جَاري أصبح وزيرا :

قال محدثي : بعد انهيار الحكومة الصومالية وانشطار البلد إلى حظائر عشائرية وأصبح الأمن والأمان في خطر ، توجه كثير من الصوماليين إلى منفاهم الاختياري في هذا العالم الرحب ، وتوجهت إلى بلد غربي ، فمن حسن ظني سكنت في مدينة مترامية الأطراف يسكنها مئات الآلاف من البشر من السكان الأصليين والمهاجرين الذين ينحدرون من أصول وأعراق متنوعة ،  ومن شأن الصوماليين إذا ما استوطنوا  مكانا ما ، فأول شيء يفكرون فيه هو البحث عن وجود أسرة وعائلة صومالية تسكن في هذه الحارة ، فإن وجدوا أحدا استبشروا  به ، وإلا حاولوا الانتقال إلى مكان آخر ليتغلبوا  على الوحشة والغربة التي تلاحقهم في كل مكان .

فبعد أيام قليلة من انتقالنا إلى هذا الحي الجديد علمنا وجود عائلة صومالية بمكان لا يفصل بيننا وبينهم إلا عدة بيوت ، ففرحنا بهم وطرقنا عليهم الباب ، فرحبوا  بنا وسرّوا بوجودها في هذا الحي ، وهذه الأسرة مكونة من زوجين وأولادهما الأربعة الذين تتراوح أعمارهم ما بين الثالثة والعاشرة .

وبعد أن توثقت الصلة بين زوجتي وزوجة جاري ، بدأت زوجة جاري تبوح بشكواها وشجواها لرفيقة دربي ، وتذكر من عُجر وبُجر بَعلها ما لا يمكن وصفه وتصوره ، وأنها تحملت حملا ثقيلا في ستره وعدم إظهار عواره لعله يراجع نفسه ويعود إلى رشده ويتحمل مسؤوليته تجاه أسرته ، ولكن وصلت محاولتها إلى طريق مسدود وسئمت إصلاح زوجها ، ولم يبقى في جعبتها أي صبر، واتخذت قرارا نهائيا لا رجعة فيه عن مفارقته وانفصاله ، وبما أن المجتمع  يقف مع الزوج غالبا ويتهم النساء الخروج عن تقاليدها المتوارثة وتحاول الجري وراء  أخلاقيات أمم أخرى من غير أن يستمع إلى مشاكلها، وبسبب ذلك لا تريد أن تمضي قدما إلى هذا الاتجاه حتي تُشهد الآخرين بمعاناتها ، لأن أهله وأقاربه فشلوا في حلحلة الموضوع وتقويم ابنهم واصلاحه أو على الأقل بتذكير مسؤوليته وواجباته نحو أسرته ، كما أن السلطات المحلية قد تدخلت في الموضوع  ولكن الأمر ما زال يراهن في مكانه.

وبعد أن فاتحتني زوجتي الخبر وطلبت إلي التدخل في الموضوع ، اشترطت عليها أن أتعرف على الرجل أولا وأكوِن معه علاقة صداقة من أجل بناء جسر ثقة بيني وبينه ليسهل التعرف عليه عن قرب ، وبعد مدة تمكنت معرفة أخبار جاري ، وعلمت أنه يقضى طول الليل  في مجالس مضغ القات ، ولا يرجع إلى بيته إلا وهو مرهق لا يقدر مفارقة سريره حتي تغيب الشمس ، ثم يعود إلى روتينه ، فلا يبحث عملا ، ولا يعرف أحوال أولاده التعليمية والصحية والمعيشية شيئا، بل لا يقبل مرافقتهم إلى المدرسة في نهاية العام الدراسي لاستلام تقاريرهم المدرسية ، وفوق ذلك لا يحسن التعامل مع زوجته ولا يقدر تضحياتها ولا يشكرها بل يسئ إليها قولا وفعلا .

وبعد جهود طويلة للتوفيق والاصلاح  بينهما باءت بالفشل ، وانتهت العلاقة الزوجية  وافترقا بدون رجعة ، وغادر الزوج البيت ولم يعرف له أي أثر ، بل قطع علاقته بأولاده ، فلا اتصال ولا تواصل معهم .

وبعد فترة من الزمن التقيته في أحد المقاهي وأخبرني بأنه سافر إلى الصومال ووجد عملا في مصلحة حكومية وأنه جمع شيئا من المال وكوّن علاقات مع بعض السياسيين ورؤساء العشائر والحكومات الإقليمية ، وينوي الترشح لعضوية البرلمان ليصبح وزيرا بعد ذلك .

قال محدثي : فسألته عن سيرته التعليمية وخبرته الوظيفية ، فأجابني ساخرا ، بأن الصومال لم يعرف منذ الاستقلال إلى اليوم اشتراط الشهادة والخبرة في تولي الوظائف ، فمقام قبيلتك في كعكعة الوطن وعلاقتك بعلية القوم ثم استعدادك للقيام بأي مهمة يطلب منك سواء كانت نظامية أو غيرها ، وعدم عصيانك لمرؤوسيك ، وفوق كل ذلك كونك فاسدا وفاشلا ، فهي بطاقة مرورك إلى دهاليز الحكم والوجاهة ، ثم إن بيئة الحكم لا يستطيع العيش فيها إلا من لا يحجزه دين ولا خلق ، وليس في قاموسه حلال ولا حرام ، ومستعد لفعل كل شيئ ما دام يكسب وراءه مالا ويحفظ له كرسيه ومنصبه .

فضربت أخماسا لأسداس من هول ما سمعت من جاري القديم ، وودعته بأمل اللقاء في وقت آخر .

ولم تمض الأيام إلا وقد تحققت أمنيات صاحبي فأصبح وزيرا  ..!.

قلت : من حق كل مواطن صومالي أن يتولى منصبا إداريا أو وظيفة عامة وخاصة ما دام تتوفر فيه شروط العمل والتوظيف ، وهذه الحقوق يتساوى فيها المغتربون والمقيمون في داخل البلد ، ولكن المأساة الكبيرة التي جعلت الصومال في ذيل الأمم هو أن التوظيف لا يتم عن طريق الأطر القانونية والنظامية ولا يعطي أي أولوية للمتخصصين وحاملي الشهادات العلمية أو يتمتعون بخبرات عملية بل يتم التوظيف عن طريق جَهوية وقَبَلية ، وقد ازدادت المشكلة في السنوات الأخيرة حيث يتم تقاسم السلطة بمحاصصة قبيلة صِرفة ، والأسوأ من ذلك أن الغالبية العظمي من مسؤولي الحكومة هم من المغتربين الذين لا يحملون شهادات علمية أو لا يتمتعون بخبرات إدارية أو مهنية معتبرة ، وكثير منهم قد فشلوا في تحمل مسؤولية أسرهم وأولادهم ، وقد اشتهر بين الصوماليين المغتربين بأن كل من فشل في إدارة حياته الخاصة ليس له مكان إلى أن يعود إلى أرض الوطن فيزاول مهنته غير الشريفة هناك .

وأكبر مشكلة يواجهها الصومال اليوم هو تبوأ هذه النوعية الفاشلة من الناس في مفاصل الحكومة مما جعل البلاد يتحول إلى مستنقع للفساد والمحسوبية ، وأصبح هذر المال العام وسرقته من أساسيات الحكم .

وليس معني ذلك أن جميع المغتربين فاسدون وفاشلون بل هناك صالحون طيبون ولكنهم قليلون لا يستطيعون فعل شيئ لأنهم في بيئة طاردة لا تتحمل الصالحين .

وأخيرا فمشكلة الصومال مشكلة عويصة غير سهلة ، ولا يمكن حلحلتها إلا بتكاتف الصالحين وتعاون المصلحين ، وإلا سيبقى فيما هو عليه الآن أو أسوأ ما لم يأت الفرج من المولى جل في علاه .

د. عبدالباسط شيخ إبراهيم محمد

يوم الجمعة ١٣/٦/١٤٤١هجري

٧/٢/٢٠٢٠م

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى