أحلام ثقافية (ركن أسبوعي) عباقرة لهم أصول في المنطقة (21)

تابع بترجمة فضيلة الشيخ نور الدين علي بن أحمد علو المجيرتيني صاحب التجديد والابداع  (4)

فقد ذكرنا فيما سبيق بأنّ الشيخ نور الدين التحق بالسلك القضاء في الصومال وخاصة في مدينة مقديشو واستمر على العمل مدة بعد أن رجع إلى بلاد الصومال لينشر ما تعلمه خلال رحلته العلمية . ويعتبر بعض المفكرين الصوماليين بأن الشيخ نور الدين بن علي المؤسس الأول للدعوة السلفية في العصر الحديث في الصومال، ومهما كان إنّه مما لا شك فيه أن فضيلته – رحمه الله – كان من أوائل من صدع وجهر ما يسمى الدعوة السلفية في بلد انتشرت فيه البدع والخرافات من ناحية ويعيش تحت وطأة الاستعمار الأوربي الذي كان يحكم البلاد من ناحية أخرى ، وقد عانى في ذلك مرارا كثيرا.

الشيخ نور الدين علي في الأزهر الشريف:

بعد سنوات مكث الشيخ في البلاد واستقر فيها  حصل منحة دراسية من الأزهر الشريف يطلب منه رغم أنه كان يعمل في السلك القضائي – كما ذكرنا سابقاً – وسمحت له الإدارة الإيطالية بكامل مرتبه، وبذلك كرّ الشيخ كرته لطلب العلم مرة أخرى حيث رحل في هذه المرة إلى الديار المصرية والتحق بجامعة الأزهر الشريف بحيث أنّه فور وصوله هناك التحق بالجامعة وخاصة كلية الشريعة ثم تخرج منها في عام 1380ه. ومن حسن حظه انضم إلى قافلة الحجاج إلى بيت الله الحرام وهو في القاهرة مع زوجته التي كانت معه على حساب وزارة الأوقاف المصرية لأنّ ذلك كانت خلال تواجده في مصر. 

عودته الثانية إلى الصومال:

ولما أنهى الشيخ نور الدين علي بن أحمد رحلته العلمية في مصر عاد إلى الوطن ، وقد صادفت عودته باستقلال الصومال من الاستعمار ونيلها بالحرية والاستقلال بعد فترة عاشت البلاد تحت وطأة الاستعمار الأوربي وتمزيق البلاد وتقسيم الأمة إلى خمسة أقسام، وفي هذه الفترة كانت تهب في القارة الإفريقية ريح الاستقلال من الاستعمار بحيث استقلت دولاً عديدةً في بدايات الستينات. 

رئيساً في محكمة التمييز ومستشاراً في المحكمة العليا:

 ومهما كان فإنّ الشيخ عاد إلى أرض الوطن كما أشرنا وفور وصوله إليها تعين رئيساً في محكمة التميير ” الاستئناف” في مقديشو العاصمة ثم أصبح مستشاراً للمحكمة العليا. وبهذه السرعة ترقى فضيلته على مناصب مهمة كونه كان أهلاً لها بعد أن تصلح بصلاح العلم والمعرفة ، لأن الأمر يتعلق لمن له معرفة في أمور الشريعة والقانون ولديه خبرة وحنكة في المجال. ولم تتوقف التعينات بحيث عين ولكن هذه المرة في مؤسسة إقليمية عالمية واختير عضواً في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ولم ينفصل عنه ، ولم يفصل منه ، ولكن تأخر عنه لظروف قاهرة بعد قيام الثورة في الصومال في 21 أكتوبر عام 1969م.

رئيساً لجماعة أنصار السنة المحمدية في الصومال:

وفي تلك الفترة تأسست جماعة أنصار السنة المحمدية بالصومال واختير للشيخ نور الدين رئيساً عاماً لجماعة، ولعل الشيخ نور الدين اقتبس الإسم من جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر ، بحيث كان يترأسها شيخه الشيخ محمد حامد الفقي ، وقد ذكرنا فيما سبق بأن الرجلين التقيا في الحجاز وخاصة في مكة وقد تتلمذ الشيخ نور الدين عليه وأخذ منه علماً نافعاً، وأكثر من ذلك عند وجود الشيخ نور الدين في مصر ربما احتك هذه الجماعة وشرب من مشاربها المعروفة.

مديراً لإدارة الشؤون الدينية التابع بوزارة العدل:

وكانت الأحداث السياسية في الصومال في غاية السرعة وعدم الاستقرار ، وأسست وزارة السيد عبد الرزاق حاج حسين إدارة الشؤون الدينية التابعة لوزارة العدالة، وكان وزير العدل والشؤون الدينية الشيخ عبد الرحمن حاج مؤمن، فتعين الشيخ نور الدين علي مديراً للشؤون الدينية مع بقائه في منصبه مستشاراً في المحكمة العليا كل ذلك في فترة الستينات وفي عصر الانتخاب والديمقراطية.

دعوة الشيخ نور الدين تقتحم في بلاط الدولة وقصورها:

وعلى الرغم من أنّ الشيخ نور الدين علي بن أحمد تولى مناصب عدة إلّا أنّه لم يفارق في الكرسي العلم وواجبه كالداعي إلى الله سبحانه وتعالى لأنّه رحمه الله كان يهتم بنشر المبادئ الإسلامية المبنية على الاعتصام بالقرآن الكريم والحديث الصحيح، ولم يكن يتهاون في تبيين قبائح الشرك وعقوباته، كما نشر عيوب الشيوعية وكراهيتها، ودرس تفسير القرآن الكريم سبع مرات في مسجد مرواس وحده، ومسجد شنغاني ، ومسجد أربع ركن ، ومسجد فخر الدين ، كل ذلك في المساجد وأرقة العلم في البلاد. كما أنّ دعوة الشيخ امتازت بأنّها تجاور من أماكنها المعتادة بحيث وصلت إلى بلاط الدولة الصومالية ودورهم ، وكان رحمه الله يقرأ التفسير في بيت وزير الداخلية السيد ياسين نور حسن ، وبيت قائد الشرطة اللواء محمد أبشر موسى ، وفي مركز  الجمعية. الجدير بالذكر أنّ هذه الدروس كان يحضرها رئيس الجمهورية صاحب الفخامة السيد آدم عبد الله عثمان ورئيس البرلمان الشيخ مختار محمد حسين ، وئيس الوزراء السيد عبد الرزاق حاج حسين، وكثير من الوزراء والنواب في البرلمان وضباط في الشرطة، إضافة إلى ذلك كان فضيلته مدرساً في مدرسة البوليس التي يتخرج منها الضباط من عام 1963م وإلى عام 1969م.

طلبه من الملك فيصل بن عبد العزيز:

وخلال توليه في إدارة الشؤون الدينية لوزارة العدل بعث رسالة إلى جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله يطلب منه بناء مسجد جامع وفتح معهد إسلامي ، وفور وصول هذا الطلب إلى مكتب الملك أمر جلالته نتفيذ الأمرين، ونفذ ذلك فعلاً مسجد التضامن الإسلامي ومعهد التضامن الإسلامي في مقديشو، رغم تأخر تنفيذ مشروع المسجد فيما بعد.

 أوضاع الشيخ بعد تولي مقاليد البلاد العسكر:

فقد مهد استيلاء العسكر على الحكم اغتيال رئيس الجمهورية صاحب الفخامة عبد الرشيد علي شرماركي علي يد أحد الجنود في أسباب غامضة لم يكشف بعد رسمياً ، وعلى إثر ذلك تولى الجيش الحكم في 21/10/1969م بقيادة اللواء محمد سياد بري رئيساً للبلاد عن طريق ذلك الانقلاب الأبيض، ومنذ ذلك اليوم جرى من الحوادث متنوعة مع فضيلة الشيخ نور الدين ، بل وسجن مراراً كثيراً بدون جريرة بل بتهم ملفقة وافتراءات مدبرة ، ولم يأل الشيخ نور الدين جهداً في القيام بواجبه حتى عندما كان بين المسجونين إرشاداً وتدريساً، وعندما أفرج اضطر الهجرة إلى خارج الوطن، بحيث خرج من الصومال بدون جواز سفر – بسحبه منه – إلى أن وصل جمهورية أوغندا هو وأخوه آدم على أحمد وابنه مصطفى نور الدين ولهما جوازات في عهد الرئيس عيدي آمين.

الرئيس الأوغندا يكرم الشيخ نور الدين في بلده:

وبعد وصول الشيخ هارباً من بلده الصومال إلى إوغندا التقى به فخامة الرئيس الأوغندا عيدي آمين حاج داتا ورحبه، بل وأكرمه باعطاء الجنسية الأوغندية، ولا غرابة في ذلك لأن  الرئيس آمين كان معروفاً بالحماس الشديد للإسلام والمسلمين كونه كان مسلماً غيوراً . ومن هنا حصل الشيخ حماية وجواز السفر الأوغندي وسافر إلى المملكة العربية السعودية في موسم الحج عام 1399ه ، غير أنّه عند وصوله إلى الممكلة تعرض بعض المضايقات في مطار جدة فاتصل صديقة الحميم الشيخ محمد الخير بن عمران حسن اللوايي الرحنويني رحمه الله فأخبر وضعه في المطار ، فاتصل الشيخ محمد الخير بدوره إلى مكتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله والذي تدخل الأمر واستطاع الشيخ نور الدين الخروج من المطار والدخول إلى المملكة ثم أداء مناسك الحج علماً أن سماحة الشيخ تكفل جميع الرسوم المتعلقة بسفر الشيخ، وبعد انتهى موسم الحج التقى الشيخان عبد العزيز بن عبد الله باز ونور الدين بن علي ، وترجى سماحة الشيخ بن باز أن يساعد الشيخ نور الدين إخوانه في دار الحديث بالتدريس ونشر العلم، مطالباً من جهات المعنية الضيافة للشيخ ولأخيه وأبنه.

الشيخ نور الدين بن علي مدرساً بدار الحديث الخيرية بمكة:

وقد استجاب فضيلة الشيخ نور الدين طلب الشيخ ابن باز كعادته حيث لا يرد مثل هذه الطلبات المتعلقة بالدعوة ونشر العلم، ومن هنا أصبح مدرساً في دار الحديث الخيرة بمكة المكرمة لمدة لا تتجاوز سنة.

اختياره وتعلقه بنشر الدعوة في إفريقيا:

ورغم إمكانية الشيخ نور الدين الاستمرار في أماكن المقدسة وقيامه بالتدريس في معاهد المملكة إلّا أنّ فضيلته تعلقت نفسه الانشغال بالدعوة إلى الله في القارة الإفريقية ونش ما علمه الله من العلوم والمعرفة فيها، وقد توافقت الرئاسة العامة للدعوة الإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على ذلك ، وتمً تعيينه مبعوثاً إلى أوعندا التي كان يحمل جنسيتها ، وقد توجه فضيلته رحمه الله إليها عن طريق تنزانيا ، وأصبح مدرساً في معهد بلاد الثانوي بكمبالا، واستمر الشيخ هناك يدرس هذا المعهد وينشر الدعوة في أوساط الناس حتى استولى مقاليد الحكم في البلاد المعارضون من غير المسلمين. وعندما حدثت البلاد الفوضى وعدم الاستقرار وفرّ الرئيس عيدي آمين اختار فضيلته المقام بالدولة المجاورة وهي كينيا، ومن هنا أقرّت الرئاسة أن يستمر الشيخ جهوده العلمية والدعوية في كينيا بحيث صار الشيخ نور الدين مدرساً في معهد كيسوني الثانوي في مدينة ممباسة الساحلية ، واستمر على التدريس حوال خمس سنوات، ثم حولته الرئاسة العامة للبحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد من كينيا إلى الصومال في عام 1403ه بطلبه ، وأخذ من سفارة الصومال بأوغندا في كمبالا تأشيرة الدخول إلى الصومال.

عودته الأخيرة إلى الصومال:

وبعد دخوله إلى الصومال حصل الإقامة الدائمة على جوازه الأوغندي ومن يوم دخوله في 9 فبراير عام 1984م حتى في الفترات المتأخرة كان داعياً إلى الله والدعوة في الصومال كيفما أمكن في المساجد والبيوت بالحكمة والموعظة الحسنة مع التعاون بالإدارة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد فيما تحتاج إليه وتطلبه منه. ولا شك خلال هذه المدة الطويلة التي كان فضيلة الشيخ أبو محمد نور الدين علي بن أحمد قضى في خدمة الدعوة ونشر العلم لا شك أنه تخرج على يديه عدد كثير من طلبة العلم، من خلال الحلقات العلمية التي كان يعقدها في المساجد والبيوت أو في المدارس والمعاهد وأروقة العلم الأخرى، وخلال هذه المدة أسس وساهم الشيخ في تأسيس مدارس  ومعاهد في بلاد الصومال  وخارجها….

وللحديث له بقية…

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى