تعليقات على مسار الفيدرالية الصومالية

توصل المجتمع الدولي بعد صولات وجولات إلى الفيدرالية حلا لمشكلات الصومال السياسية والاجتمعاية المستعصية، فانضمت الصومال إلى قائمة 27 دولة فيدرالية في العالم.

بدأ تطبيق النظام على أرض الواقع محاطا بكثير من التحديات مصوبا إليه كم هائل من الانتقادات، في ما يلي من السطور نقوم بجولة سريعة نقيّم فيها النظام الفيدرالي في الصومال بعد مرور ست سنوات على انطلاقه.

في 2012 دشن الدستور الصومالي الحالي المتضمن فصلا جوهريا طال شكل الدولة البسيط، وأسس للّامركزية السياسية في البلاد، حكما لم تعهده منذ استقلالها عن الاستعمار الايطالي إلى لحظة صدور الدستور، ورغم ذلك لم تخل الساحة السياسية والفكرية من نقاشات حول شكل نظام الحكم في البلاد، وازدادت حدة مع تأجج الصراعات الداخلية الدامية التي لا تزال تعيشها الصومال.

وقد سبقت إعلان الفيدرالية حوادث سياسية جسام، دعمتها القوى الدولية والإقليمية لترميم ما أفسدته تلك الحروب الطويلة، ولجمع الفرقاء السياسيين على برنامج سياسي قابل للإدارة ومنسجم مع خصائص الساحة السياسية الصومالية.

شهدت فترة ما بين 2002 و 2004 فعاليات مفاوضات إمبغادي التي عقدت جلساتها في نيروبي بحضور قوي لدول الإقليم مثل جيبوتي وإثيوبيا . كانت ثمرة تلك الجهود انطلاق الفترة الانقالية وقيام نظام 4.5 لتشكيل البرلمان والهيئات التنفيذية للدولة. ولأول مرة في تاريخ الصومال السياسي تم الزج بالقبيلة في الشأن ٍ السياسة بشكل رسمي، وكان ذلك حدثا له ما بعده . والمهم هنا أيضا أن الفيدرالية لم تطرح بعد كحل لمشكلة الصومال مع وجود نماذج إقليمية غير ناجحة لا يمكن أن تلهم غيرها، ولربما يكون لتبني كينيا نظام الفيدرالية أثر في إقدام الصومال عليه.

إن سفينة الفترة الانتقالية انطلقت محاطة بأمواج متلاطمة من التحديات تمثلت في بناء المؤسسات، والفساد الإداري المتجذر، والصعوبات المالية والتدخلات الخارجية.

في أول انتخابات هذه الفترة انتخب الرلمان الصومالي حينها الراحل عبدالله يوسف رئيسا للبلاد، وكان من أمراء الحرب في شرق البلاد، له بها نفوذ كبير من خلاله ساهم في تأسيس حكم ذاتي على أجزاء من مناطق الشرق تعرف حاليا بولاية بنتلاند الصومالية وصار أول رئيس له، ثم تولى من بعده شيخ شريف أحمد، رئيس اتحاد المحاكم الإسلامية سابقا قبل أن يتخلى عن الفكر الجهادي ويرتمي في أحضان أمريكا والمجتمع الدولي، وكانت لاتحاد المحاكم الإسلامية  اشتباكات دامية مع حكومة عبدالله يوسف المدعومة عسكريا من قبل المجتمع الدولي الذي نابت عنه إثيوبيا على أرض المعركة.

وقد أغضب انشقاق شيخ شريف وتغيير مساره  حركة الشباب التي أعلنت فك ارتباطها بالمحاكم الإسلامية ورفضت حكومة شيخ شريف وظل الصراع المسلح بين الطرفين في أوج قوته.

وقد استدعيت تلك الأحداث السياسية القريبة العهد لأبين للقارئ أن النظام الفيدرالي لا يمكن أن يصحح وضعا سياسيا وسط ذلك الركام من الضغائن وضياع الثقة، فلا بد من تهدئة الوضع والعمل على إرساء حكم مركزي يتأهل لمراقبة الولايات وإيقافها عند حدها.

إن السمة الجامعة للنظم المتعاقبة خلال هذه الفترة محدودية تأثير الدولة في حياة المجتمع، وعدم سيطرتها على معظم إقليم الدولة برا وجوا وبحرا.

وكان الفشل في تلك الفترة مشتركا تحملت القسط الوافر منه الحكومات المذكورة، ومعها الرؤساء الدينيون الذين جانبهم الصواب فاقتحموا ساحة السياسة دون الأخذ في الاعتبار بالظروف الدولية والإقليمية التي كان لها تأثير واضح في حياة الدولة بكل جوانبها. ولا يزال الشعب الصومالي يعاني من أخطاء الجماعات الدينية الساعية إلى فرض وصايتها عليه منطلقة من زاوية فقهية ومقاصدية ضيقة تفسد أسرع مما تصلح، وتهدم أكثر مما تبني. والموقف السلبي  لمن يسمّون الدراويش أقل ضررا على الشعب من كثير من المواقف التي اتخذتها حركات الإسلام الإصلاحية لتصحيح مسار الدولة ثم انتهت بنتائج عكسية كارثية على حاضر الشعب ومستقبله. 

هل تناسب الفيدرالية الصومال؟

من المقرر في دراسات القانون الدستوري أن النظام الفيدرالي حالة استثنائية لمعالجة الإشكالات الناشئة عن التنوع  العرقي أو الثقافي أو الديني في مجتمع ما، إذا خيف أن يؤدي ذلك إلى تفكك الدولة وانقسامها على تلك الأسس. وفي انطباق تلك الخصائص على الصومال يرى بعض المحللين أن الشعب الصومالي في عافية من التنافر العنصري بين مختلف مكوناته، فهو واحد في دينه وثقافته وتاريخه، فلا مبرر لفرض الفيدرالية عليه، وما كان من خلافات قبلية أو أيديولوجية  هنا وهناك يمكن معالجته بترسيخ مفهوم الدولة الحديثة، ورفع مستوى معيشة المواطن، والحد من التدخلات الإقليمية والدولية المغرضة في شؤون البلاد الداخلية .

ولو افترضنا جدلا أجدرية النظام الفيدرالي في الصومال فكيف بإمكان مثل هذه الدولة الهشة التي لم تتعاف بعد من آثار الحرب الأهلية، بل لا يزال شعبها تحت نيران الحركات المسلحة ذات التوجهات الأيديولوجية المختلفة، أن تتمكن من إدارة نظام فيدرالي بتعقيداته المؤسسية وتكاليفه الباهضة؟. أضف أن الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من ضبط الأمور في العاصمة ولو لا استعانتها بالمجتمع الدولي وبعض الفصائل الدينية لما طاب لها المقام بها. هذا ما يتسائله بعض المحللين.

ويؤكد هذا الاتجاه ما يراه أبوبكر أحمد علي الغزالي، أستاذ القانون الدستوري بجامعة بنادر الصومالية، أن الفيدرالية لا تصلح للصومال لأسباب أهمها غياب سلطة مركزية مؤهلة تشرف على أداء الولايات، والتدني الشديد في الوعي بماهية النظام الفيدرالي في الأوساط الشعبية والسياسية في البلاد، مضيفا أن النظام الفيدرالي قد فشل في تحقيق الاستقرار وإعادة الثقة بين مكونات الشعب الصومالي، وتجاوز ما خلفته الحروب الأهلية من المظاهر المناوئة لمفهوم الدولة الحديثة، من القبلية والمحسوبية والفساد الإداري، وأن استحداث النظام الفيدرالي ما كان إلا تفاديا لتفكك كيان الدولة الصومالية باستيعاب الأقاليم التي أعلنت حكما ذاتيا بعد انهيار الدولة المركزية.

التحديات التي تواجه تطبيق النظام

صحيح أن نظما ذاتية قامت أثناء الحرب الأهلية، وتمكنت من ممارسة أدوار الدولة الحديثة في المناطق التي وقعت تحت سيطرتها، في الشرق نشأت دويلة بونتلاند وفي الشمال صوماللند، ودورها في خلق مناخ صحيح نشطت فيه التجارة وانتعشت حياة من بها من الصوماليين أمر إيجابي يستحق الإجلال  والتقدير.ولكن لا يمكن إقرار القواعد الفاسدة التي انبنت عليها هذه النظم، فاعتمادها القبلية في تشكيل مؤسساستها مثلا أمر لا يقبله منطق الدولة الحديثة، وبالتالي ليس من الرشد السياسي شرعنة مثل هذه النظم قبل غربلتها وإصلاح ما كان منها فاسدا وإبقاء ما كان صالحا. والحقيقة أن الحكومة الحالية من الضعف بحيث لا تتاهل لذلك الدور، فتلجأ دائما إلى مجاملة تلك النظم اتقاء شرها، إذ بإمكانها فعل الكثير مما يمكن أن يقلقها لان المركز يعتمد عليها في محاربة حركة الشباب وضبط الأمن في مناطق نفوذها.

وبهذا الصدد، وأثناء خطابه أمام جمع في لندن، أبدى رئيس بعثة الأمم المتحدة في الصومال تخوفه من أثر النظام الفيدرالي على الأقليات القبلية في الولايات ونبه على ضرورة إشراكها في الحكم وعدم تهميشها.

إن تسييس القبيلة أبرز ما يعيق الفيدرالية في الصومال ويهددها بالفشل ما لم يتم كبح جماح القبيلة وردها إلى نصابها الطبيعي، وخاصة أن القبلية وتسييس القبيلة أمر لم تنج منه حتى الطبقة المثقفة في أروقة الجامعات مما سيجعل التخلص منها أمرا في غاية الصعوبة، ولكن يمكن تحييد القبيلة لصالح الدولة المدنية الحديثة بإيجاد حكومة مركزية فعالة تهدف إلى توصيل الخدمات إلى الأرياف وتكتسب بذلك ثقة المواطنين. فالقبيلة مصدر قوة واعتزاز لدى المواطن الصومالي العادي لا يمكنه التخلي عنه إلا بعد توفر كيان بديل يطمئنه على مستقبل حياته، وهذا الكيان هو بالطبع الدولة المدنية الحديثة التي تقدم لمواطنيها الخدمات الأساسية من الأمن والتعليم والصحة بعيدا عن المحاباة والجهوية. وهل يمكن الحلم بدولة تلك مواصفاتها في الصومال؟ نعم يمكن ذلك وكيف لا والشعب الصومالي مسلم الديانة مؤمن بالنظام الإسلامي، ولو لا الأغاليط التي ابتليت بها الشعوب الإسلامية مؤخرا من العلمانية والديمقراطية الحائرة لما اختلط عليه الأمر فيرتضي نظما قمعية تتخذ من القبيلة وسيلة إلى الظلم والقهر.

وأظن الأوان قد حان لتُردّ القبيلة إلى دورها الشرعي الذي هو التعارف والتعاون، بكسر الأنشطة السرية للقبائل واستبدالها ببرامج بينية تهدف إلى دمجها وإعادة ترتيب العلاقات بينها، وتشجيع برامج إعلامية تعلم الجيل الحديث العلاقات الاجتماعية والأخوية بين مختلف القبائل الصومالية، وتشجيع التزاوج بين أبنائها. والخلاصة أن توثيق العلاقات التاريخية المشتركة بين القبائل الصومالية أمر يستحق أن يهتم به بدل الافتراضات الفضفاضة بأن الشعب الصومالي شعب واحد وأن الأمور بخير، وهي افتراضات لا يطلقها إلا من كان بعيدا عن المسرح الصومالي ولم يخبر طبيعة هذا الشعب عن قرب. وعلى وزارة الثقافة وأذرعها الإدارية إطلاق مبادرات بهذا الصدد لكسر الانغلاق القبلي الذي يحول القبائل إلى قنابل قابلة للانفجار في أية لحظة.

إن مشكلة تقاسم السلطة في النظم الولائية تظل ماثلة رغم مرور ست سنوات على صدور الدستور الجديد الذي أنشأ النظام الفيدرالي في الصومال كما أسلفنا. وما حصل في ولايتي جوبلاند وغلمدوك خير دليل على ذلك، فالأولى نشأت في ظروف غامضة وخرجت من رحم صراعات قبلية دامية لم تحسم إلا باستقواء أطرافها بالخارج مثل كينيا، والثانية لا تقوم إلا متخبطة فاشلة في جمع الفرقاء فيها على برنامج سياسي مستدام يرتاؤه الجميع، بل ازداد الطين بلة حين انشق الصف الصوفي السياسي فيها فإذا هم فريقان يقتتلان، وما جرى في مدينة حرالي من سفك الدماء وتشريد الأهالي خير دليل على ذلك.

لقد تكرر كثيرا في الآونة الأخيرة لقاءات جمعت ولاة الولايات الأربع التي تشكلت لحد الآن، أغلب ما يدور فيها تهديد السلطات الفيدرالية في مقديشو بإيقاف التعاون معها، والتمرد على توجيهاتها. وأحمد إسلام والي جوبالاند من أشدهم تحمسا لهذا الاتجاه لقوة مركزه الحربي، وقد جمع الولاة في مدينة كسمايو حيث أصدروا بيانات تدين السلطات الفيدرالية وتدعوها إلى التوقف عن التدخل في شؤون الولايات. وفي ظني أن مثل هذه المواقف منشؤها غموض في الآليات القانونية الضرورية لقيام النظام الفيدرالي أخطرها الدستور، أدى إلا تداخل اختصاصات المستويين، كما أن الدستور أحال كثيرا من المسائل التنفيذية إلى البرلمان ليضع لها تشريعات مناسبة الأمر الذي لم يتحقق بالسرعة المطلوبة لخلل في الهيئة التشريعية في المستويين على حد سواء، فبعض الولايات لم تستقر مؤسساتها بعد بل ليس لسلطاتها وجود على أرض الواقع اللهم في عواصم الولايات وأريافها.

وقد انطلقت الفيدرالية فما الحل؟

لا جرم أن المركز قد بدأ يحس بصعوبة مهمة لامركزية الحكم، وقد ثارت فعلا خلافات تتعلق بالسياسة الخارجية في الآونة الأخيرة، حيث استقلت بعض الولايات بإنشاء علاقات ثنائية مع دول الجوار، واتخذت قرارات بهذا الشأن بعضها تتعلق بالأمور السيادية. والحق أن المركز يحاول كبح جماح بعض الولايات بإنشاء خطوط تنسيق في المجالات المختلفة بإرسال منسقين من قبله يتعاونون مع سلطات الولايات في ضبط الأمور، والغريب أن بعضها ترفض هذا التنسيق، ورد ولاية جوبالاند منسقين من النوع المذكور غير مرة خير شاهد على هذا، ويدل بوضوح على تدني مستوى الثقة بين مستويي الحكم في البلاد.

ومن الضروري تصحيح الوضع برفع مستوى التنسيق والرقابة على الولايات وتضمين الدستور بندا بإمكان سحب الصلاحيات منها في حالة فشلها في تنفيذ السياسات العامة للدولة، كما هو الحال في كثير من دساتير الدول الاتحادية.

وأهم ما يجب على المركز التأكد منه حالة الأقليات القبلية في الولايات، كون تسييس القبيلة أساس الكثير من الأزمات السياسية في الصومال، وعليه مراجعة القرارات التي اتخذت في هذه الولايات أثناء غياب الحكم المركزي الفعال، خاصة فيما يتعلق بالتقسيمات الإدارية فيها، فهناك الكثير من المحليات تم إنشاؤها على أسس قبلية وكذلك التعيينات السياسية فيها، وهذه المسائل ضرورية لغرض توزيع الثروة بين الولايات أولا وإيصال نفوذ المركز إليها ثانيا.

ختاما:

إن النظام الفيدرالي لا إشكال فيه إن طبق مصحوبا بضمانات ترفع فعاليته، وكون الشعب الصومالي واحدا في كثير من الأمور لا يجعل هذا النظام غير مناسب له، فشعب دولة الإمارات العربية المتحدة لا يختلف كثيرا عن الشعب الصومالي، وقد طبق النظام الفيدرالي بكفاءة عالية يشهدها الجميع.

إلا أن الفيدرالية المفاجئة دون فتح قنوات الحوار والدراسة للشعب وأهل الاختصاص أدت إلى انتكاسات سياسية ومؤسسية واضحة في الصومال، كان من الأفضل الانتقال من النظام المركزي تدريجيا، وتحويل الصلاحيات إلى الولايات شيئا فشيئا بدل هذه الجرعات الزائدة التي ضررها أكبر من نفعها.

وعلى المركز استعادة هيبته وصلاحياته المغصوبة ومراقبة الولايات عن كثب وإرغامها على قبول التنسيق معه. وأظن بفعل ذلك ومعالجة التحديات الواردة أعلاه يمكن تصحيح مسار الفيدرالية في الصومال.

  

مختار حسين

باحث كنيي
زر الذهاب إلى الأعلى