الصراع الصومالي الإثيوبي  من منظور تاريخي (2)

نحاول في هذه الحلقة تحديد تأثير الوقائع التاريخية في القرن الأفريقي منذ القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي على الأحداث الراهنة في القرن الأفريقي بين الحبشة والصومال على أمل أن نستوعب من خلاله تداخل العوامل وتمفصل الشبكات  التي تُيسّر إعادة بناء السياق التاريخي المعقّد لهذا الصراع، وتسمح بتفكيك وتحليل مختلف الجوانب السياسية والدينية والثقافية والاقتصادية المطروحة. وهذا ما سيمكّنا من الوقوف على جذور المشروع الإثيوبي المتعدد الأبعاد المرتكز على عقيدة الهيمنة،  ونحاول كذلك الوقوف علي الحدود التاريخية لدولة الحبشة وتفنيد مزاعمها الباطلة حول حقها في الحصول على منفذ بحري في المياه الإقليمية الصومالية في البحر الأحمر،  بالعكس يحق للصوماليين المطالبة  باستعادة أراضيهم التي اغتصبتها الحبشة، كلها بما فيها افات أو ايفات وعاصمتها هرر ، وسوف نبرهن على أنها أي افات أرض صومالية   في سياق حديثنا عن حدود الصومال التاريخية في الفقرات القادمة.

لمحة تاريخية عن الحبشة التاريخية

لا نخوض كثيرا في تفاصيل تاريخ الحبشة وسنذكر لمحات يسيرة عن أهم محطاتها التاريخية والعوامل المؤثرة فيها، أو بقدر ما يتطلبه السياق.

إثيوبيا أو الحبشة كانت إمبراطورية علي جانب كبير من  الشوكة والقوة تضاهي القوى الكبرى في تلك الحقبة مثل الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية وكانت تهيمن على مناطق شاسعة من أفريقيا وجنوب الجزيرة العربية واستطاعت احتلال اليمن 70 سنة. وكانت مدينة اكسيوم قاعدتها وتتكون من أربعة مقاطعات وأقاليم وهي تغراي، امهر، شوا وجوجام والبعض يجعل جوجام جزء من شوا.

كلمة الحبشة هي في الأصل كلمة عربية مشتقة من الحبشات ويعتقد أنها قبيلة عربية من اليمن هاجرت إلى ما يعرف الآن بإريتريا خاصة في المرتفعات الجبلية  والذي يشمل اقليم تغراي في الحبشة. وهناك من يعتقد أن كلمة الحبشة تعني الأجناس المختلطة أو أناس ذو عرقيات مختلفة أطلقها العرب على السكان الأصليين كصفة تحقير ولذلك لا يحبون أن يطلق عليهم اسم الحبشة ويفضلون اسم إثيوبيا التي أطلقها الإغريقيون على الجنس ذو البشرة السوداء وقد ورد هذا الإسم في الكتب القديمة وهي كلمة يونانية وتعني الوجه المحروق. وكذلك يعتقد كثير من الباحثين بإن تعدد الأجناس والعصبيات واللغات هي التي من أجلها اكتسبت البلاد اسم الحبشة. وفي القديم كانت تعرف بالمملكة الاكسومية أو بحري عجازي.

وفي القديم كانت قاعدة الحبشة وعاصمتها اكسيوم ثم انتقلت في القرون الوسطى إلى جوندار في إقليم امهرة، ثم في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي إلى إقليم شوا في عهد منيليك الثاني وأصبحت أديس أبابا عاصمة لها. وكان نظام الحكم فيها الملكية الإقطاعية العسكرية  وكانت تحت تأثير وسطوة رجال الدين منذ أن اعتنقت المسيحةالأرثوذكسية الى ١٩٧٥م. و في القرن السادس الميلادي تراجع وتلاشي نفذوها وانكسرت شوكتها حيث فقدت سيطرتها على الأراضي خارج حدودها خاصة جنوب الجزيرة العربية لصالح الفرس، ومنذ ذلك الحين انكفأت في ذاتها ولم يسمع عنها شيئا يذكر.

حدود الحبشة الجغرافية التاريخية

 هناك شبه إجماع من المؤرخين والرحالة والجغرافيين على أن موقع الحبشة التاريخية في القرن التاسع عشر الميلادي هو في الهضاب والمرتفعات التي كانت تتكون منها الدولة الحبشية القديمة (تغراي -أمهرة-شوا) أما السهول التي تحيط بتلك الهضبة من شرقها إلى جنوبها كانت إلي عهد قريب مماليك وسلطنات مستقلة. يقول الدكتور فتحي غيث : “وتشمل الحدود المملكة الحبشة القديمة مملكة اكسيوم، تلك المناطق الواقعة في شمال الحبشة الحالية ومنتصفها فوق مرتفعات الهضبة وتشمل الجزء الجبلي المرتفع فى إريتريا الحالية وهي امتداد طبيعي لمنطقة تغراي. أما العصور الوسطى كانت حدود الحبشة أكثر اتساع من مملكة اكسيوم فأصبحت تتكون من أربعة مقاطعات وهي تغراي، امهرة، شوا وجوجام” انتهى. تلك هي حدود الحبشة التاريخية والحقيقية والأصلية، لا كما ادعى أباطرة الحبشة في القرون الوسطى وكما يدعيه ساسته في العصر الحديث. وإن أطلقها  بعض الجغرافيين “الساحل الحبشي” على جزء الشرقي المطل على البحر الأحمر مدخل القادمين إلى الحبشة مجازا على سبيل إطلاق الجزء على الكل بشهرتها حيث فاقت على غيرها من المناطق المحيطة بها، ولا يعني ذلك البتة بأنها جزء من أراضيها التاريخية. وقد حدث في الماضي أن خضع الساحل البربري كما يسميه جغرافيو العرب لبعض الوقت لحكم الحبشة، مما أوهم بعض المؤرخين  بأنه تابع للحبشة، مع اعترافهم تميز المناطق الساحلية وشعوبها واختلافهم عن الحبشة وشعبها. ومما عزز توهم شيوع وتردد اسم الحبشة في أصقاع كثيرة من العالم، لأنها أيضا أي الحبشة كانت في العصور القديمة والوسطى هي الدولة الوحيدة في أفريقيا التي تتمتع نظام حكم مركزي ولها جانب من القوة والشوكة،  وتتعدى نفوذها وسيطرتها إلى خارج حدودها،  ولها امتداد سياسي وديني بجنوب الجزيرة العربية كذلك بطبيعة الحال  يربطها بعلاقات تجارية بالجزيرة العربية والإمبراطورية الرومانية والفارسية مما عزز في ترسيخ اسم الحبشة في أذهان الرحالة  والجغرافيين والمستكشفين في القديم والحديث. 

تمت رسم حدود الدول الأفريقية من قبل الاستعمار الأوروبي على خرائط جغرافية هائلة من خلال استخدام خطوط مستقيمة أو متعرجة كبيرة، مع التجاهل التام الانتماءات العرقية واللغوية والدينية التي ساهمت دائمًا في وحدتهم وكان عامل استقرارهم.  إن الحدود الوهمية والخيالية التي تم رسمها تتبع وتلبى مصالح وادعاءات القوى الأوروبية باعتبارها الطريق الوحيد للهيمنة.

إن ترسيم الحدود الأفريقية لم يكن يتناسب مع طبيعة تركيبة السكان والقبائل التي تنتشر في البلدان المقسمة متجاوزة بذلك على جميع العناصر التي تربط بين السكان المحليين كالعرق والدين واللغة وغيرها ويفتقد أيضا لمعرفة طبيعة التقاليد والعادات المتبعة، ونتج عن هذا التجاوز أو التجاهل اضطرابات ونزاعات اثنية ودينية في داخل الدولة الواحدة وكذلك صراعات بين الدول على الحدود المصطنعة والمرسومة بشكل يخل ويمزق تركيبة السكان الأصليين الاجتماعية والدينية والثقافية. الحدود الجغرافية الحالية للحبشة هي إحدى تجليات مؤتمر برلين،  ورسمت بشكل معاكس لانتشار القبائل القاطنة في المنطقة حيث وُزِّع القبيلة الواحدة بين بلدان مختلفة.          

وفي مؤتمر برلين عام 1884/5،  قامت القوى الأوروبية بتقاسم أفريقيا حيث تكالبت عليها وقطعتها بشكل عشوائي لإرضاء  أطراف النزاع،  باستثناء  إثيوبيا ولم يتم إسنادها  إلى أي جهة لأنها كانت تتمتع بحكم مستقل وقوي. وبعد عشر سنوات حاول الإيطاليون استعمار إثيوبيا لكنها هُزمت.  لقد عاودت الكرة  وحاولت مرة أخرى في منتصف الثلاثينات، وتمكنت من احتلالها لكنها لم تدم سوى بضع سنوات.

ومن نتائج مؤتمر برلين ١٨٨٤-٨٥ الذي حدد في ظاهره النظام التجاري الأوروبي في القارة السمراء، وفي جوهره تقاسم القوى الأوروبية القارة الإفريقية فيما بينهم وترسيم الحدود الدول الإفريقية اعتراف قوى الاستعمار الأوروبي بإثيوبيا كدولة مستقلة وحرة مما مهد لها الطريق للإستيلاء على أجزاء من أراضي الصومال بتواطؤ بريطاني-فرنسى مثل إمارة هرر، والدناكل ومنطقة أوغادين وهود. حدود الحبشة قبل القرن التاسع عشر الميلادي تخطت الهضبة  ووصلت إلى أطراف حدود هرر عاصمة ما تبقى من إمارة عدل الإسلامية الصومالية نتيجة التوسع والاستيلاء بالقوة إثر سلسلة من الحروب الطويلة التي خاضتها ضد المماليك الإسلامية المعروفة بالممالك الإسلامية السبعة أو الطراز الإسلامي وبمساعدة أوروبية (البرتغاليين) في القرن السادس عشر الميلادي.

إن السياسة التوسعية والمشروع الهيمنة الذي تقوم به الحبشة ليست فقط نتيجة مطامع اقتصادية وتجارية وإنما وراءها الرغبة في الزعامة والهيمنة واكتساب المكانة الدولية بين الدول الكبرى وتقف وراءها وتحركها الكنيسة الحبشية وتنظر إلى قرن أفريقيا على أنه خزان  من الأراضي المفتوحة للتوسع.

ولأنها في الوقت الحالي دولة حبيسة غير ساحلية منذ عام 1991، عندما انفصلت إريتريا عن إثيوبيا وحصلت على استقلالها، احتاجت إلى الحصول  على منفذ بحري ذاتي مستقل ومباشرة للوصول إلى التجارة العالمية دون مرور عبر دول أخرى. إن نحو 90% إلى 95% من صادرات إثيوبيا تمر اليوم عبر جيبوتي، التي تضم واحدة من محطات موانئ البحرية العميقة القليلة للحاويات  في أفريقيا.  إن اعتماد إثيوبيا بشكل كبير على مثل هذه الدولة الصغيرة يمثل نقطة ضعف كبيرة، كما أن أديس أبابا تشعر بقلق بالغ بشأن وجود قوات بحرية أجنبية في جيبوتي مما يشكل تهديدا على أمنها القومي حسب زعمها.  جيبوتي وإثيوبيا تتمتعان بعلاقات ممتازة وقد تفاوضتا على اتفاقية لتطوير الميناء وإدارته بشكل مشترك.  وستحصل إثيوبيا على حصة من الميناء، في مقابل حصول جيبوتي على حصص في الشركات الإثيوبية المملوكة للدولة. بالإضافة إلى ذلك، استحوذت إثيوبيا مؤخرًا  وعلى شكل غير قانوني  وتَعدٍ سافر على القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية،  على حصة 19٪ من ميناء بربرة في الصومال.  وكجزء من الاتفاقية، تلتزم إثيوبيا ببناء وتعبيد طريق يبلغ ب 780 كيلومترًا بين الميناء ومدينة توغوجالي الحدودية.  وتناقش أديس أبابا صفقة محتملة مع كينيا لشراء أرض في جزيرة لامو كجزء من مشروع ميناء لامو- جنوب السودان- إثيوبيا، بالإضافة إلى مشاريع استثمارية مشتركة في أربعة موانئ محتملة في الصومال.

ورغم أن فكرة بناء قاعدة بحرية عسكرية إثيوبية في البحر الأحمر كانت  تبدو بعيدة المنال في الماضي، إلا أن رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد يرى أن ذلك ممكن اليوم وينبغي النظر في تأسيس القوات البحرية الإثيوبية، كما كان الحال في زمن الإمبراطورية والجمهورية. وتنفيذا لهذه الرؤية، أقدم النظام الإثيوبي مرة أخرى على خطوة جريئة واستفزازية غير مسبوقة في الأعراف الدولية حينما وقع أبي أحمد في ١يناير ٢٠٢٤ مع رئيس ما يسمى جمهورية صوماليلاند الانفصالية موسي بيحي مذكرة التفاهم بين الحبشة وبين إقليم صوماليلاند، والتي بموجبها تحصل إثيوبيا على منفذ بحري  في المياه الإقليمية الصومالية عبر البحر الأحمر بمقدار عشرين كم٢ فى منطقة زيلع الساحلية مقابل إعتراف أديس أبابا بما يسمى جمهورية صوماليلاند وسعيها في المحافل الدولية لنيل إقليم صوماليلاند الاستقلال التام عن الصومال مما أثار موجة من الغضب والاستياء على المستوى الرسمي والشعبي وأعاد إلى الواجهة مرة أخرى الصراع الصومالية الإثيوبية.

 تؤكد المصادر والمراجع التاريخية أن المناطق الساحلية التي تمتد من العمق الداخلية إلى تخوم هضاب الحبشة كانت خارج حدود الحبشة التاريخية وكان يسكنها أناس غير جنس الأحباش ويطلقون على مسميات عدة منها بلاد البربر، بر العجم، اودل، بر سعدالدين، والأخبار  في ذلك مستفيضة ومبسوطه في الكتب التاريخية والجغرافية خاصة في الكتب العربية وكذلك شعراء الجاهلية ذكروها نثرا وشعرا،  ونذكر غيضا منها في سياق الحلقات المقبلة التي سنركزها على أطماع إثيوبيا ليس في سواحل الصومال فحسب وإنما أيضا في برورها، وكيف ظل الصوماليون غصة في حلقها، وسدا منيعا أمام أطماعها الجنونية .

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى