الجدل الفقهي في حادثة موتى التهريب

مآسي قوارب الموت المتنقلة بين لجج المياه الدافئة بين القارة العجوز ( أوروبا) والدولة العربية، والتي يمتطي عَلى ظهورها مئات الألوف من باحثي اللجوء السياسي الذين ضاقت بهم بلدانهم الواسعة بسبب الظلم والإضطهاد السياسي والحكم الجبري الذي يحاسب أنفاس الناس ، أو باحثي لقمة العيش التي أصبحت في بلادهم صعبة المنال لأجل الفساد المالي والإداري، وفشوء المحسوبية والاحتكار، واجتماع الثروة في أيدي عدد قليل من رجال الأعمال والأغنياء، الذين ماتت لديهم الرحمة وأصبحوا من قساة القلوب الذين يتلذذون ويربحون من مآسي الشعب المكلوب .

وقد يمتطى على ظهر قوارب الهلاك والموت من يبحث عن حياة أفضل بالتي هو فيها الآن أو تحسين وضعه الإقتصادي أو مكانته الإجتماعية، أو غير ذلك من الأسباب التي لا يمكن حصرها في هذه العجالة ، فهي مأساة على جبين الإنسانية التي لم يعد لها أي إحساس وألم حيال هؤلاء البائسين .

ويعتبر القانون الدولي بأنهم مهاجرون غير قانونيين لأنهم لا يحملون تأشيرات التنقل بين البلدان ، ويتم تصنيفهم حسب ظروف لجوئهم وأسباب هجرتهم ، ولذا يجب على الدول والحكومات

التعامل معهم بصورة لائقة حسب إتفاقية جنيف الدولية لحقوق الإنسان في عام ١٩٤٩م .

ويشهد الصومال منذ سقوط الحكومة المركزية قبل ربع قرن نزوحا ملفتا للنظر ، بسبب انعدام الأمن أو ندرة العمل أو البحث عن حياة أفضل ، وتتم الهجرة إما السفر عن طريق  البر ، أو البحر ،  أو الجو ، حسب ظروف الشخص وإمكانياته المادية ، عبر وسطاء محليين ودوليين لا يتقيدون بأنظمة السفر والتنقل ، مما ينتج عنها مآسي ومشاكل مادية ومعنوية .

وقد فجع الصوماليون في هذا الشهر مأساة موت قرابة خمسمائة مهاجر امتطو على ظهر سفينة متهالكة حمِّل على متنها فوق طاقتها ، مما أدي إلى غرق كل من فيها إلا عدد قليل، كتب لهم الحياة من جديد بفضل الله تعالى .

وبعد سماع هذه الفاجعة ، ظهرت إلى العلن أصوات كثيرة من جميع شرائح المجتمع الصومالي تندد بهذه الفعلة الشنعاء كل حسب قدرته ومكانته العلمية والأدبية .

ولا أريد مناقشة أسباب ومسببات هذه الظاهرة ( الهجرة غير القانونية ) في هذه العجالة ، ولكن الذي لفت نظري هو أن النقاش في هذا المسألة وكيفية علاجها ، انحرف عن وجهه الصحيح ، وذهب بعيدا حيث وصل الأمر بإثارة الحكم الشرعي لهذا العمل، وحكم من مات من المهاجرين .

وقد استمعت إلى حديث إذاعي من أحد الفضلاء حيث أثار مسألة في غاية الغرابة بالنسبة لي ، وهي قوله ( أن بعض العلماء أشاروا إلى أن الذين ماتوا في الغرق بسبب ركوبهم على سفن وقوارب التهريب، يعتبرون كمن أخذ نفسه بنفسه ( قاتل نفسه ) ، ثم يكون مصيره مصير ما توعدت له نصوص الوعيد الواردة في الوحيين – الكتاب والسنة – لمرتكب هذه الكبيرة .

وقد حفلت مواقع التواصل الاجتماعي أخبارا وأقوالا حول هذه المسألة ، فمن محذر من مغبة الاستمرار في سلوك هذا الطريق الوعر ، أو معارض لفكرة التهريب ، أو مهاجم على الدولة والحكومة في سياستها الفاشلة تجاه الشعب ، أو منتقد للعلماء والدعاة لترك دورهم القيادي في المجمتع.

والغريب في هذه المسألة هو قول من قال : بأن هؤلاء الغرقي عصاة، مذنبون، مخالفون للنصوص الشرعية، لأنهم قتلوا أنفسهم .

ولا أدري لماذا يُتذكر النصوص الشرعية فقط عندما يخطىء الضعيف ، ويحمل عليه وزر من كان سببا في هلاكه أو هروبه وهجرته عن بلده ؟ ، ولماذا لا يطلب الدولة بتحمل مسؤوليتها تجاه شعبها ؟ ، ولما لا يسأل رجال الأعمال والتجار الذي احتكروا ثروة البلد بدفع حقوق الفقراء والمساكين ؟ ، ولماذا لا يلقى السماسرة وزعماء الجريمة المنظمة عقابهم المادي والمعنوي ؟ .

فهولاء الذين تجشموا في ركوب الأسنة وغمار لجج المحيطات الهالكة لم يكن هدفهم بإهلاك أنفسهم ومعصية ربِّهم ، بل كانوا يتطلعون إلى الأمن والأمان والبحث عن الرزق الحلال ، ولو كانوا يعلمون أنهم سيموتون تحت هيجان موجات البحار لما أقدموا على هذه المخاطر ، بل كان أملهم الوصول إلى بر الأمان والحلم بوضع أفضل مما هم عليه الآن .

أرجو ممن صدرت منه بمثل هذه الأقوال المخالفة للدين والعقل مراجعة أقواله وأحكامه ، وعدم التسرع في إطلاق أحكام لا تتلاءم مع مناطها الحقيقي، كما ينبغي أن لا نوظف لهذه الحادثة أو الأخطاء العلمية الذي راكبته التشفي أو التهجم لمن لا يشاطرنا في التوجه الفكري والحركي ، لأن المسألة إنسانية ودينية فلا يتجاوز فيها إلا المسموح بها .

وأخيرا يجب على العلماء والدعاة والعقلاء وعلية القوم من المجتمع والحكومة التكاتف والتعاضد في حلحلة الوضع الصومالي لكي يتوقف هذا النزيف الذي طال زمنه وتأخر علاجه .

وفقنا الله تعالى لما فيه صلاح ديننا ودنيانا .

عبد الباسط شيخ إبراهيم

الخميس في ٢٠رجب ١٤٣٧هـ ، ٢٨ أبريل ٢٠١٦م

 

 

 

 

الدكتور عبد الباسط شيخ إبراهيم

ولد في دينسور في إقليم بأي ، ودرس الإبتدائية والاعدادية والثانوية في مدرسة 11 يناير في بيدوه، وحصل البكالوريوس والماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والدكتوراه من جامعة المدينة العالمية في ماليزيا تخصص التعليم والدعوة
زر الذهاب إلى الأعلى