الذكرى الثانية والستين لاستشهاد محمد كمال الدين صلاح

تصادف اليوم الثلاثاء 16إبريل عام 2019 ذكرى الثانية والستين لاستشهاد الدبلوماسي المصري السفير محمد كمال الدين صلاح ايقونة الاستقلال والحرية التي نالتها الصومال عام  1960 والـ”رمز الوطني” الذي لا يمحو من ذاكرة الصوماليين  وفاء لما قام به من دور كبير في ايصال أصوتهم إلى المحافل الدولية وجهد جبار في سبيل رفع مستوى وعيهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي في وقت عزّ الصديق وقلّ الناصر. وبالتأكيد كان من المفروض أن تشهد مثل هذا اليوم، العاصمة مقديشو التي  ضحى الشهيد محمد كمال الدين حياته فداء لكرامتها وحريتها، وفاضت بسببها روحه الطيبة إلى بارئها ، مناسبات ومهرجات لإحياء ذكرى الشهيد  كما كان الحال قبل 30 عاما غير أن الظروف التي تمر بها  الصومال حالت دون ذلك وغيبت عن  تفكير الحكومات الصومالية التي مرت بالبلاد بعد الإحاطة بنظام سياد بري عام 1991.

 مولده ونشأته:

ولد محمد كمال الدين صلاح في 28/مايو/1910م، وترعرع في كنف والده الّذي كان علامة، وقاضيا  ونائبا في المحكمة، وهذا مما ساعد محمد كمال الدين على أن يتعلم من والده قيم العدل والثبات -التي اتصف بها أثناء عمله الدبلوماسي-، وينهل من مكتبة والده العريقة.

تخرج محمد كمال الدين من كلية الحقوق عام 1932م، فاشتغل بالمحاماة قبل أن يلتحق بالسلك الدّبلوماسي.

التحاقه بالسلك الدبلوماسي: 

كان من نصيب محمد كمال الدين صلاح أن يعمل سفيرا لمصر في الأماكن الأخطر أمنا، والأعقد سياسة حيث كان أول تعيينه كسفير لمصر عندما عين سفيرا في القدس حينما كانت الثورة الفلسطينة ضدّ الانتداب البريطاني في أوجها، فشارك في كفاح الشعب الفلسطيني لكن السلطات أبعدته عن الشرق الأوسط، وتم نقله إلى اليابان إبان الحرب الصينية اليابانية، ثم ذهب إلى لبنان في وقت كانت الجيوش البريطانية والفرنسية تتهيّأ لغزو لبنان التي كانت ملجأ للعرب الأحرار الّذين فرّوا من قبضة الإنجليز في كلّ من العراق وفلسطين وإيران فقام بمساعدتهم مما أدّى إلى أن ينقل من بيروت إلى القاهرة التي بقي فيها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية.

وبينما هو كان يستعدّ للسفر إلى سان فرانسيسكو لوضع أول ميثاق للأمم المتحدة، اغتيل «أحمد ماهر»، فاعتقل صديقه «فتحى رضوان»، وتم القبض على «كمال صلاح» من باب الاشتباه، ونُقل بعدها إلى اليونان ليشهد الحرب الأهلية بين الحكومة والشيوعيين، ثم إلى عمان ليشارك في الحرب الأولى بين العرب والعصابات الصهيونية، ثم ذهب إلى تشيكوسلوفاكيا ليحضر فترة الانقلاب الشيوعى، ثم شهد أصعب الأيام فى دمشق تحت حكم الشيشكلى، وأخذ هدنة قليلة في ستوكهولم، لينقل قُنصلا في مرسيليا التي كانت مركزا مهما من مراكز نشاط الثورة الجزائرية، وكان الفرنسيون ينظرون إلى كل مصري رسمي أو غير رسمي بنظرة ريبة، كونه ممن يقدمون مساعدات للثورة.

تمتد الفترة التي عمل من خلالها كدبلوماسي مصري ينتقل من عاصمة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر 18 عاما، وذلك قبل مجيئه إلى الصومال كعضو فعال في المجلس الاستشاري في الإدارة الوصية.

أعمال كمال الدين الدبلوماسية في الصومال: 

اختارت مصر محمد كمال الدين صلاح عام 1954م ليكون ممثل مصر في المجلس الاستشاري لمجلس الوصاية الثلاثي والذي شكتله الأمم المتحدة من مصر وفلبين وكوبا عام 1950م ليتولى الإشراف على الحكومة المحلية الصومالية لمدة عشر سنوات تنتهي عام1960، وحينها تتولى الصومال حكم نفسها بنفسها.

ومنذ أن عين كمال الدين ممثلا لمصر في المجلس الاستشاري للوصاية عمل على بذل جهود كبيرة في سبيل تحقيق الصومال لاستقلاله قبل نهاية فترة الوصاية، واستطاع أن يجذب قلوب الصوماليين إليه حيث قام بتدعيم اللغة العربية والثقافة الإسلامية التي كان الاستعمار يحاربها، فكافح ضد محاولات القضاء على اللغة العربية وعمل على إنشاء مركز ثقافي في الصومال وطلب من مصر إرسال بعثة تعليمية دينية ومدنية حتي يواجه بحسم محاولات التغريب التي كان يبذلها الاستعمار جاهدا للنيل من عروبة الصومال.

إن نشاطات كمال الدين في تطوير الصومال وتنميته لم تقتصر على إنشاء مركز ثقافي فقط، بل عمل –أيضا- على إصلاح الاقتصاد الصومالي وذلك باستعانة خبراء في الأمم المتحدة والحصول على مساعدات من البنك الدولي وتسهيل عمليات إقراض للصوماليين وخلق رأس مال صومالي وتعليم الصوماليين الصناعات المنزلية كما استدعى خبيرا مصريا لزراعة القطن في الصومال.

لم يكن الاستعمار مطمئنا لما يقوم به كمال الدين فحاولوا عدّة مرات عرقلة أعماله في سبيل نيل الصومال لاستقلالها، لكن جميع محاولات الاستعمار كانت تبوء بالفشل، ولعلّ ذلك راجع لما يحظى به كمال الدين من ثقة النخب الصومالية حيث رأوا فيه انحيازا لقضاياهم ومواجها للاستعمار في الصومال.

ومن المؤامرات التي حيكت ضدّ كمال الدين من قبل الدول الاستعمارية، حسب ما جاء في دراسة بعنوان كمال الدين نشر على موقع معرفة: “أن القوى الاستعمارية أرادت إبعاده من المجلس الاستشاري للإدارة الوصية، وطالما، أنها لا تقدر الجهر بذلك لجأت إلى بعض ضعاف القلوب والنفوس بكتابة عرائض وشكاوي ضدّ كمال الدين وتدينه بتدخله في الشؤون الداخلية الصومالية، وقدمت الشكوى إلى المجلس الاستشاري وإلى الأمم المتحدة، غير أن هذه الشكاوي لم تجد تفاعلا من قبل المعنيين بها وذلك لمعرفة الكل مدى نزاهة كمال الدين وحبّه للشعب الصومالي ونضاله في سبيل تحقيق الحرية والاستقلال للصومال”.

استمر كمال الدين في كفاحه لنيل الصومال استقلالها ووصولها إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي فكان يعمل في كل المجالات ويدعمها سواء كانت في المجال الاقتصادي والسياسي والتعليمي والديني، كما استمرت القوى الاستعمارية في مؤامراتها ضدّه حتّى جاء يوم 16/إبريل/1957م وحينما انتهت جلسة اللجنة الثلاثية وخرج بعدها كمال الدين بسيارته التي يقودها بنفسه متجها إلي القنصلية المصرية التي وصلها حوالي الساعة الواحدة ظهرا حيث لاحظ عدم وجود الشرطي ولا الحارس الصومالي المعين على باب القنصلية، وأثناء سيره هاجمه شاب صومالي وطعنه بخنجر مسموم سبع طعنات وفي الطعنة الثامنة ترك القاتل الخنجر في ظهر القتيل بعد أن تجمع الناس في حديقة القنصلية وقاموا بالقبض عليه وقد كشفت التحقيقات أن الجاني يدعى محمد عبد الرحمن في الثلاثين من عمره وأنه كان قد درس في الأزهر الشريف علي نفقة الحكومة المصرية. وبذلك أصبح محمد كمال الدين صلاح أول شهداء الوزارة الخارجية المصرية كما هو منشور على موقع الوزارة الخارجية المصرية.

كان صدى هذه الوقيعة أليما في نفوس الصوماليين، وترجم شعور الناس في الصحف التي صدرت في اليوم التالي بعد مقتله حيث نشرت صحيفة بريد الصومال “كوريري دالا صوماليا” وهي صحيفة تابعة لإدراة الوصية ما يأتي: “أفزع أمس أهالي مقديشو وصوماليا بأجمعها حادث مؤلم، وهو اغتيال ممثل مصر لدى المجلس الاستشاري سعادة الوزير محمد كمال الدين صلاح، … وكان لهذا الحادث صدى محزن حيث انتشر في جميع الأنحاء وقد تأثر به الجميع إذ أنه حدث مفاجئ، وكان الاعتداء مرتكبا ضدّ شخصية كانت تتمتع بالتقدير العام، وكانت تظهر دائما صداقة مخلصة لصوماليا ولرفاهية شعبها”.

وعندما نقل جثمان الشهيد إلى القاهرة واستقبل الرئيس المصري جمال عبدالناصر الوفد الصومالي المرافق لتقديم واجب العزاء باسم الشعب الصومالي الشقيق، كان ردّه بأن لدى مصر 27 مليون كمال الدين صلاح وهم مستعدّون للاستشهاد من أجل حرية الصومال الشقيق. وهذا دليل متانة العلاقات المصرية الصومالية، وإيمان مصر العميق في رغبتها لتحرير الصومال.

ويبدوا أنه بعد أكثر من ستة عقود من استشهاد كمال الدين صلاح، أن العلاقات الصومالية المصرية قد أصابها الفتور، بل إنه يمكن القول أن مصر غائبة عن التأثير في المشهد السياسي الصومالي، ولعلّ ذلك راجع إلى تخفيف مصر لعلاقتها مع أفريقيا إبان حكم حسني مبارك، وأيّا كانت الأسباب فإنه ينبغي لكلا الطرفين استعادة علاقتهما الودية والأخوية التي لم تكن مقتصرة على التمثيل الدبلوماسي فقط، بل لا بدّ من علاقة توحّد البلدين في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتجعلهما متحدين ضدّ محاولات الهيمنة السياسية والاقتصادية في العصر الحديث.

وينبغي أن تكون الذكرى الثانية والستين لاستشهاد محمد كمال الدين صلاح وقودا يقود البلدين إلى إقامة علاقات ودية تلتقي فيها الكثير من المبادئ والمصالح المشتركة بين البلدين، وتوحّدهما في مواجهة العدو المشترك.

زر الذهاب إلى الأعلى