الصومال واحتمالية نشوب حروب فتن من جديد

       الحرب الفتن هو ذك الحرب الذي دارت رحاه في شعب واحد، يشترك أرضا ودينا ولغة. وتكون أسبابه متنوعة أغلبها وأصعبها الأسباب السياسية، والتعارك على المصالح المشتركة، كل فئة تحاول أن يكون لها قدح المعلى، وهذه الحروب وأسبابها تزداد كلما يتقدم الإنسان من حيث الاستغلالُ والاستفادة من الموارد الطبيعية في الأرض؛ لأنه عندئذ يدرك أهمية الأرض التي يقطنها، وما خلق الله فيها من كنوز عظيمة، وما يجرى تحتها من المعادن، والبترول، والأنهار، وما خلق عليها من البساتين، والزروع، والأنعام، كل هذا يجعل ذلك الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض جشعا لا يقبل التقاسم معه هذه الثروة، فيستعمل جميع ما أوتي من قوة للدفاع عن أرضه وثروته؛ بينما يحاول الآخرون ألا يتركوا فئة معينة تستأثر ثروات البلد الذي تنتسب إليه أمة بكاملها، لها شعار واحد؛ وراية واحدة؛  من هنا تشتد ضراوة الصراع بين الجانبين حتى يفني بعضهم بعضا، أو يغلب خصم على خصم؛ ولعل هذا يشير إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى …. وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل وقوله صلى الله وسلم وقوله صلى الله وسلم: فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم.

  فإرهاصات صارع الصوماليين من جديد على المصالح المشركة من القوة والثروة فهو أمر متوقع ومؤلم، ومما يقوي هذه الاحتمالية سير الأحوال السياسية في المنطقة، وتتداخل المصالح والصراع الدائر بين الحكومة الفيدرالية والحكومات الأقاليم، المبنية على أسس عشائرية وقبلية، وعدم فهم القيادة الجديدة هشاشة الأرض التي تقوم عليها الدولة الصومالية.

ومما تفوت هذا الهاجس المشئوم، واحتمالية العودة إلى الوراء ما يلي:

  أولا: بناء دولة القانون؛ وذلك بناء أسس قانونية متينة، ونظام شفاف يعول عليه الشعب ويثق به؛ لأن المسلمين على شروطهم.

   ثانيا: تنفيذ هذا القانون ومراقبته بكل جدارة وصرامة، وتطبيقه على الرئيس والمرؤوس، والكبير والصغير، والغني والفقير، والرجل والمرأة، حتى يستظل تحت قانون لا يفرق بين الشعب باللون، واللسان، والمنطقة والقبلية، ويستطيع توزيع الثروات بوجه عادل لا محسوبية فيه.

   ثالثا: تفعيل مؤسسات المراقبة  ولكن المؤسف حقا أن الحكومة الحالية حلت المؤسسة الوحيدة للمحاسبة المالية التابعة للبرلمان بعدما اكتشفت بأن أكثر من أربعة مليون دولار اختفى عن حساب الدولة، فبدل أن تُشجع مثلُ هذه المؤسسة صار جزاؤُها الحل وإنهاءُ مسئوليَتِها، وإذا لم يكن على الشخص تهمة لا يمكن أن يرفض المحاسبة، وإذا كان فاسدا لا يقبل المحاسبة، وإذا كان نظيفا يقبل الشفافية بكل صدر رحب، كما كان يقول أجدادنا إن الحلال تؤكل في رابعة النار لأن الحلال لا غريم لها، ولا مطالب يخاف منه، وأما الحرام لا يمكن أكلها في رابعة النهار لأن صاحبها الشعب سيكتشف ذلك وسيطلب حقه.

وإذا اتحدت المؤسسات الثلاث: الحكومة، والقضاء، والبرلمان وسيطر عليها شخص واحد يعني ذلك موت العدل والشفافية، وانتشار المحسوبية والفساد.

   الدول في هذا العالم قد جربت طرق الحكم فترة طويلة، فتعلمت من حيث التجربة أن أي دولة فقدت مؤسسات المحاسبة والمراقبة والمتابعة المستقلة فإنها تغرق في بحور الفساد والنهب والرشوة؛ لأن شهوة الحاكم إذا لم تجد من يضع لها حدا فإنها تأكل الأخضر واليابس، وتفسد الدين والدنيا، وتعلم منه الشعب اللصوصية والرشوة؛ ولأنه

      إذا كان رب البيت بالدف ضاربا
            فشيمة أهل البيت كلهم الرقص 

لما أُتِي عمر بتاج كسرى وسواريه جعل يُقلبه بعود في يده ويقول: والله إنَّ الذي أدَّى إلينا هذا لَأمين. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنتَ أمينُ الله، يؤدُّون إليك ما أدَّيتَ إلى الله، فإذا رَتَعْتَ رَتَعُوا. قالَ: صَدَقْتَ (رواه البيهقي في السنن الكبرى:١٣٠٣٣)
وفي رواية
: فقال له علي بن أبي طالب: (يا أمير المؤمنين عَفَفْتَ فَعَفُّوا، ولو رَتَعْتَ لَرَتَعُوا).

وقد جعل الإسلام للشفافية آلية من أروع الآليات ألا وهي آلية الحسبة النهي عن منكر الدولة وبتعبير آخر مراقبة الشعب للدولة عبر مؤسساته. ومحاسبة الدولة بداً من أعلى الهرم هو أصل من أصول الدين، وعمد من عموده، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فرضه الله على الشعب. يقول الإمام الغزالي رحمه الله: فقد نعتَ الله المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين (إحياء علوم الدين، ج2، ص270).

وقال الإمام النووي قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية. والله أعلم. (شرح صحيح مسلم) (الفتوحات الربانية ج، 3، ص 214)

قال الغزالي: قد شرط قوم هذا الشرط ـ أن يكون مأذونا له من جهة الإمام ـ ولم يثبتوا للآحاد من الرعية الحسبة، وهذا الاشتراط فاسد، فإن الأخبار والآيات التي أوردناها تدل على أن كل من رأى منكرا فسكت عليه عصى، إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له (إحياء، ج2، 386)

   وأداء عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء من نظام أو أفراد، وسواء من رئيس أو مرؤوس هي أصيلة لا تحتاج الإذن من أحد، فإذا وجد منكر كالاعتداء على حقوق الشعب، أو التفريط على دينه ودنياه، عندئذ يجب الانكار على من قدر عليه، فإن سكت أثم؛ لأن الله أمر عباده أن يستقيموا؛ وأن يأمروا الناس بالاستقامة. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الصفة بأن يتقربوا إلى الله بهذه العبادة حيث قال لهم: أليس قد جعل الله لكم ما تصدقون… الأمر بالمعروف صدقة والنهي عن المنكر صدقة وجعلها من العبادة التي يؤديها المؤمن في كل يوم لقوله صلى الله عليه وسلم لكل سلامى من الناس عليه صدقة، في كل يوم تطلع فيه الشمس… الأمر بالمعروف صدقة والنهي عن المنكر صدقة وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم، من أفضل العبادات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضل جهاد كلمة عدل عند سلطان جائر.

وهذا الحديث وأضرابه دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ذروة سنام الإسلام ومن الجهاد المفروض على الأمة؛ لتراقب سير الدولة؛ وتتعاون على حفظ الدين والدنيا، وأن هذه العبادة في أئمة الجائرين، والحكام الظالمين أفضل؛ لأن المراقب يعرض بنفسه للسجن والقتل والطرد وأنواع العقاب.

وقال صلى الله وسلم وهو يحث الأمة على عدم التهيب عن ظلم الحكام سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله صححه الشيخ ناصر في سلسلة.

يقول الغزالي رحمه الله: فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين؛ لكونهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم، ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية؛ أثر كلامهم في القلوب القاسية، فلينها، وأزال قساوتها. 
وأما الآن؛ فقد قَيدت الأطماعُ ألسنَ العلماء؛ فسكتوا، وإن تكلموا؛ لم تساعد أقوالَهم أحوالُهم، فلم ينجحوا، ولو صَدَقوا وقصدوا حق العلم؛ لأفلحوا. 


ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا؛ لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر (إحياء علوم الدين 2/ 357) وهذا أداء ما فرض الله عليهم لقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آلِ عمران من الآية:187.

ومن قام بهذا الواجب فقد يوسمه الناس بأنه متطرف معارض، وأنه مثير بالفتن والشغب، ومن داهن الناس، أو بارك لهم في زلاتهم، أو برر اقتراف المنكر فهو منور متفاهم متحضر.

عَتَبْتُ على الدنيا لرِفعة جاهل …. وخفضِ لذي علم فقالت خذ العُذرا
بنو الجهل أبنائي لهذا رفعتهم …….. وأهل التقى أبناء ضَرَّتي الأخرى
أأترك أبنائي يموتون ضَيعة ً……….. وأرضعُ أولاداً لضرتي الأخرى

   ولا يخفى على أحد أن على القائمين بمهمة المحاسبة والمتابعة، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألا يتحول النهي عن المنكر منكرا آخر، فلا يخرجون عن جادة القانون الشريعة ولا يتورطون بالألفاظ الغليظة، والكلمات النابذة، والألفاظ السوقية من السباب والشتم، كيا من لا يخاف الله، ويا فاسق، ويا جائر، وغيرها مما يترتب عليه الخروج عن الشريعة، وتهييج الرعاع على المسئولين، والحث على الخروج مما يؤدي إلى إسالة الدماء، وتخريب البلاد، وتدمير الممتلكات، وإغراء الأعداء على احتلال البلاد.

رابعا: على الدولة أن تخلى عن الشمولية والهيمنة على المؤسسات الخاصة؛ لخصخصة القطاع العام؛ لتجد فرصة بوضع استراتيجية عامة لمؤسسات الدولة، وسن القوانين الضابطة، وحماية مصالح الشعب بواسطة آليات التشريع والتنفيذ؛ لأن الدولة الشمولية لا تنجح في الحياة، ولا تبني دولة عادلة، وخير مثال في ذلك: دولة العساكر التي حكمت البلاد بالشمولية؛ ولكنها في آخر المطاف انتهت بفشل ذريع، وكارثة أكلتِ الأخضر واليابس، والعاقل لا يلدغ من جحر مرتين.

  والمتأمل أهم أسباب التي أدت إلى انهيارها كان عدم احترامها القوانين والنظم، والانفراد بالقرارات المصيرية، وتغييب الشعب وخبرائه، وإبعاد الشورى، والتجاهل من نصائح أهل العلم والخبرة، واتخاذ القرارات المصيرية من جانب شخص واحد أو مجموعة تؤمن ما أريكم إلا ما أرى“!

  خامسا: موضوع الدولة وحكمها حساس جدا لدى الشعب، مازالت تبعاتها مدوية في أذهانه، فباسم الدولة التي بذلوا لها كل نفيس وغال نهبت الأموال العامة، وباسم الدولة شردت ملايين من الشعب، وباسم الدولة وقانونها وجيوشها زهقت أرواح بريئة من الشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والأبرياء النزَّه، وإن هذا الجرح لم يلتئم بعد، وإن بريق السيوف الحتوف ما زالت ماثلة أمام العيون، وإن أجدادنا كانوا يقولون: إن خدعتني أول مرة فأنت الخداع، وإن خدعتني مرة ثانية فأنا السفيه

    والكل يشهد بأن الشعب الصومالي شعب طيب النفس، كريم السجية، ينسى الآلام سريعا، ويحلم عند الأزمات، ويعفوا عند المقدرة، ويتغافل عند الإساءة، ويتجاوب إذا وجد قيادة صادقة تعطيه ضمانات مادية من عدم استغلال المنصب مرة أخرى، وعدم الخداع تارة أخرى كما خدع عدة مرات، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال توفير الأمن للشعب، أمناً يأمنه من ظلم الحاكم وحكومته، أمنا يأمن من المحسوبية، والقبلية، والأنانية. أمنا يأمن من مس كرامته وحريته الفردية. أمنا يأمن من نهب ثرواته، وتسخير الدولة لمصالح شخصية وفئوية، وعشائرية. وإن الشفافية والعدل، وسادة القانون، وتطبيقه على قدم المساوات سوف يعطي الشعب ثقة بحكومته، وزيادة للاستقرار، وجمع شتات أطيافه، وتقود لهم التقدم والازدهار في الدنيا والآخرة.

يوسف أحمد محمد   السويد

   

الدكتور يوسف أحمد

الشيح يوسف أحمد ... طالب في دراسة الدكتوارة. تخرجت كلية الدراسات الاسلامية بمقدشو عام 1989. إمام وخطيب بمسجد في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى