مؤشرات فشل الإدارة الأمريكية في إقرار الأمن بالصومال.. المغزى والمفهوم!!

مؤشرات فشل الإدارة الأمريكية في إقرار الأمن بالصومال PDF

 مرت العلاقات الأمريكية الصومالية بالعديد من مراحل الصعود والهبوط، وكانت الأهمية الاستراتيجية للصومال في منطقة القرن الإفريقي ومضيق باب المندب والبحر الأحمر، سبباً في ظهور الاهتمام الأمريكي المتنامي بالصومال، وتحديداً منذ عهد الرئيس الأمريكي أيزينهاور، عندما قام الأخير بترقية العلاقات الدبلوماسية الأمريكية مع الصومال عبر تحويل قنصلية بلاده في العاصمة مقديشو إلى سفارة رسمية عام 1960، ولم تكن تداعيات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي ببعيدة عن هذا الاهتمام الأمريكي بالصومال؛ فبالإضافة للحرص الأمريكي على تأمين ضخ النفط الخليجي عبر الصومال، كان للنوايا التوسعية الروسية في منطقة القرن الإفريقي عبر الحليف الإثيوبي وقتها، دور كبير في توطيد العلاقات الأمريكية الصومالية إلى درجة قيام واشنطن في مراحل تالية باتخاذ قواعد عسكرية أمريكية شمالي الصومال، لمواجهة التطلعات الروسية المتنامية، وهذا كله يوضح مدى حضور البعد الأمني، والأمني/الاستراتيجي، في توجيه سياسة أمريكا تجاه الصومال، والذي أصبح بدوره ” ذا أهمية كبرى بالنسبة لواشنطن؛ إذ تستطيع الولايات المتحدة استخدامه كمنفذ تتصدى من خلاله لأي تهديد عسكري روسي لآبار النفط في الشرق الأوسط”[1]

     وعند استحضار طبيعة الدعم الأمريكي للصومال، بما في ذلك الدعم الأمني والعسكري، فإنه لا يمكن إنكار وجود هذا الدعم على مراحل وفترات مختلفة شهدتها الأحداث في الصومال؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، شهدت السبعينيات والثمانينيات إلى جوار الدعم المالي ” قيام وزارة الدفاع الأمريكية في الثامن والعشرين من يونيو عام 1988 بتقديم أسلحة متطورة تقدر قيمتها بمبلغ 1.4 مليون دولار أمريكي للقوات المسلحة الصومالية بما فيها 1200 بندقية إم/16 وأسلحة أخرى تقدر قيمتها بمبلغ 2.8 مليون دولار”[2] ومما يدل على استمرار الدعم الأمريكي الاقتصادي والأمني للصومال دون انقطاع، ما تم نقله مؤخراً عن وثائق وسجلات خاصة بـــ(الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية)، والتي تفيد بأن أعلى معدلات هذا الدعم كانت عام 2012 وبقيمة 469 مليون دولار أمريكي، وأن العام 2016 شهد حصول الصومال على دعم أمريكي مقداره 274.7 مليون دولار، من بينها 174 مليون دور كانت مخصصة للمعونات الإغاثية والغذائية، و 43 مليوناً أخرى تم تخصيصها للعمليات الأمنية[3] وفي الفترة من 2007 وحتى نهاية العام 2013 تقريباً “أنفقت الحكومة الأمريكية أكثر من 500 مليون دولار لتدريب أكثر من 15000 جندي ضمن قوة الاتحاد الأفريقي، وإمدادها بالعتاد، لفرض النظام وتعزيز قوة الحكومة الوطنية في الصومال، كما أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 170 مليون دولار لإنشاء جيش صومالي وطني”[4]

     ولكن رغم الاعتراف باستمرار الدعم الأمريكي للصومال على المستويين الاقتصادي والأمني، لا يمكن إغفال تواضع هذا الدعم إذا ما قيس بحجم المصالح الأمريكية في الصومال، وكذلك إذا ما قيس بحجم النتائج المترتبة عليه، وهي بجد متواضعة جداً وخاصة فيما يتعلق بالنتائج والنواحي الأمنية، ولعل مجمل النظرة التحليلية للخبراء السياسيين والمحللين الاستراتيجيين، تصب غالبيتها في إطار توصيف السياسة الأمريكية بما فيها الدعمين الاقتصادي والأمني، بأنها متأرجحة وغير ثابتة، ولا يمكن تصورها في نطاق من التوازن الفاعل أو المؤثر على المستوى الأمني والاستراتيجي؛ لذا فإن التوصيف الأمثل هو أنه منذ تاريخ بدء العلاقات الأمريكية الصومالية” يبقى الدعم الأمريكي للصومال متذبذبا”[5]

     وهنا لابد من طرح التساؤل المنطقي: ما السبب في هذا التذبذب الأمريكي تجاه الصومال وخاصة من الناحية الأمنية؟ وللإجابة على هكذا تساؤل، فإنه لابد أن نأخذ في الحسبان جملة الاعتبارات التالية فيما يخص السياسة الأمريكية بشكل عام:

  • أولاً: يظن البعض على سبيل الخطأ أن شعار(أمريكا أولاً) الذي تبنته إدارة الرئيس الأمريكي الحالي(دونالد ترامب)، تقتصر تطبيقاته العملية والميدانية فقط على قرارات الإدارات الأمريكية الصارمة والمتشددة في سياساتها تجاه الغرماء، كما هي الحال مع هذه الإدارة الأخيرة، وهو ظن خاطيء جملة وتفصيلاً، على الأقل من وجهة نظر كاتب هذه السطور؛ فقد برهنت غالبية الأحداث التالية لانهيار الاتحاد السوفييتي وتربع الولايات المتحدة الأمريكية على كرسي القيادة والهيمنة العالمية، أن السياسة الأمريكية(الداخلية والخارجية) دوماً ما تكون قراراتها العسكرية، الأمنية، الاستراتيجية، السياسية، والاقتصادية، مغلفة بـــ(الأنا الأمريكية)، حتى على أيدي الإدارات الأمريكية الناعمة إذ صح هذا الوصف، ومن ثم فإنه من غير الوارد إطلاقاً في عرف السياسة الأمريكية أن يتم تقديم مصالح الحلفاء ناهيك عن مصالح الغرماء، إذا ما تعارض ذلك مع جوهر المصالح الأمريكية، فهذا أمر مستبعد تماماً في عرف السياسة الأمريكية مهما اختلفت إداراتها، وبتطبيق ذلك على توجهات الولايات المتحدة ناحية الصومال، ربما نجد تفسيراً منطقياً لهذا التذبذب الواضح والتاريخي في الموقف الأمريكي تجاه هذا البلد؛ حيث تعاملت الولايات المتحدة مع مقديشو من منطلق تأمين المصالح الأمريكية في الصومال، وليس من منطلق تأمين المصالح الصومالية كأولوية ضرورية؛ ومن ثم فلم تتردد واشنطن مطلقاً في التحالف مع أطراف كانت تتعارض منطلقاتها ومصالحها مع المصالح الصومالية؛ لذا فقد ظل “هناك ارتياب صومالي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، كان دوماً يلحق الضرر بالتعاطي بين الطرفين”[6]
  • ثانياً: ينطلق التعامل الأمريكي مع الصراعات المختلفة في دول العالم، من وجهة نظر خاصة جداً بطبيعة الذات الأمريكية المهيمنة، ووجهة النظر هذه، نابعة من أيديولوجية قديمة ومتجذرة في الشخصية الأمريكية، تعود بعض ملامحها إن لم تكن كلها، إلى عهود التمييز العنصري، وهو ما عبر عنه البعض بأن جوهر السياسة الأمريكية يتجسد في” ثالوث: المبدأ، والبديهية، والمسلمة، فالمبدأ تحديدا هو الإقرار الإلهي بمسئولية الولايات المتحدة الأمريكية عن العالم، أما البديهية فتتحدد في كون أن العرق الأمريكي الأبيض هو العرق الأسمى (الخير)، في حين أن المسلمة تعني سحق كل من يهدد أصولية الوجود الأمريكي وتقدمه، إنها أواليات مرجعية ومحددة ومنتجة لمعنى الفلسفة السياسية الأمريكية”[7] ومثل هذا التعامل الأمريكي وفق الأيديولوجية المشار إليها، غالباً ما يشتت الذهنية الأمريكية الحاكمة عند التعامل مع الصراعات والاشتباكات الحادثة في دول العالم؛ إذ تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مضطرة للقيام بمهام أكبر بكثير من حجمها كدولة من دول هذا الكوكب، ومن ثم فإن الكثير من مهامها الأمنية والعسكرية والسياسية خارج محيطها، غالباً ما يصاب بالعشوائية والارتجالية وردود الأفعال المفاجئة وغير المحسوبة، وكلها أمور تفضي حتماً إلى فشل محتمل، خاصة مع القدرة على أحادية اتخاذ القرارات دون النظر لاعتبارات الحلفاء؛” فإلى اليوم لا توجد إلا دولة واحدة قادرة على استعمال وسائل القهر بدون استشارة الآخرين: أمريكا، أما الباقي فلا يمكنه إعلان الحرب دون استشارة الحلفاء والدول المجاورة”[8]
  • ثالثاً: يلعب التضارب المفاهيمي فيما يتعلق بتعريف الإرهاب ضمن المواثيق والأعراف الإقليمية والدولية، دوراً بارزاً في ضبابية التعامل الأمريكي مع مناطق الصراع في العالم، الأمر الذي ينبني عليه عشوائية التعاطى الأمريكي مع التيارات الدينية في العالمين العربي والإسلامي، ومن ثم فلا تملك الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية واضحة تمنحها الاستعداد والجاهزية لإجراء حوار حضاري فاعل مع العالم الإسلامي؛ لذا فإن المنطق الغالب على التعاطي الأمريكي مع مناطق الصراع هو منطق القوة والبطش عبر الضربات الأمنية والعسكرية، الأمر الذي يضاعف عداء الكثيرين ضد الولايات المتحدة وضد الأنظمة السياسية المتعاملة معها أو الحليفة لها، وهو بدوره ما يمثل عبئاً ثقيلاً على الأنظمة السياسية، يحول بينها وبين تحقيق الاستقرار المحلي والإقليمي، وينطبق ذلك على النظام في الصومال بكل تأكيد، ناهينا عن أن المنطق الأمني الغالب للإدارات الأمريكية المتعاقبة في تعاملها مع مناطق الصراع، قد يورط الأنظمة السياسية الحليفة لها ــ بطريق الخطأ المعلوماتي أو الاستخباراتي ــ في صدامات أمنية وعسكرية وعرقية غير مسبوقة، وهو ما شهدته الساحة الصومالية بالفعل عندما أدت ضربات أمنية أمريكية لعناصر جماعة الشباب، إلى مصرع صوماليين أبرياء من بعض القبائل والأعراق، ما أدى إلى خروج هذه القبائل في مواجهة الحكومة الصومالية، ووفق أحدث التقارير الموثوقة الصادرة عن منظمة العفو الدولية، بشأن الضربات الأمريكية في الصومال، فإن هذه الضربات” تسببت في سقوط مدنيين، كما أنّ السرّية التي تكتنف مقتل هؤلاء المدنيين تخفي جرائم حرب محتملة؛ حيث توصل فريق التحقيق الجنائي إلى أدلة موثوقة بشأن مقتل 14 مدنياً في خمس غارات فقط، من أصل أكثر من 100 غارة شنتها طائرات أمريكية بدون طيار، وطائرة أخرى مزودة بطيار”[9]

     ومن جملة الاعتبارات السابقة يمكن لنا أن نستنتج الآتي:

  • أن عمليات واشنطن الأمنية والعسكرية في الصومال متأثرة بجوهر الأيديولوجية الأمريكية المنحازة إلى تحقيق مصالح(الأنا) الأقوى في المنطقة والعالم، وهو ما يعني أن الأهداف الاستراتيجية لهذه العمليات ربما تخرج عن نطاق المصلحة الصومالية في بعض الأحيان، وخاصة إذا تعارضت المصالح وتباينت الاستراتيجيات؛ فالأقوى دوماً يفرض مصالحه وأهدافه!!
  • أن الولايات المتحدة الأمريكية توجه ضرباتها للمتشددين في الصومال لا على سبيل التحديد الواضح والبين لهؤلاء المتشددين، وإنما وفق الرؤية الأمريكية الخاصة والضبابية بشأن المستهدفين بتلك الضربات، وهو ما أصبح واضحاً في عهد الإدارة الأمريكية للرئيس ترامب؛ حيث سمحت هذه الإدارة بتوسيع نطاق الضربات الأمنية والعسكرية، واعتبار مساحات كبيرة من الأراضي الصومالية(مناطق عمليات عدائية يصنف سكانها على أنهم داعمين لحركة الشباب) دون القيام بالتدقيق الواجب تجاه تلك المناطق وهؤلاء السكان[10]
  • أن الضربات الأمنية الأمريكية في الصومال تعاني العجلة والتسرع الناجمين عن تعدد المهام العسكرية المماثلة للقوات الأمريكية في بقاع شتى من العالم؛ بمعنى أن الولايات المتحدة ــ وفق استراتيجيتها الأمنية في التعامل مع مناطق الصراع ــ غير قادرة على إنجاز المهام العسكرية والأمنية بشكل حاسم؛ لأنها ببساطة شديدة لا تُلقي بأعداد كبيرة من قواتها في أتون هذه الصراعات؛ لذا فهي دوماً لا تملك الوقت الكافي لتحقيق الجاهزية الكاملة للإنجاز والحسم، وخاصة في الصومال، لأنها تعتمد على الضربات الجوية بعدد بشري محدود من الطيارين، أو على طائرات بدون طيار، وهو في مجمله ما يأتي بنتائج عكسية؛ إذ تصبح ضرباتها العسكرية والأمنية مصابة بالهشاشة والعشوائية، وبتحييد الأهداف الأساسية لصالح أهداف هامشية أو غير مقصودة ضمن النطاق العسكري والأمني المشروع!!
  • أن الإدارة الأمريكية تتعاطى مع مناطق الصراع والاشتباك والإرهاب بمنطق فوقي هو منطق القوة الضامنة لتحقيق الحسم والإنجاز في أي وقت، وهذا المنطق ينطبق تماماً على الموقف الأمريكي تجاه العمليات ضد جماعة الشباب في الصومال؛ حيث يتعاطى الأمريكان مع الوضع في الصومال عموماً، بنوع من التراخي المذموم من وجهة نظر كثيرين، ولعل هذا التراخي مرتبط بإطالة أمد البقاء الأمريكي على الساحة الصومالية لتأمين مصالحها الخاصة، وهو ما يمنحنا تفسيراً ربما لصمود جماعة الشباب في مواجهة الضربات الأمريكية حتى اللحظة، بل وقابلية هذه الجماعة للنهوض مجدداً بعد تقليص نفوذها في مقديشو، وذلك رغم ما نقل عن صحيفة وول ستريت جورنال من قولها:” إن حرب الولايات المتحدة ضد حركة الشباب في الصومال هي واحدة من أطول الحروب في التاريخ الأمريكي”[11]
  • أن جوهر القوة القاهرة والغالبة والمتفوقة هو المسيطر على مضمون التعاطي الأمريكي مع مناطق الصراع في العالم ومنها الصومال، لذا فإن المنطق الأمني والتعامل العسكري هو المقدم لدى الإدارة الأمريكية في مواجهة المتشددين، وهو ما يجعل هذه الإدارة ترفرف بجناح واحد في مواجهة أجنحة متعددة تملكها عناصر التنظيمات المتشددة المختلفة، الأمر الذي يتمخض في الغالب الأعم، عن وضعيات أمنية أكثر تأزماً وراديكالية، وهو أمر منطقي؛ إذ أنه في عرف خبراء السياسية والاستراتيجية، لا يمكن للمنطق الأمني والعسكري أن يكون الأداة الوحيدة للتعاطي مع العناصر الراديكالية والمتشددة؛ إذ لابد من الجمع بين القوتين الخشنة والناعمة، وهو ما لا تقوم به الإدارة الأمريكية في الصومال، ما جعل من الصعوبة بمكان على هذه الإدارة ووفق هذا النهج، أن تحقق أية انتصارات حقيقية وحاسمة ضد المتشددين على الساحة الصومالية وفي منطقة القرن الإفريقي، اللهم باستثناء النجاح المحدود في إقصاء حركة الشباب عن العاصمة مقديشو خلال المرحلة القريبة الماضية، وهذه الحقيقة اعترف بها قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا مؤخراً أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي، عندما أكد صراحة” أنّ الحملة الجوّية التي يشنّها الجيش الأميركي في الصومال لن توقف الجهاديّين، وأن ضرباتها لن تهزم حركة الشباب”[12]

وبخلاف الاعتبارات والاستنتاجات السابقة، فإنه بالعودة إلى فترات الذروة من حيث صعود مؤشر الاهتمام الأمريكي بالصومال وبالتواجد على ساحة الصراع فيها، سواء في مراحل ماضية أو في المرحلة الراهنة، وجدت أسباب مباشرة أخرى، تصب في إطار العمل على تقليص النجاح الأمريكي في تحقيق الأهداف المطلوبة والمرجوة على مختلف الأمداء، وهو ما يمكن تلمسه والوقوف عليه من خلال الآتي:

  • التحفظ الأمريكي: فمنذ عقود ماضية، وتحديداً خلال العام 1993 كانت الحرب الأهلية على أشدها بين الفرقاء الصوماليين المتصارعين على الحكم بعد سقوط نظام سياد بري، الأمر الذي رأت معه الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس(بيل كلينتون) ضرورة التدخل العسكري لفض الاشتباك بين القوى المتصارعة والنيل من متسببي الفوضى في البلاد، فما كان من هذه الإدارة إلا أن أرسلت إلى الصومال قوة عسكرية قوامها ثلاثون ألف جندي جمعت بين جنود أمريكيين وجنود آخرين تابعين لقوات دولية تحت مظلة الأمم المتحدة، فيما يعرف لدى الوثائق الأمنية الأمريكية بعملية RESTORE HOPE أو (استعادة الأمل)، لكن النتائج كانت مأساوية وكارثية بالنسبة لهذه القوات؛ إذ استطاعت القوات العسكرية التابعة للجنرال (محمد فارح عيديد) زعيم تكتل المؤتمر الوطني الصومالي، أن تنال من هذه القوات الدولية المختلطة، وذلك عبر قيامها بإسقاط طائرة مروحية من طراز(بلاك هوك) بالإضافة لقتل ما يقرب من عشرين جندياً أمريكياً من قوات دلتا، ثم كان أن قامت قوات عيديد بأمر منه بالتمثيل بجثة جندي أمريكي من بين القتلى عبر سحله في شوارع العاصمة مقديشو على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام، الأمر الذي أحدث ضغوطاً شديدة على الإدارة الأمريكية وقتها، كان من نتائجها انسحاب القوات الأمريكية والدولية بعد شهور قليلة من وصولها الأراضي الصومالية، وهذه الحادثة توارثت ذكرياتها المؤلمة كافة الإدارات الأمريكية التالية، فلم تجرؤ الولايات المتحدة منذ هذه الحادثة على اتخاذ قرار إرسال أية عناصر عسكرية إلى الصومال، وذلك على مدار عقدين من الزمان، وتحديداً حتى أكتوبر من عام 2013 عندما قامت إدارة الرئيس باراك أوباما بإرسال” خلية من أفراد الجيش الأمريكي إلى مقديشو لتنسيق العمليات مع القوات الأفريقية المناهضة لحركة الشباب المتشددة”[13] وتعد هذه الحادثة من بين الأحداث الفارقة في توجهات الولايات المتحدة الأمنية والعسكرية ناحية الوضع الأمني في الصومال؛ إذ تسببت في تغيير استراتيجية الولايات المتحدة تغييراً سلبياً أضعف الدعم الأمني الأمريكي لمقديشو، وأعطى الفرصة لعناصر جماعة الشباب المتشددة في توسيع ضرباتها في الداخل الصومالي على مدار عقدين من الزمان، خاصة بعد أن تحول هذا الدعم الأمريكي”من استراتيجية الدعم المباشر، إلى استراتيجية الدعم بالوكالة أو بالإنابة من خلال حلفاء الولايات المتحدة في القارة الإفريقية ومنطقة القرن الإفريقي”[14] حيث أصبحت الولايات المتحدة تتحاشي التواجد الفاعل والمكثف لعناصر العسكرية في الصومال والمناطق المحيطة.
  • توجهات سياسة الرئيس ترامب: فخلال المرحلة الراهنة، شهدت استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الوضع الأمني في الصومال، تغيرات جذرية سلبية ألقت بظلالها على طبيعة النتائج الأمنية المتحققة على الساحة الصومالية؛ فقد بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فترة ولايته الأولى بقرارات أقرب إلى الصدام والإقصاء منها إلى الاستقطاب والاحتواء، تجاه الشعوب العربية والإسلامية، ومن بينها الشعب الصومالي، وذلك عندما قام باتخاذ قرارات تمنع دخول الصوماليين إلى الأراضي الأمريكية، وهو ما كشف عن سياسة أمريكية جديدة وجافة ومتسرعة تجاه بعض الشعوب، وخاصة الإفريقية منها، كما ألمح هذا التغير الجذري في السياسة الأمريكية، إلى أن سياسة الرئيس ترامب تجاه الصومال، ستكون متحفظة كما كانت منذ عقود، وهو ما يمكن تأكيده الآن بعد فترة كافية من بقائه في منصب الرئاسة؛ إذ أن الظاهر في العلاقات الصومالية الأمريكية، وخاصة فيما يتعلق بالوضع الأمني الصومالي والمواجهة مع جماعة الشباب، أن الولايات المتحدة تكثف من ضرباتها وهجماتها على المتشددين من هذه الجماعة، لكن الحقائق على الأرض تؤكد أن هذه الضربات هي لذر الرماد في العيون، وللتلويح بإظهار تواجد الدور الأمريكي القوي والفاعل في منطقة القرن الإفريقي والسواحل الصومالية، حماية للمصالح النفطية الأمريكية، ولعل ما يتردد حالياً، عن نوايا أمريكية مستقبلية لخفض وتقليص الوجود العسكري الأمريكي في الصومال، بما في ذلك الضربات ضد حركة الشباب، انطلاقاً من قناعة أمريكية بأن الحركة لم تعد تمثل تهديداً لواشنطن، لعل ذلك، يؤكد مظهرية الدعم الأمني الأمريكي للصومال، وأن التحفظ التاريخي للإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه الوضع الأمني الصومالي، لا يزال قائماً، بل ربما سيزداد هذا التحفظ، ما يعني” أن الحملة الأمريكية على حركة الشباب قد تفقد المزيد من فاعليتها”[15] وفي واقع الأمر، تمنحنا بعض الوثائق المنسوبة للإدارة الأمريكية للرئيس دونالد ترامب فيما يتعلق باستراتيجية مواجهة الإرهاب، ملامح التعاطي الأمريكي الراهن مع التهديدات الأمنية للجماعات المتشددة في الصومال وفي غيرها من مناطق الصراع؛ تقول إحدى هذه الوثائق” نحتاج إلى تكثيف العمليات ضد الجماعات الجهادية العالمية وفي الوقت نفسه خفض تكاليف الدماء والثروة الأمريكية…سنسعى إلى تجنب التدخلات العسكرية الأمريكية المكلفة واسعة النطاق لتحقيق أهداف مكافحة الإرهاب وسنتطلع بشكل متزايد إلى الشركاء لتقاسم مسؤولية التصدي للجماعات الإرهابية”[16]

وخلاصة القول في ختام هذا التقرير، أن لدينا مغزى ومفهوماً يمكن استنباطه من مجمل الملامح التي تغلف استراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يتعلق بالوضع الأمني الصومالي ومكافحة العناصر المتشددة، وهو أن الإدارة الأمريكية الأحدث في سلسلة الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ليس لديها الاستعداد للتضحية بأرواح الجنود الأمريكيين أو بالآليات والعتاد الأمريكي، أو بالثروات الأمريكية، لتحقيق مصالح خارجة عن نطاق المصالح الأمريكية، وأنه حتى في ظل وجود مصالح أمريكية خارج نطاق الولايات، فإنه من الأفضل والمستحب لدى المنطق الاستراتيجي الأمريكي خارج الحدود، أن يتولى حلفاء أمريكا تحقيق هذه المصالح كثمن لبقائهم حلفاء لأمريكا القوية والمهيمنة، وبالتالي فإنه لابد للدولة الصومالية أن تدرك جيداً أن تحقيق النتائج المنشودة على المستوى الأمني والعسكري في الصومال، لن يتم على أيدي الولايات المتحدة الأمريكية، بل على أيدي الصوماليين أنفسهم، وأن تحقيق هذه النتائج سيظل مرهوناً بقدرة هؤلاء الصوماليين على استعادة أمن بلادهم، وعلى العمل الجدي في إطار استنهاض وجود وتكوين جيش وطني صومالي قادر على حفظ الأمن الداخلي ومواجهة العناصر الراديكالية المتشددة والمهددة لاستقرار الشعب الصومالي ولوحدة دولته وسلامة أراضيه.

الهوامش والإحالات

  1. راجع: غراب،محمود، تصعيد الضربات الأمريكية لحركة الشباب .. تطور الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصومال، تقرير موقع(النادي الدولي) بتاريخ الخميس 29 نوفمبر 2018، متاح على: http://theinternational.club/news/6990/29-11-2018/
  2. المصدر السابق نفسه(بتصرف)
  3. راجع: عزم،إسماعيل، بالأرقام.. تعرف على المساعدات الأمريكية لــ20 دولة عربية، تقرير موقع قناة الــ DW باللغة العربية ، بتاريخ 21/12/2017، متاح على: https://p.dw.com/p/2pmaf، (بتصرف)
  4. راجع تقرير صحيفة(السبيل) الأردنية تحت عنوان(أمريكا تعيد وجودها في الصومال)، بتاريخ 25 يناير 2014، عن واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس، متاح على: http://assabeel.net/94709 ، (بتصرف)
  5. راجع: عزم،إسماعيل، بالأرقام.. تعرف على المساعدات …، مصدر سابق
  6. انظر: خالد بن سلطان بن عبد العزيز، البعد الدولي للحرب في الصومال، موسوعة مقاتل من الصحراء ، النسخة الإلكترونية، متاح على: http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/HarbSomal/sec04.doc_cvt.htm ،(بتصرف)
  7. راجع: بوجنال،محمد، الفلسفة السياسية الأمريكية رهينة أوالياتها، الحوار المتمدن، العدد 6029، بتاريخ 20/10/2018، متاح على: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=615472&r=0 ، (بتصرف)
  8. انظر: علوش،نور الدين، الفلسفة الأمريكية المعاصرة، فقرات مستلة من الكتاب على موقع جوجل بوك، ص 124(بتصرف يسير)
  9. راجع: عبد الرحمن،صهيب، الحرب الأمريكية في الصومال بعهد ترامب.. هذا ما كشفه تقرير أممي، صحيفة(حفريات) الإلكترونية الصادرة عن مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي، القاهرة، بتاريخ 26/3/2019 ، متاح على: https://www.hafryat.com/ar/blog/ ، مع البحث بالعنوان المذكور(بتصرف) ، ويمكن مراجعة التقرير الأممي كاملاً على الرابط: https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2019/03/usa-somalia-shroud-of-secrecy-around-civilian-deaths-masks-possible-war-crimes/
  10. المصدر السابق نفسه(بتصرف)
  11. راجع: إيمان محمود، وول ستريت جورنال: حركة الشباب الصومالية والحرب الأمريكية الطويلة، تقرير موقع(مصراوي)، بتاريخ 19 يناير 2019، متاح على: https://www.masrawy.com/news/news_publicaffairs/details/2019/1/19/1499103/
  12. راجع تصريحات منقولة عن الجنرال(توماس فالدهاوسر)، مركز مقديشو للبحوث والدراسات، بتاريخ 8 فبراير 2019، متاح على: http://mogadishucenter.com/2019/02/49313/ ، (بتصرف)
  13. راجع تقرير صحيفة(السبيل) الأردنية تحت عنوان(أمريكا تعيد وجودها في الصومال)، مصدر سابق (بتصرف)
  14. انظر: الشافعي أبتدون، استراتيجية أمريكا في مواجهة حركة الشباب : الثابت والمتغير، تقرير مركز الجزيرة للدراسات، بتاريخ الأربعاء 3 يناير 2018، متاح على: http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2018/01/180103065850294.html ، (بتصرف يسير)
  15. راجع تقرير( الجزيرة نت) تحت عنوان: الضربات الجوية الأ/ريكية وحركة الشباب الصومالية .. شكوك في النتائج، بتاريخ 11/2/2019 ، متاح على https://www.aljazeera.net ، مع البحث بالعنوان المذكور(بتصرف)
  16. انظر: زاهر،معتز، الاستراتيجية الأمريكية تجاه حركة الشباب المجاهدين، تقرير المعهد المصري للدراسات ، سلسلة تقارير سياسية/ يونيو 2018 ، ص 14 (بتصرف يسير)

انتهى

[1] راجع: غراب،محمود، تصعيد الضربات الأمريكية لحركة الشباب .. تطور الاستراتيجية الأمريكية تجاه الصومال، تقرير موقع(النادي الدولي) بتاريخ الخميس 29 نوفمبر 2018، متاح على: http://theinternational.club/news/6990/29-11-2018/

[2] المصدر السابق نفسه(بتصرف)

[3] راجع: عزم،إسماعيل، بالأرقام.. تعرف على المساعدات الأمريكية لــ20 دولة عربية، تقرير موقع قناة الــ DW باللغة العربية ، بتاريخ 21/12/2017، متاح على: https://p.dw.com/p/2pmaf، (بتصرف)

[4] راجع تقرير صحيفة(السبيل) الأردنية تحت عنوان(أمريكا تعيد وجودها في الصومال)، بتاريخ 25 يناير 2014، عن واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس، متاح على: http://assabeel.net/94709 ، (بتصرف)

[5] راجع: عزم،إسماعيل، بالأرقام.. تعرف على المساعدات …، مصدر سابق

[6] انظر: خالد بن سلطان بن عبد العزيز، البعد الدولي للحرب في الصومال، موسوعة مقاتل من الصحراء ، النسخة الإلكترونية، متاح على: http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/HarbSomal/sec04.doc_cvt.htm ،(بتصرف)

[7] راجع: بوجنال،محمد، الفلسفة السياسية الأمريكية رهينة أوالياتها، الحوار المتمدن، العدد 6029، بتاريخ 20/10/2018، متاح على: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=615472&r=0 ، (بتصرف)

[8] انظر: علوش،نور الدين، الفلسفة الأمريكية المعاصرة، فقرات مستلة من الكتاب على موقع جوجل بوك، ص 124(بتصرف يسير)

[9] راجع: عبد الرحمن،صهيب، الحرب الأمريكية في الصومال بعهد ترامب.. هذا ما كشفه تقرير أممي، صحيفة(حفريات) الإلكترونية الصادرة عن مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي، القاهرة، بتاريخ 26/3/2019 ، متاح على: https://www.hafryat.com/ar/blog/ ، مع البحث بالعنوان المذكور(بتصرف) ، ويمكن مراجعة التقرير الأممي كاملاً على الرابط: https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2019/03/usa-somalia-shroud-of-secrecy-around-civilian-deaths-masks-possible-war-crimes/

[10] المصدر السابق نفسه(بتصرف)

[11] راجع: إيمان محمود، وول ستريت جورنال: حركة الشباب الصومالية والحرب الأمريكية الطويلة، تقرير موقع(مصراوي)، بتاريخ 19 يناير 2019، متاح على: https://www.masrawy.com/news/news_publicaffairs/details/2019/1/19/1499103/

[12] راجع تصريحات منقولة عن الجنرال(توماس فالدهاوسر)، مركز مقديشو للبحوث والدراسات، بتاريخ 8 فبراير 2019، متاح على: http://mogadishucenter.com/2019/02/49313/ ، (بتصرف)

[13] راجع تقرير صحيفة(السبيل) الأردنية تحت عنوان(أمريكا تعيد وجودها في الصومال)، مصدر سابق (بتصرف)

[14] انظر: الشافعي أبتدون، استراتيجية أمريكا في مواجهة حركة الشباب : الثابت والمتغير، تقرير مركز الجزيرة للدراسات، بتاريخ الأربعاء 3 يناير 2018، متاح على: http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2018/01/180103065850294.html ، (بتصرف يسير)

[15] راجع تقرير( الجزيرة نت) تحت عنوان: الضربات الجوية الأ/ريكية وحركة الشباب الصومالية .. شكوك في النتائج، بتاريخ 11/2/2019 ، متاح على https://www.aljazeera.net ، مع البحث بالعنوان المذكور(بتصرف)

[16] انظر: زاهر،معتز، الاستراتيجية الأمريكية تجاه حركة الشباب المجاهدين، تقرير المعهد المصري للدراسات ، سلسلة تقارير سياسية/ يونيو 2018 ، ص 14 (بتصرف يسير)

محسن حسن

باحث وأكاديمي مصري
زر الذهاب إلى الأعلى