الصراع السياسى فى الصومال” 5″ الديكتاتورية ومرحلة حكم نظام سياد برى

الديكتاتورية ومرحلة حكم نظام سياد برى :

ومع نهاية عام 1969م ، طفى للسطح و على نحو متزايد هزالة الديمقراطية البرلمانية في الصومال وأنها قد أصبحت لعبة  يتقتها السياسيون للعبث بإرادة الشعب و لا صلة لها بالتحديات اليومية التي تواجه المجتمع ، وقد تجلى ذلك بوضوح فى إنتخابات عام 1967م ، حيث صارت التعددية الحزبية لاتطاق بجانب إنتشار الرشوة  وشراء الذمم والفساد الإنتخابى ، لتكون المحصلة فقدان ثقة الشعب بالحكومة المنتخبة وإعتبار الانتخابات ذاتها وجها من أوجه التفريط فى القضايا الجوهرية للأمة .

وتحديدا في الخامس عشر من أكتوبر عام 1969م ،إغتال فرد من قوات الشرطة الرئيس : عبد الرشيد على شرماركى، وبعد مضي ستة أيام فقط نظمت القوات المسلحة إنقلابا أبيض أى غير دموى. وقام القادة العسكريون بقيادة الجنرال سياد برى  بتنظيم المجلس الثورى الأعلى ، الذى تلقى فى البداية ترحيبا صاخبا. إذ تم اعتبارهم كأبطال تركوا الثكنات لإنقاذ الأمة. وكان للمجلس الثورى الأعلى  آنذاك الحرية فى التصرف بشكل حاسم وتسوية القضايا التى يناقشها البرلمان الغير فعال بشكل غير نهائى ، مثل إنتقاء الهجاء الرسمى للغة الصومالية كذلك التصرف بحزم فى برامج محو أمية البالغين واستيطان النازحين أو المتشردين بسبب الجفاف .  

وفى عام 1970 تبنى سياد برى “الاشتراكية العلمية” كأيدلوجية توجيهية مُرشدة لنظامه وقدّم سياسات لتجريم الهويات العشائرية أو القبلية. لكن هذه النشوة بدأت فى الزوال فى منتصف عام 1970م ، وبحلول هذا الوقت أصبح من الواضح عدم نية المجلس الثورى الأعلى فى استعادة الديمقراطية كما وعد ، بل كان أكثر تركيزا فى الحفاظ لنفسه على السلطة وإمتيازاتها ، بما فيها نشر الشرطة السرية فى كل مكان وزمان لتأديب كل من تراه غير محترم دون الرجوع إلى القانون . وكان أول ضحايا السلطة المتعسفة المستبدة  الجنرالان محمد عينانشي  وصلاد جابيري ، وإعدام أكبر صانعى الانقلاب فى عام 1971 م ، فى حادثة وصفت هى الأخرى أنها بداية جديدة لمرحلة فاصلة فى التاريخ الصومالى الحديث ، لما يحوم حول القضية من ملابسات حتى اليوم فى دستوريتها ومن قبلها صحة الإتهامات الموجهة إليهم  ، و أيا كانت الدوافع فلا يوجد دليل على فساد المجلس الأعلى الثورى أكثر من أفعال رئيسها  (سياد برى ) . حيث سمح برى بتحريف التبجيل الذى تقره الدولة وتعترف به لـ “الثورة” إلى طائفة من إطراء شخصى متملق ذليل لم يُسبق رؤية مثيله حتى الأن فى تاريخ البلاد. 

على الرغم من الحملة الرسمية ضد “القبلية” وتعزيز الاشتراكية العلمية وقضية الصومال الكبرى بمثابة أيدلوجيات موحدة ، بنى سياد برى سلطته على أساس التلاعب بالعشائر وتنفيذ أساليب تقليدية كلاسيكية بناء علي قاعدة فرق تسد ، لتكشف الحرب مع إثيوبيا (ما بين عامي 1977 و 1978) م عن نقاط ضعف سياد برى والسلطة الجوفاء.

وقد أصر الزعماء السياسيون فى مقديشيو قبل فترة طويلة من الاستقلال منذ عام 1960 إلى أوائل عام 1970،  كما اسلفنا الذكر على حق تقرير المصير للشعب الصومالى الذي يعيش فى منطقة  الصومال الغربى “أوغادين ” فى إثيوبيا . وفى عام 1970 ، أرسل برى قواته ، معتقدا أن الإستيلاء على منطقة ” أوغادين” كان فى متناول يده بسبب ضعف إثيوبيا بعد الثورة وتسليح الجيش الصومالى جيدا بفضل الدعم السخي من الاتحاد السوفيتى. وسرعان ما حقق الصوماليون تقدما كبيرا وهددوا المدن الرئيسة فى) هررHarar وديرا داوا( Diradhabe . قبل إعادة إمداد الجيش الإثيوبى من قوات الاتحاد السوفييتى ودعم القوات الكوبية ، وقيامهم بالهجوم المضاد ودفع القوات الصومالية مرة أخرى إلى الحدود.

     لقد أزالت الهزيمة في عموم القومية الصومالية كأيدلوجية شرعية لنظام سياد برى، كما أدت كارثة  النكسة فى أوغادين إلى البحث عن عشائر ككبش فداء ، وانفجار الانشقاقات العشائرية فى العراء. وقد أصبح استخدام النظام للتنافس والمحسوبية بين العشائر من ناحية ، والقمع من ناحية أخرى كوسيلة للحفاظ على السلطة  واضحا بشكل متزايد فى عام 1980م . فمع تآكل السلطة نما إعتماده على القوة التعسفية حتى مطلع الثمانينات، حيث اعتمد على اساليب الرعب والتلاعب بهويات العشيرة للبقاء في السلطة([1])

وايا كاتت الأحوال فقد اتسمت مرحلة الحكم العسكري فى الصومال  بجملة من التناقضات ، ولاتوجد بين الصوماليين مرحلة تاريخية مختلفة عليها من حيث التقييم  ومعاييره مثل تلك المرحلة ، فهناك من يمجدها بدرجة التطرف ، كما أن هناك من يعتبرها نقطة سوداء فى تاريخ الصومال الحديث وفيما بينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من النا س .

 ثمت مقولة تتكرر غالبا  فى الشفاهة والتدوين عند الحديث عن الشان الصومالى أنه لم يعرف على مدى تاريخه حياة سياسية في إطاردولة ذات مؤسسات رسمية، بل خضع لنظام التراث المتجدد من تاريخ إستقلالها وحتى الأن .  وكان تنظيم الدولة قائماعلي إجماع مجتمع  سادت فيه رؤية دولة قومية صومالية حديثة اكثر دوما وذات صلة بالاسلام.      

لذلك نجد من يجزم أن دولة الصومال قد وصلت ذروة عزها مباشرة عقب انقلاب عام 1969 م ، عندما نجحت حكومة سياد بري الثورية  في تعبئة المجتمع سعيا وراء الحداثة وتحقيق المثل العليا للفكر القومي.  كانت فكرة “صوماليا” في فتلك الفترة تتجاوز أفق العشيرة القصير وتطمح الي تجاوز الحدود التي تركها المستعمر ولم شمل الشعب الصومالي الذي قسمة المستعمر الى خمسة أجزاء تحت علم ودولة واحدة. كما ارتبط الفكر القومي الصومالي  بمحاولة اللحاق بقطار الحداثة لدى تطرق كتابة اللغة الصومالية بهدف تعجيل جهود محو الامية ([2]). لتمتد الى المكونات الأخرى من التحديث التي شملت  إقامة البني التحتية وتقديم الإغاثة لضحايا المجاعة المشهورة فى عام 1974م ، و بناء جيش صومالى قوى أعداده كبيرة ولديه عتاد رهيب وحديث لبلد نوعا مايصنف أنه  صغير مقارنة لجيرانه ، بدا الجيش  حينئذ وكانه أكبر من حجم بلده ، وكان  ذلك بلاشك مصدرا للفخر فى الوطن ومجدا للعسكر وفى مقدمتهم اللواء سياد ([3]) .

ولكن كما يعرف بطبيعة الأنظمة العسكرية فان ما تبنيه من أمجاد وعز تخسره  كذلك فى سبيل البحث عن مجد الذات ، وهو ما حدث لاحقا مع النظام العسكرى فى الصومال بقيادة اللواء سياد برى لتحشر الوطن كله فى كفة الزمرة الحاكمة والمقربة من الرئيس ، وصارت الوطنية  المعنى الأخر للديكتاتورية ليتزلف الكل نحو النظام ومدح قائده مما أهله  للولوج الى الفشل وفى أوسع  ابوبه ، فصادر الحريات الأساسية من  حق الأفراد فى  الإنتماء إلى نتظيمات أو أحزاب  سياسية وإيجاد إعلام حر وغيرها من القرارات التى جعلت المواطن يشعر وكأنه مغترب فى داخل بلده .

وقد تعمد النظام كذلك  فى الإخلال فى مبدأ تقاسم السلطة بين ممثلى المجتمع الصومالى وشرائحه كما حصر الثروة فى أيدى فئة معينة تكن له الولاء وعلى أساس فبلى صرف ، إضافة الى وأده للديمقراطية الوليدة فى البلاد ومبدأ الإنتقال السلمى للسلطة ، وصار القمع سيد الأحكام واهدرت الحريات الأساسية وهاجرت العقول النيرة الى الخارج وتحولت البلاد إلى ثكنة عسكرية تحكم بالمراسم وليس بالدستور .

 ولم يقف عند هذ الحد بل جرت همجيته أحيانا الى قتل مواطنيه لأتفه الأسباب بعد إجراء محاكمات هزلية  على محالفيه فى الرأى ، لتتحول البلاد الى جو من العنف يسود فيه المنطق القبلى وتصعف سلطة القانون وتنفجر الأحفاد القبلية ([4]) .  كل هذه الخطوات المجتمعة وغيرها أفقدت النظام شرعيته وعززت من مواقف معارضيه من الحبهات الصومالية رعم رداأتها فى الغلاف والمحتوى على حد سواء .

[1] .Terrence Lyons And Ahmed I.Samatar : State collapse , Multilateral Intervention, and Strategies for Political Reconstruction. (1995, Washington D.C. The Brookings Institution) PP. 14.15.

[2] .Alex De Waal: The real Politics of The Horn Of Africa , Money ,war And The Business Of Power  ( Uk . Polity Press 2016. P.110

[3] . ibid :P: 110

[4] . حسن محمود عبد الله : الجبهات الصومالية النشأة والتطور ،  ص 54.

آدم شيخ حسن

آدم شيخ حسن : باحث وكاتب فى قضايا السياسة والسياسات . حاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال ويحضر حاليا لدرجة الدكتوراه في نفس المجال.عمل في مجال الاعلام محررا ومحللا وصحفيا مستقلا مع عدة مؤسسات دولية وإقليمية. كما يشارك في العديد من الحورات في الإذاعات والمحطات التلفزيونية العالمية إضافة إلي نشره عددا من المقالات والدراسات التي ساهمت في فهم قضايا وإستراتيجيات شرق إفريقيا الحالية.
زر الذهاب إلى الأعلى