ملكة الجمال

توجت ملكة جمال جنوب أفريقيا زوزيبينى تونزى بلقب ملكة جمال الكون لعام 2019 في الأسبوع الماضي. وقد سألتها لجنة التحكيم لماذا تعتقد أنها الخيار الصحيح؟ فأجابت : لقد نشأت فى عالم لا يتصور جمال امرأة في لون بشرتى ونوع شعرى وأعتقد اليوم أن الوقت قد حان ليتوقف هذا التمييز باختياري ملكة جمال العالم.

بادي ذي بدء، نهني زوزيبيني تونزي بتتويجها ملكة جمال العالم ونرجوا ان تستغل هذا اللقب في خدمة القضايا الانسانية في قارتها الافريقية وفي قارات العالم جمعاء. وهنيئا ايضا لكل الأفريقيات اللائي عانين التمييز بسبب لون بشرتهن. جمال تونزي ليس جمالا حسيا فقط وانما يضاف اليه جمالها العقلي والمعنوي. ويظهر جمالها العقلي في جوابها عن سؤال لجنة التحكيم لماذا تعتقد انها الخيار الصحيح؟ فكان جوابها الذي افتتحنا به مقالنا جوابا موفقا ينبئ عن ذكاء اصيل وفطنة فطرية أفريقية . 

ومع انني أوافق تونزي في القائها اللوم على العالم بسبب الصورة النمطية السائدة ضد اصحاب البشرة السوداء الا اننا نحن الافارقة ينبغي الا نلوم الا أنفسنا لاننا نمارس التمييز ضد أنفسنا وضد فتياتنا. ولا يتصور ان يقوم العالم بوقف هذا التمييز دون ان تكون لنا المبادرة الاولى فنوقف نظرة الاحتقار الى ذواتنا. لماذا تطلي الفتيات الأفريقيات وجوههن بمسحوقات وكريمات لتبييض لون بشرتهن ويدفعن في ذلك الغالي والنفيس على الرغم من ان ذلك يلحق اضرارا بالغة في صحة أجسادهن ويشوه صورة وجوههن ويقعن ضحايا للدعايات التجارية لمحلات التجميل العالمية.

جمال المراة الافريقية جمال طبيعي ويكفىها ان تتزين بادوات الزينة الطبيعية التى لا تلحق ضررا في صحة بشرتها. وجمال المراة الاول هو ثقتها بنفسها، ولونها الطبيعي جزء من نفسها وحياتها وطبيعتها فلا بد في ان تتصالح مع نفسها وتشعر بالفخر في لون بشرتها وما حباها الله من جمال طبيعي فطرهن الله عليها. كيف نطلب الى العالم ان ينظر إلينا باحترام ونحن لا نحترم أنفسنا ولا نثق في ذواتنا ولون بشرتنا؟ ومما يحزٌ في النفس ويوغر الصدر انك ترى الأفريقي اذا قدم البلاد الأوربية وصاحب او تزوج فتاة بيضاء من الطبقات المهمشة في مجتمعها تراه يتبختر ويتمطى في مشيته بجانبها ثاني عطفيه خيلاء وتكبرا وكأنه أوتى كنز قارون او زفت اليه الزبا ملكة تدمر في عرشها وابهتها او أهديت اليه بوران بنت الحسن في حسنها وجمالها. 

اختلاف الناس في الألوان والألسن من حكمة الله في خلقه واية من اياته في بدائع صنائعه وعجائب قدرته ( ومن اياته خلق السموات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكم) ولا مكان للتمييز بين الناس بسبب اختلافهم في اللسان او العرق. فكلهم من أصل واحد وتنوعهم واختلافهم ليس الا للتعارف وتبادل الخبرات والمنافع وليس للصراع والتحيز او التمييز ضد بعضهم البعض.

مسابقات ملكة الجمال جزء من تسليع جسد المراة وامتهان كرامتها وإنسانيتها وجعلها اداة دعاية تجارية في يد سماسرة الاسواق الاستهلاكية العالمية والا فلماذا تعرض النساء على المنصة عرضا يشبه عرض سوق النخاسة في غابر الازمان فيحدد لهن الرجال المقاس المطلوب لطولهن وعرضهن ووزنهن وسنهن. وبعد، فما ذا تعني مسابقة ملكة الجمال؟ وعلى اي معيار يوضع لقياس هذا الجمال؟ ومن يضعها؟ فلا شك ان الغالب يضع دايما قواعد اللعبة. فكما ان الغرب وضع لنا قواعد اللعبة السياسية في أقطارنا فانه وضع لنا ايضا معايير الجمال في بناتنا حيث يحب ان تكون الفتاة بيضاء شقراء زرقاوية العينين مستديرة الوجه صغيرة الأنف ضيقة الفم رقيقة الشفتين شبيهة الاشباح معروقة اللحم لا ردف ولا عجز، فحذت فتياتنا حذوهن وغيّرن فطرة الله في خلفهن فبيّضن الوجوه وصبغن الشعر وعملن جراحات لتصغير الأنف وتضييق الفم وترقيق الشفتين، فلا هنّ بقين على فطرتهن ولا هنٌ ازددن جمالا في تغيير خلقتهن كمثل الغراب الذي اراد محاكاة الحمامة في مشيتها فعجز فلا هو تعلم مشية الحمامة ولا هو قادر على العودة الى مشيته الطبيعية كالغربان فبقي يمشي مشبة عرجاء.

وليس للجمال مقياس واحد بين الشعوب وانما تختلف الامم في نظرتها للجمال باختلاف ثقافاتها ونظرتها الى طبيعة الحمال وماهيته وأوصافه. واذا كانت صفات المراة الجميلة  في الغرب كما ذكرنا آنفا فان لدى العرب صفاتها في معاني جمال المراة. فانهم يمدحون المراة في بياضها وسواد شعرها الطويل وسعة عيونها ودقة خصرها وكبر عجزها وسمرة شفتيها. ومفهوم الجمال عند الصوماليين ليس بعيدا عن مفهوم اخوانهم العرب. وهذا امرؤ القيس أمير الشعراء يصف حبيبته بدقة الخصر  وضمور البطن مع بياض الصدر.

مهفهفة بيضاء غير مفاضة … ترائبها مصقولة كالسجنجل.

 

واذا كانت النحافة الزائدة والخفة وسرعة الحركة هي سمات مرغوبة في الثقافة الغربية فان الامر ليس كذلك في الثقافة العربية والصومالية. فالمرأة الممتلئة الجسم المعتدلة الحركة التي تمشى في بطء في غير كسل واحتشام في غير ضعف هي السمات الابرز التي تغنى بها شعراء العرب في وصف المراة العربية. وفد اجاد الأعشى في وصف  مشية المراة العربية حين قال:

كأن مشيتها من بيت جارتها * مر السحابة لا ريثٌ و لا عجل

وصف مشيتها بالاعتدال وعدم السرعة والبط  وشبهها بمر السحابة لا ريث ولا عجل تسوقها رياح معتدلة. وهذ الوصف بالاعتدال في مشية المراة  في بيت الأعشى يذكرني بوصف شبيه في أغنية صومالية شهيرة بمدح صاحبها حبيبته بمشيتها الهوينا المتناقلة:

Culeys Kuma Dhaqaaqdoo Mana Cararto 

Cagta Socodka Kuma Dhererto Ciidee Way 

Cirbsataa

وهكذا فكما تختلف ثقافات الامم والحضارات المتعددة في تقدير الجمال ووصفه، فكذلك يتفاوت الشعب الواحد فى نظرته الى جمال المراة. فالعرب والصوماليون يميلون الى المراة الربعة لا هي بالقصيرة ولا بالطويلة. فهذا كعب بن زهير يقول في بردته:

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة  ***  لا يشتكى قصر منها ولا طول

وقد نسج الشاعر الصومالي محمد نور فضل على هذا المنوال في قصيدته التي يقول فيها:

   

   Hadduu guur qalbiga kaaga dhaco dheelin baad tahaye

Dhulka jiifto lama guursadiyo dhererka qaarkiise.

ولكن الفنان البنادري اويس قميص تغنى بالمرأة القصيرة القامة الفاتنة الحمراء:

Gabar haddii gacal kaa galaayo 

Ha gaabnaatee ha gaduudanaatee.

واذا كان الغرب مغرما بالمرأة النحيفة فان الاديب الصومالي محمد نور فضل يرفع عقيرته ويحذر قومه من مغبة الاقتران بالمرأة النحيلة.

Hadday dhuubo weyd tahayna waa raaxo kaa dhimane.

ثقافة الشعوب وعاداتها وظروف حياتها ونمط معيشتها لها تأثيراتها على نظرة مجتمعاتهم الى هيئة المراة وشكلها. فعلى سبيل المثال تكون المراة السمينة الضخمة مرغوبة في المجتمعات التي تعاني من نقص شديد في الغذاء ويواجه شعوبها الجفاف وشح الطعام. فالسمنة هنا علامة ثراء وترف، والمرأة الممتلئة تنمّ عن غنى اهلها ودلالة على الوجاهة الاجتماعية. بينما في الغرب حيث الاكتفاء الغذائي وتجاوزت المجتمعات عصر الخوف من المجاعات ينظر الناس الى السمنة نظرة اشمئزاز وتعاني المراة السمينة ما يشبه التمييز فترى الناس جميعا في معركة حامية الوطيس ضد السمنة وتبعاتها.

حسن في كل عين من تودّ. ان الجمال شيي نسبي يتفاوت الناس في شعوره تبعا لاختلافهم في أذواقهم. والحكم على الجمال او عدمه يختلف باختلاف الناظر. والناس فيما يعشقون مذاهب. وقد قيل لرجل: محبوبتك كبيرة البطن ضخمة الثديين، فقال: ما أجملها! تدفئ الضحيع وتروّي الرضيع! 

ومن الناس من يهزه الصوت الناعم الجميل:

لها بشر مثل الحرير ومنطق * رخيم الحواشى لا هراء ولا نزر.

ومنهم من تهتز أوتار قلبه لثغر باسم:

كأنما تبسم عن لؤلؤٍ .. مُنضَّدٍ أو بَـرَدٍ أو أقاحْ

ومنهم من يهيم على وجهه من اجل نظرة فاتنة:

إِنَّ العيونَ التي في طرفِها حور … فتلننا ثم لم يحيين قتلانا

ومنهم من يصدمه حتى القبح فيرحمه فيهواه مثل ابن المعتز الذي أحب جارية قبيحة فعُتب فيها فقال:

.

قلبي وثاب إلى ذا وذا * ليس يرى شيئا فيأباه

.يهبم بالحسن كما ينبغي * ويرحم القبح فيهواه

.

كما ورد في بعض الروايات لم تكن ليلي قيس وعزة كثير وبثينة جميل وهدن علمي بوطري وغيرهن من النساء اللائي هام بهن هولاء الرجال وجن بعضهم جنونا وانقطعوا عن الدنيا ومتاعها من اجلهن والتغني بمدحهن وتتبع آثارهن في مقامهن وارتحالهن – لم يكن هولاء النسوة على نصيب وافر من القسامة يذهب بالعقول وانما كن فتيات على مستوى متوسط من الجمال الا إنهن أثرن عاطفة الحب الكامنة في قلوب هولاء الرجال وابقينه اسرى في حبائل إغرائهن الأنثوي. ويروى ان ليلي العامرية التى جن بها قيس لم تكن مليحة كما قد يتخيلها الناس. ويذكر ان أباه قال له يوما ماذا رايت في ليلي هذه وقد بلغني انها قصيرة. فأنشد قيس:

يقول لي الواشون ليلى قصيرة * فليت ذراعاً عَٰرض ليلى وطولها

ومن المهم ان نشير هنا الى الفرق ببن الجمال والملاحة. فقد تكون المراة جميلة ولكنها ليست مليحة. وكانت عائشة بنت طلحة تنافس بالحُسن سكينة بنت الحسين، قالت لها يومًا سكينة: أنا أجمل منك، قالت عائشة: بل أنا! فاختصمتا إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال: لأقضينَّ بينكما، أما أنت يا سكينة فأملح منها، وأما أنت يا عائشة فأجمل منها، فقالت سكينة: قضيت لي والله! ويبدو ان سكينة فهمت ان للملاحة فضلا على الجمال وكأنها روح الجمال وروعته وهزته. 

مسابقات الجمال يختبر فيها جمالا على مقاييس محددة طولا وعرضا ووزنا. وهذا جمال من غير ملاحة. ولا يقاس الجمال ولا يوزن وانما يشعر ويتذوق بالنظر او بالسمع. ملكة جمال كل احد منا في بيته وهي زوجه وام عياله فعليه الاعتناء بها فملكها دائم خالد خلود العلاقة الروحية بين الزوجين وليس كمملكة مسابقات الجمال فهى مملكة موسمية موهومة تتغير كل عام. وماذا تفيد مملكة لا تدوم غير عام؟ والجمال العقلي والمعنوي والاخلاقي أبقى اثرا من جمال المظاهر الذي يزول بمرور الايام والليالي. اختيار لجنة مسابقة الجمال زوزيبني تونزي الافريقية ملكة جمال هذا العام خطوة في الاتجاه الصحيح وتصحيح المسار والحدّ من الاثار السيئة للصورة النمطية للمراة الافريقية، فهنيئا لها بهذا الاختيار الموفق.

عبدالواحد عبدالله شافعي

المراجع:-

الاغاني للأصفهاني 

.ديوان الأعشى.

ديوان قيس مجنون ليلي.

المراة للعقاد.

عبد الواحد عبد الله شافعي

كاتب صومالي من مواليد بلدوين ومقيم في بريطانيا. حصل على درجة الليسانس في الدراسات الإسلامية واللغة العربية من كلية الدعوة في ليبيا في عام ١٩٩٤. نال دبلوم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الكلية نفسها في عام ١٩٩٦. حصل على ماجستير في اللغويات وتعليم اللغات الأجنبية من جامعة لندن متروبولتان في بريطانيا في عام ٢٠١٦. يعمل في خدمة الجاليات المسلمة في بريطانيا. له مقالات وبحوث فكرية وسياسية منشورة في الصحف والمواقع العربية. يهتم بقضايا الفكر الاسلامي السياسي
زر الذهاب إلى الأعلى