استعداء الحكام على المخالفين في الرأي من علامات أهل الباطل

الصراع بين الحق والباطل ، وبين المصلحين والمفسدين ، وبين أهل الهداية والغواية ، وبين السائرين على طريق الأنبياء المعظمين للوحي والمستسلمين لأحكامه ، وبين المتبعين لأهوائهم المحاولين لتفسير النصوص الشرعية بما يوافق رغباتهم  ، فهو صراع أزلي وحتمي ابتدأ منذ أبينا  آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها  .

وهذا الصراع ليس صراعا عبثيا أو فضوليا ، بل هو صراع بين من يريد أن تتحقق في الأرض العبودية الكاملة لله تعالى ، في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وأن يكون حكم الشرع فوق كل القوانين الأرضية ، وبين من يريد أن يبقى الناس تحت عبادة العباد ، تقود شهواتهم ونزغواتهم البشرية  .

هذا النزاع والصراع ليس له حدود ولا زمان معين بل هو مشتعل ما دام هناك خير وشر ، وفضيلة ورذيلة ، ومصلحون ومفسدون ، ويأخذ أشكالا وأنواعا متعددة، قد يكون صراعا مسلحا ، أو اقتصاديا ، أو إعلاميا ، أو فكريا أو غير ذلك من المنازلات التي تحدث بين أنصار الفضيلة ومروجي الرذيلة . 

قانون التدافع سنة ماضية ما دام هناك حق وباطل ، وفي التنزيل ﴿ وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى العالَمينَ ﴾ البقرة ٢٥١ .  وقال تعالى ﴿ وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَهُدِّمَت صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذكَرُ فيهَا اسمُ اللَّهِ كَثيرًا ﴾ الحج ٤٠ .

 ومن أعظم ما يغيظ ويخيف أهل الباطل تجاه الحق وأهله هو عندما يكون الصراع فكريا وثقافيا ويدور حول البيان والدليل والمناظرة ، وكما يقال فإن الحق أبلج والباطل لجلج فإنهم يتساقطون أمام النصوص والآيات المتطابقة مع الفطرة السليمة ، والعقول النيرة التي لم تفسدها الشبهات والشهوات ، ولعدم قدرتهم على مقارعة الرأي بالرأي والدليل بالدليل ، يلجؤون إلى منطق القوة واستخدام السلطة في تكميم الأفواه  وتغييب صوت الحق عن الساحة ، ليخلو لهم الجو فيبيضوا ويسفروا كيفما يشاؤون.

وقد روى لنا القرءان الكريم بعض الحوارات ، والمناقشات التي كانت تدور بين الأنبياء عليهم السلام وبين مخالفيهم ، وعندما  يعجز المخالفون عن الوقوف أمام البيانات الساطعات كانوا يلجؤون إلى منطق القوة والبطش والتهديد بالسجن والحبس ، فهذا نوح عليه السلام بعد زمن طويل من الدعوة يتلقى تهديدا ورجما  ﴿ قالوا لَئِن لَم تَنتَهِ يا نوحُ لَتَكونَنَّ مِنَ المَرجومينَ﴾ الشعراء ١١٦، وأما لوط عليه السلام فإنه يتوعد بالطرد والترحيل ﴿قالوا لَئِن لَم تَنتَهِ يا لوطُ لَتَكونَنَّ مِنَ المُخرَجينَ﴾ الشعراء ١٦٧.

فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يأتيه الطعن من أقرب الناس إليه وهو أبوه قائلا ﴿  أَراغِبٌ أَنتَ عَن آلِهَتي يا إِبراهيمُ لَئِن لَم تَنتَهِ لَأَرجُمَنَّكَ وَاهجُرني مَلِيًّا﴾ مريم ٤٦. وأما قومه فالأمر بالنسبة لهم فمنته  بالتنكيل والإجرام في حق إبراهيم عليه السلام ﴿ قالوا حَرِّقوهُ وَانصُروا آلِهَتَكُم إِن كُنتُم فاعِلينَ﴾ الأنبياء ٦٨.

ولما لم يستطع فرعون مواجهة ومقارعة دعوة موسى عليه السلام بالحجة والبرهان ، يلجأ إلى منطق البطش والتنكيل ﴿ وَقالَ فِرعَونُ ذَروني أَقتُل موسى وَليَدعُ رَبَّهُ إِنّي أَخافُ أَن يُبَدِّلَ دينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي الأَرضِ الفَسادَ ﴾ غافر ٤٦، إذاً فلا تعجب أن تسلك قريش هذا المسلك المعوج لإسكات صوت الحق الذي يتردد صداه في جنبات جبال مكة ووديانها بعد أن عجزت عن وقفه وتشويهه إعلاميا ، فتلجأ إلى الحبس أو القتل أو الطرد ، فقال تعالى : ﴿ وَإِذ يَمكُرُ بِكَ الَّذينَ كَفَروا لِيُثبِتوكَ أَو يَقتُلوكَ أَو يُخرِجوكَ ﴾ الأنفال ٣٠.

فاستدعاء الحكام واستعانتهم في ملاحقة من يجاهر بالحق ، ويخالف أهل الباطل سنة ماضية ، لا تختص في وقت دون آخر ، فالعلماء والدعاة ورثة الأنبياء ، ولذلك يواجهون في سبيل دعوتهم صنوفا من المضايقات والملاحقات ما داموا لا يتنازلون عن مبادئهم ولا يعرضون علمهم ودينهم في سوق النخاسة ، ولأجل ذلك يحاول أهل الباطل والبدعة إذا ما فشلوا في منازلة من يخالفهم في المذهب والمشرب في ميدان العلم والمناظرة وتقديم الحجج والبراهين فيما يدعون إليه ويحملون الناس عليه ، وتعوزهم الحيلة في بهرجة باطلهم وتزيينه ، وتيقنوا أن عورتهم ستنكشف أمام أتباعهم وستنهار شبهاتهم أمام قوارع الحق  ودلائله ، لا يبقى لهم إلا الالتجاء والاستعانة بأهل السلطة والولاية من أجل إسكات صوت أهل الحق أو سحقهم بالكلية أو وضعهم داخل الغرف المظلمة في السجون ، وهذا الصنيع عبر عنه الإمام ابن قيم الجوزية في نونيته قائلا: 

‏إن كنتمُ أنتمْ فحولا فابرزوا                ودعوا الشكاوي حيلة النسوان 

وإذا اشتكيتم فاجعلوا الشكوى إلـى    الوحيين لا القاضي ولا السلطان ‎.

وقال أيضا :

ما عندهم عند التناظر حجة          أنى بها لمقلد حيران  

لا يفزعون إلى الدليل وإنما         في العجز مفزعهم إلى السلطان .

وقد روى التاريخ نماذج من هذا القبيل ، بأن أهل الباطل يفزعون إلى قوة السلطة وجبروتها في نشر رسالتها ، ولا تسمح بهامشٍ من المناورة لمن يخالفها في مذهبها ، يقول الإمام أبو إسماعيل الهروي : ( عُرضتُ على السيف خمس مرات ، لا يقال لي : ارجع عن مذهبك ، ولكن يقال لي : اسكت عمن خالفك !، فأقول : لا أسكت) سير أعلام النبلاء ١٨/٥١٠.  

فهذا بشر المريسي من دعاة بدعة خلق القرءان في خلافة المأمون بن هارون الرشيد ، يلجأ إلى السلطان من أجل تأليبه على كل من  لا يتجاوب مع فتنته ولو كان من عامة الناس ، فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق ١٩/٥٤٨ بسنده عن يزيد بن خالد قال :  دخل المريسي  يوما على المأمون فقال يا أمير المؤمنين إن ها هنا شاعرا يهجو  ، ويقول الشعر فيما أحدثناه من أمر القرآن فأحب أن تجدد له عقوبة ، فقال المأمون أما إنه إن كان شاعرا فلست أقدم لك عليه ، وإن كان فقيها أقدمت عليه . فقال يا أمير المؤمنين إنه يدعي الشعر وليس بشاعر .انتهى .

وأما القاضي أحمد بن أبي دؤاد كبير المعتزلة في زمانه وحامل لواء فتنة القرءان يتوصل إلى السلطان ويرجوه قتل الإمام أحمد بن حنبل لامتناعه وعدم تجاوبه مع هذه الفتنة ، وكان يقول : ( يا أمير المؤمنين ، اقتله ، هو ضال مضل ) سير أعلام النبلاء ١١/١٦٩ .

ومن ضحايا أهل الباطل الذين ظلموا بسطوة السلطان ما آل إليه حال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى في آخر حياته بعد أن أزعجت فتاويه وأراؤه الفقهية لبعض متعصبي المذاهب الفقهية ، الذين كانت لهم حظوة لدي البلاط ، فسعوا في تأليب السلطان عليه حتى أودع  السجن ظلما وعدوانا ثم مات فيه ، وكان يعتبر ذلك من المنح الربانية لأن الحبس وإن كان مزعجا ومؤذيا لمن أودع فيه إلا أنه يحمل في طياته خيرا كثيرا لمن أحسن توظيفه في مراجعة نفسه وحملها على الطاعة ومداومة الذكر ، وكان يقول في ذلك : (  ما يصنع أعدائي بي؟ ، أنا جنتي وبستاني في صدري ، إن رحت فهي معي لا تفارقني ، إن حبسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة ) ، فأرادوا إسكات صوته المسموع ، ولكنهم ساهموا في انتشار صوته المقروء ، فمؤلفاته في صنوف العلم يتداولها الناس في كل مكان ، فلم يخلف ولدا يدعو له ولكن خلّف وراءه أمة كاملة تترحم عليه وتدعو له دائما .

قال الإمام ابن القيم في الصواعق المرسلة ١/٣٨١ : ( إن هؤلاء النفاة المعطلة إذا غلبوا مع أهل الإثبات وقامت حجتهم عليهم ، عدلوا إلى عقوبتهم وإلزامهم بالأخذ بأقوالهم ومذاهبهم بالضرب والحبس والقتل ،  وتارة يأخذونهم بالرغبة في الدنيا ومناصبها وزينتها ، فلا تقبل أقوالهم إلا برغبة أو رهبة ، والناس إلا القليل منهم عبيد رغبة أو رهبة ) .

وأخيراً  فالاستعانة بأهل الباطل من الحكام والولاة ومن يقوم مقامهم ، أو اللجوء إلى بعض أصحاب النفود ممن لهم صوت مسموع لدى الدولة ، أو من يتعاطف معهم و يتعاطى مذهبهم ، من أجل الحاق الضرر بمخالفيهم أمر موجود ومشهود ، وقد ارتفعت وتيرتها في الأزمنة المتأخرة حيث وجد أهل الباطل من يتعاهدهم بالرعاية والحماية ، بينما أصبح الحق وأهله أيتاما على موائد اللئام.

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه  

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى