين لشذاذ الافاق من اليهود، حتى صار مغتصب الأرض ضحية يستحق التأييد والتصفيق، وصاحب الارض ارهابي يجب سحقه واستئصاله.
فاسترجع الشيخان وحوقلا، فقال الامام الغزالي: يا للمصيبة! وأين المسلمون؟! فهل تمّ استئصالهم او قلّ عددهم وعتادهم؟ فقلت لهما: فهم اليوم أكثر عددا وأوفر اموالا ولكنهم غثاء كغثاء السيل، اذلّهم حبّ الدنيا وكراهية الموت، فليس هناك اليوم بلد من بلاد الاسلام مستقل استقلالا كاملا حقيقيا، فإما ان يكون محتلا احتلالا مباشرا من قبل النصارى، واما ان يكون واقعا تحت احتلال غير مباشر ناعم ان صح التعبير، والادهي من ذلك كله ايها الشيخان الفاضلان، ان كثيرا من ملوك ورؤساء المسلمين يكيدون بإخوانهم المظلومين ويقفون مع المحتلين الظالمين رغبة في رضاهم ورهبة من سخطهم.  فقال الشيخ ابو حامد: ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وما ذا دهاكم يا بني؟ اليس معكم كتاب الله وسنة رسوله وتراث سلفكم؟ فقلت: معنا ذلك كله كاملا غير منقوص ومحفوظا غير محرّف، ولكن الفهم قد ضاق، والقريحة قد جمدت، والبصر قد زاغ، والخاطرة  قد كدّت، فصار الدواء داء، وتحول البلسم الشافي الى سم زعاف. فانتما عقلان كبيران من عقول هذه الامة، فما الحل فيما نحن فيه من الداء العضال؟ وهل لديكما الترياق لعلاج هذا المرض الذي أعيا الأطباء وحيّر الحكماء.
ولللحديث بقية ……..

 

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى