دور الإدارة السياسية في انجاز جهود مكافحة الفساد في القارة الافريقية

ولما كان الفساد يتجلى في صور عديدة ويحدث في سياقات متعددة، يكاد يكون من المستحيل تحديد جميع حقوق الإنسان التي يمكن أن تنتهك بسبب الفساد. وفيما يلي بعض الأمثلة: إذا كان الفساد موجوداً في قطاع التعليم، فإن الحق في التعليم يمكن أن ينتهك. وإذا كان الفساد موجوداً في القضاء،

فإن الحق في اللجوء إلى المحاكم والحق في محاكمة عادلة يمكن أن ينتهكا. وإذا كان الفساد موجوداً في قطاع الصحة أو في قطاع الرفاه الاجتماعي، فإن الحق في الحصول على الخدمات الطبية أو الحق في الغذاء يمكن أن ينتهكا. وعلاوة على ذلك، فإن مبدأ عدم التمييز يمكن أن يتأثر إذا لم يكن أمام المرء بد إلا أن يرشُوَ شخصاً لينال معاملة تفضيلية أو للحصول على خدمة عمومية. ويندر أن تجد حقاً من حقوق الإنسان لا يمكن أن ينتهك بالرشوة. وتهدف الاتفاقية أن تقوم كل دولة إفريقية بتعزيز وتقوية الآليات الضرورية لمنع الفساد والجرائم المرتبطة به، وكشفها والمعاقبة عليها في القطاعين العام والخاص، بجانب تعزيز وتنظيم وتسهيل التعامل بين الدول الأطراف لضمان فعالية التدابير والإجراءات الرامية إلى منع الفساد والجرائم المتصلة به في إفريقيا.

ومن مبادئ هذه الاتفاقية، احترام المبادئ والمؤسسات الديمقراطية والمشاركة الشعبية وسيادة القانون والحكم الرشيد، واحترام حقوق الانسان والشعوب، والشفافية والمساءلة في إدارة الشؤون العامة، وتعزيز العدالة الاجتماعية لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المتوازنة، وإدانة ورفض أفعال الفساد والجرائم ذات الصلة والإفلات من العقاب.

وهذا الرأي تؤيده ردود عديدة على الاستبيان وردت من مختلف الجهات ذات المصلحة. فقد أوضحت الردود أن للفساد أثراً سلبياً على التمتع بحقوق الإنسان. وذكرت طائفة عريضة من حقوق الإنسان التي يمكن انتهاكها بسبب الرشوة. وهي تشمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كالحق في العمل والحق في الغذاء والحق في السكن والحق في الصحة والحق في التعليم والحق في الخدمات العمومية، والحق في التنمية، ومبدأ عدم التمييز، والحقوق المدنية والسياسية، كالحق في محاكمة عادلة والحق في المشاركة في الشأن العام.

 ويوضح هذا الاستعراض الطرح آنف الذكر الذي مؤداه أن كل حق من حقوق الإنسان تقريباً يمكن أن ينتهك بسبب الفساد؛ وقد أبرزت المفوضية هذه النقطة في مساهمتها.

والفساد في القضاء مثال ملموس جداً يبيّن ما للفساد من أثر سلبي على التمتع بحقوق الإنسان. فإذا كان الفساد في جميع المجالات يهدد سيادة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الحق في اللجوء إلى المحاكم والحق في محاكمة عادلة أمام هيئة قضائية مستقلة ونزيهة ومؤهلة يتعرضان، في حالة الفساد في القضاء، لتأثير مباشر.

 يمكن أن يؤثر الفساد في المجتمع بشكل عام (الأثر السلبي العام). ويعني ذلك أنه، إضافة إلى أثر الفساد على الأفراد أو المجموعات، ثمة أثر سلبي أيضاً على المجتمع بشكل عام، سواء كان ذلك على المستوى الوطني أو الدولي. وثمة جانبان يترددان بكثرة في المناقشات التي تتناول أثر الفساد السلبي على حقوق الإنسان تعلق الجانب الأول بالموارد المالية والاقتصادية التي تتأثر بالفساد. فالممارسات الفاسدة تصرف الأموال عن التنمية وهو ما يعني إعادة تخصيص الأموال ومن ثم إمكانية إعاقة إنفاذ حقوق الإنسان بفعالية، وخاصة بالنسبة إلى الأشخاص المستضعفين. ويتسبب الفساد في تقليص الموارد المتاحة لإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تدريجياً

(وبالتالي تقويض التزامات الدول بموجب المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية). أما الجانب الثاني فيتعلق بتحقيق الديمقراطية وإنفاذ سيادة القانون. فاستشراء الفساد في دوائر سلطات الدولة يقوِّض ثقة الناس في الحكومة، ومن ثم في النظام الديمقراطي وسيادة القانون.

تساؤل مهم يطرح نفسه حول مدى العلاقة بين الفساد وحقوق الإنسان، وإذا ما تمحصنا الموضوع سنجد ان العلاقة قوية جدا وليس تأثيرها جانبيا او على مجالات محددة من حقوق الإنسان. فإن انتشار الفساد ومحدودية النزاهة في مؤسسات الدولة سيؤدي حتما إلى انتهاك التزام الدولة بحقوق الإنسان الأمر الذي سيحول دون وضع البرامج والسياسات الفعالة لتعزيز حقوق الإنسان.

 وأن الفساد يمس جميع مجالات حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يوما 9 و10 يومان يحتفل فيهما العالم بمكافحة الفساد وبحقوق الإنسان. وهما قضيتان مرتبطتان، الفساد على علاقة عكسية بحقوق الإنسان، لذا اختارت الأمم المتحدة أن يحتفل العالم بهاتين القضيتين في يومين متتاليين. لأن الخبراء والباحثين والخبرات الدولية انتهت إلى معادلة واضحة وأكيدة وهي أنه كلما زاد احترام حقوق الإنسان قل الفساد والعكس صحيح.

الفاسدون أعداء للقانون ولحقوق الإنسان وضد أي شخص يحاول كشف فسادهم، وهم يكرهون الإعلام ويحاولون السيطرة عليه بأي شكل من الأشكال، يعملون على عرقلة إصدار القوانين مثل قانون حرية تداول المعلومات أو قانون لتعويض ضحايا الفساد ويستخدمون في ذلك أسلحة تبدو للمواطن أنها شرعية مثل الأمن القومي والأمن العام وأسرار الدولة وغيرها من العبارات التي لا يوجد لها تعريف محدد.

منتهكو القوانين وحقوق الانسان يرحبون بتعدد الهيئات الرقابية. ويعملون على إذكاء حالة التنازع بين هذه الهيئات ونشوب حرب حول اختصاص كل هيئة. مسؤولو مؤسسات يرفضون الخضوع للرقابة تحت مسميات مختلفة، منهم من يدعى أنه سلطة مستقلة وأن لديه رقابة ذاتية ومنهم من يزعم أن المساس به مساس بالأمن القومي للدولة وهي مبررات تخفى وراءها ما تخفيه.

حتى يومنا هذا لا يوجد تعريف واحد متسق ومعترف به للفساد على المستوى الدولي. والملاحظ أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد نفسها لا تحتوي على تعريف للفساد، وإن كان الغرض من هذه الاتفاقية هو على وجه التحديد ترويج وتدعيم التدابير الرامية إلى منع ومكافحة الفساد بصورة أكفأ وأكثر فعالية، وترويج ودعم التعاون الدولي في مجال منع ومكافحة الفساد. ومن النهوج التي يشيع اتباعها إزاء مفهوم “الفساد” التعريف الذي اقترحته منظمة الشفافية الدولية. وطبقاً لهذا التعريف فإن الفساد هو “سوء استعمال المرء للسلطة التي أؤتمن عليها لتحقيق مكاسب خاصة”. وجاء تعريف الائتلاف من اجل النزاهة والمساءلة-امان، الفرع الوطني للمنظمة المذكورة قريبا (سوء استخدام المنصب العام أو استغلاله يهدف إلى خدمة أغراض خاصة أو تحقيق منافع شخصية مادية أو معنوية)

 ويتسم هذا التعريف من ناحية بأنه واسع النطاق ويشمل طائفة عريضة من السلوكيات المختلفة. وعلى النقيض من أحكام القانون الجنائي التي تحدد جرائم معينة، فإن التعريف المذكور أعلاه يعد أكثر انفتاحاً. أما من الناحية الأخرى فإن هناك من يرى أن مفهوم عناصر التعريف الثلاثة كلها، وهي “سوء الاستعمال” و”السلطة” و”المكاسب الشخصية”، قد يؤدي إلى استبعاد سلوكيات ينبغي أن تعتبر هي أيضاً من قبيل الفساد. فعلى سبيل المثال يمكن لاستعمال (أو سوء استعمال) سلطة مُطالب بها بشكل غير قانوني أن يؤدي إلى الفساد،

وقد يعني هذا أن على كافة الدول التزامًا بمحاربة الفساد، وأن نكوصها عن هذا يمكن أن يعتبر هو الآخر مخالفة لحقوق الإنسان. كما يمكن لهذا أن يوفر علاجات قانونية خارج الآليات التشريعية الوطنية وآليات تنفيذ القوانين، حيث تكون الأخيرتان جزءًا من الفساد في البلدان التي تمكن منها الفساد الممنهج.

غير أن هذا النهج لا يخلو من مخاطر، فمن ناحية قد لا يُقبل المجتمع الدولي على اعتناق التزام جديد في إطار حقوق الإنسان يدور حول مفهوم مثل “الفساد” الذي يمكن أن يتخذ أشكالاً كثيرة، ومن الصعب تعريفه أو إثبات وقوعه. والأهم أنه قد يلزم المجتمع الدولي أيضًا بالتحرك حينما يفشل البلد المعني في مكافحة الفساد بفعالية كافية، وهي المهمة التي تقاومها حكومات كثيرة في أرجاء العالم.

ومع ذلك يظل من المهم التشديد على أن الفساد (خاصة من النوع الممنهج والشامل الذي وجد في تونس ومصر والموجود حاليا في الجزائر وبلدان أخرى كثيرة جدًّا حول العالم) أكبر من أن يكون مجرد مسألة مزعجة، وإن تُرك هذا الأمر دون ضوابط فمن الممكن أن يؤدي إلى إشعال ثورة.

زر الذهاب إلى الأعلى