خواطر دعوية (٥) : احتكار منابر الدعوة

شاهدت برنامجا تلفزيونيا أجري مع داعية وواعظ وعالم سطع صوته وبرز حضوره في منابر الدعوة المختلفة من القاء المحاضرات ومشاركة الملتقيات العلمية المحلية والدولية وتدريس العلوم الشرعية  وارتقاء المنابر لإلقاء خطب الجمعة وحقق وجودا مميزا قل نظيره في الأزمنة الأخيرة ،  ويتم تداول مقاطع كثيرة من مواعظه المؤثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعية خلال السنوات العشر الأخيرة ، وحظي قبولا واسعا لدى شريحة واسعة   من الجمهور ، وقد تحدث عن مأساة كبيرة تعاني منها الساحة الدعوية وتكاد أن تكون مشكلة عالمية لا حدود لها  ولكن لا يستطيع أحد البوح بها أو التحدث عنها بصورة علنية لأنها محاطة بسياج من التكتم والسرية التامة ، وكل من يحاول الحديث عنها أو الاشارة إليها ولو بصوت خافت يُسلط عليه جيوش مجهولة الهوية ولكنها معروفة التوجه تستخدم أساليب قذرة لتشويه وتخوين وإسقاط كل داعية يتطلع إلى المشاركة والمساهمة في مجال الدعوة من غير أن يقيد اسمه في سجلات الحركات ولا يقبل الخضوع للوصاية المفروضة على تحركات وعلاقات أعضاء الحركات مع الآخرين ، ويحبذ العمل خارج الاطار التنظيمي والاستقلال الشخصي مع إيمانه بأن اليد الواحدة لا تصفق وحدها بل تحتاج إلى أختها ، وأن الدعوة لا تتقدم إلا بالتكاتف والتآزر من دون شروط مسبقة أو ملحقة إلا ما اشترطه الشارع الحكيم ، وأن العمل الدعوي ينبغي أن يكون بعيدا عن حظوظ النفس والتنافس المذموم ، ولكن هذه التكتلات لا تقبله شريكا في الخير ولا تعترف بجهوده الدعوية  بل تصنفه في عداد المرغوب عنهم أو تضعه في خانة الأعداء المحتملين للحركة  الذين لا يجوز التعامل معهم ، أو السماح لهم في مخاطبة الجمهور عبر منابرهم ومؤسساتهم  .

والغريب أن أخلاق هذه الحركات تتصادم مع ما تدعيه في خطابها المعلن من رعاية حقوق الأخوة وصيانة حرمة العلم والدعوة ، فهي أسوء من الذئاب الضارية والضباع المفترسة ، فتعتمد على الظنون والاشاعات وتحريف الكلام واختلاق الأكاذيب  واتهام النيات وافتعال الخصومات من أجل الإساءة وإحداث الشرخ بين الداعية وبين الجمهور ، وتفعل ذلك من أجل أن تكون هي الآمرة والناهية في ميدان الدعوة ولا يفكر أحد بأن يستقل في دعوته ما لم يكن تحت سمعها وبصرها .

وقد تحدث العالم الفاضل بأنه عاني الأمّرين  في تعامل بعض منظري ورؤساء الحركات تجاهه ، حيث سدت الأبواب دونه ومكث عشرين سنة في مسجد حارته ولا يستطيع المشاركة في الأنشطة الدعوية المقامة في بلدته فضلا عن خارجها ، لأنه لم يكن منتميا إلى أي تكتل حركي ،  وقد ذكر بأنه شارك إحدى المرات حملة للحج ، وأن القائمين عليها لم يسمحوا له بإلقاء موعظة وكلمة عابرة ولو مرة واحدة مع أن بعض الأخوة طلبوا منهم بإتاحة الفرصة للشيخ ، وفي كل مرة كانوا يتعللون بأن زائرا جديدا فاجئهم ، وسوف يعطون الشيخ الفرصة في الكلمة اللاحقة ، وهذا ما لم يحصل به أبدا .

وأصبح الشيخ اليوم علما على رأسه نار ، يحضر ويشاهد محاضراته ودروسه أعداد كثيرة من المسلمين .

قلت : هذا المرض الذي أشار إليه الشيخ وتحدث عنه بمرارة هو المرض نفسه الذي يعشعش وينتشر في الساحة الدعوية الصومالية وينخر جسدها بدون كلل ولا ملل ، ويغديه ويتعاهد عليه بالسقي والرعاية بعض من تسلطوا على مقاليد الحركات الإسلامية الصومالية في الداخل والخارج ، لأنهم لا يستطيعون تحقيق مآربهم الشخصية في استمرار مناصبهم أو في تصدرهم في المشهد الدعوي إلا إذا تعاملوا مع الدعاة والعلماء الذين لا ينتمون إلى حركاتهم إلا بهذه الطريقة ، خوفا منهم أن تصبح مصالحهم الشخصية ومكاسبهم الرخيصة تحت التهديد إن لم يفعلوا ذلك .

ولا يقتصر الأمر بالحركات بل هناك أفراد استولوا على مساجد ومراكز بأسماء متعددة ويمارسون نفس ما تقوم به الحركات ويقفون أمام كل داعية لا ينتمي إلى قبائلهم أو لا يتوافق معهم بآرائهم الشخصية . 

فاحتكار منابر الدعوة لا يقتصر في المساجد والمراكز والملتقيات الدورية فقط بل امتد إلى مجال أوسع من ذلك ، فبعض الدعاة والحركات لا يسمحون أن يظهر في القنوات الفضائية الذين يتعاملون معها أو مواقع التواصل الاجتماعي إلا من يحوم في دائرتهم .

وقد تحدث أحد الفضلاء من طلبة العلم بأنه انتقل من بلاد الغربة واستقر به المقام في الصومال وحاول المساهمة في الأنشطة الدعوية المقامة في بلدته ولكنه فوجئ بأن الحركات العاملة هنالك تعاملت معه بصورة سيئة وحالوا بينه وبين ذلك مما اضطر إلى تأسيس مسجد خاص به ليتمكن من أداء رسالته بدون تعكير أو ازعاج .

وقد يجادل بعض الدعاة والعلماء وطلبة العلم بأنهم يفعلون ذلك لحماية مجال الدعوة عن المتطفلين وأنصاف المتعلمين والمتعالمين وأصحاب المناهج المنحرفة المخالفين لمذهب أهل السنة والجماعة في تحريف بوصلة الدعوة الصحيحة والمنهج القويم .

ولكن هذا الكلام يكذبه الواقع المعاش لأنه إذا حصل خلاف في الرأي أو تنازع في الإدارة بين أصحاب المنهج الواحد يحاول كل طرف أن يسيطر الممتلكات التابعة للحركة واستحواذها والسعي لمنع الآخر من استخدامها كمنبر دعوي  .

والباعث في ممارسة هذا الأمر الشنيع يعود إلى التالي  :

  • خلو القلب من الخوف بالله تعالى ، لأنه لا يمكن أن يقوم به إلا من ضعف إيمانه .
  • حب الرئاسة والتصدر ، لأن من تمكن ذلك في قلبه لا يحب أن يذكر أحد بخير ، ولا يقبل أن يتصدر في المشهد الدعوي غيره ، وحب الرئاسة شهوة خفية لا يمكن مشاهدتها ولكن الأفعال تُخبر عنها بدون إدراك من صاحبها .
  • حماية مصادر الدخل : يعتقد بعض الدعاة بأنه إذا انضم أحد إلى مسجده أو إلى مركزه أو شاركه في جولاته الدعوية أو الملتقيات العلمية فإن ذلك قد يكون سببا في مضايقة دخله ومصدر رزقه ، ومن أجل ذلك لا يقبل أن يشاركه أحد في  الساحة الدعوية ، والغريب أن هذا الشخص يحاضر للناس ويقرأ عليهم الآيات والأحاديث الدالة على أن الرزق مقسوم من الملكوت الأعلى وأن حظك ونصيبك لا يأكله غيرك ، فكأن أفعاله تقول أنت غير صادق فيما تقوله ، لو كنت صادقا لفرحت ولرحبت كل طالب علم . ويمثل الخوف على الرزق من أكبر الأسباب التي تأجج الخلاف والتنازع بين الدعاة والعلماء إلا من رحم ربك تبارك وتعالى .

وأخيرا مشكلة احتكار منابر الدعوة حديث ذو شجون ، وهي مشكلة لا تختص في بيئة أو بلد معين ، وتبدو كأنها مرض مزمن لا يوجد له علاج ناجح ، لأنه مرض يتعلق بالنفس والقلب ، وأن الشجرة التي ماتت عروقها وهي في وسط الماء لا ينتظر منها الحياة بعد ذلك ، فكذلك الداعية أو طالب العلم الذي فقد حياءه ومروءته وهو في داخل المسجد أو في ساحة الدعوة ، ووطن نفسه لملذات عاجلة وشهرة زائلة ، فمن الصعوبة بمكان أن يعود عن فعلته الشنعاء وعمله المشين إلا أن يعود إليه وعيه ويبصر خطأه ويتصالح مع خالقه ، ويسأل مولاه أن يقيه شرّ نفسه ويلهمه الصواب والسداد .

اللهم أصلح أحولنا جمعيا .

   

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى