اطلالة تاريخية محايدة على تاريخ الصراع الصومالي الاثيوبي في اوغادين (3 -3 )

بعد ان عجزت الوسائل السلمية والقانونية عن ايجاد حل مرضي للصومال والصوماليين بدا أن خيار العمل المسلح خيار لا مفر منه ، وقد كثفت المقاومة في الاقليم عملياتها خصوصا عام 1964 والتي كانت تقوم بها جبهة تحرير الصومال الغربي وهي عبارة عن اتحاد بين جبهة نصر الله التي نشطت في الاقليم في الخمسينات قبل استقلال الصومال وجبهة حزب وحدة الشباب الصومالي الذي قاد استقلال الصومال, وفي 6 فيراير عام 1964شنت اثيوبيا هجوما مفاجئا على حدود الصومال بحجة ان الصومال هو مصدر الدعم للمقاومة في اوغادين مما حدا بمنظمة الوحدة الافريقية التدخل في انهاء هذه الحرب حيث نجح الرئيس السوداني ابراهيم عبود في التوسط بين الدولتين وعقد اتفاقية الخرطوم في مارس 1964 التي انهت القتال بينهما بعد نفي حركة تحرير الصومال الغربي تبعيتها لحكومة الصومال وانها حركة مستقلة  , وقد نتج عن هذه الحرب بداية تحرير بعض المناطق في اوغادين واستمر القتال اقل من شهرين , واعلنت حركة تحرير الصومال الغربي انشاء حكومة في الاقليم , لكن اتفاقية الخرطوم نصت على انسحاب قوات الجانبين مسافة 10 إلى 15 كلم داخل حدود الدولة , وشكلت لجنة مشتركة تجتمع كل 3 اشهر لتقييم الوضع لكن اللجنة لم تحقق اهدافها نظرا لحالة الاسترخاء العسكري الذي استمر خمس سنوات حتى انقلاب عام 1969بقيادة محمد سياد بري.

في هذه الفترة لا بد ان نشير الى ان الحكومة الديمقراطية في الصومال كانت ميالة الى الحلول السلمية , ومع وصول الرئيس عبدالرشيد شرماركي الى السلطة عام 1967 ومعه رئيس الوزراء محمد ابراهيم عقال تم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود مع كينيا مما يعني الاعتراف باقليم انفدي في كينيا بتبعيته للدولة الكينية , هذه الاتفاقية التي وقعت في عروشا بتنزانيا بوساطة من منظمة الوحدة الافريقية ووساطة شخصية من امبراطور اثيوبيا هيلاسيلاسي! وقد نتج عن هذه الاتفاقية حالة انقسام في الداخل الصومالي في الحزب الحاكم بين مؤيد ومعارض , كما اندلعت مظاهرات في الصومال اعتراضا على الاتفاقية , لكن هذه الاتفاقية تظهر ان القيادة الجديدة في الصومال برئاسة شرماركي كانت مستعدة لحل خلافاتها الحدودية مع جيرانها , وربما لو بقيت في السلطة لحلت خلافها مع اثيوبيا على غرار اتفاقيتها مع كينيا , لكن التطورات لم تمهل هذه الحكومة طويلا حيث اغتيل الرئيس شرماركي بعد سنتين من حكمه عام 1969 , وبعد هذه الواقعة حدث انقلاب عسكري ابيض قادة الجنرال محمد سياد بري , والذي كان من مبادئ ثورته التمسك بتحقيق الصومال الكبير , لكنه ايضا انتهج الاسلوب السلمي لتحقيق هذه الغاية , وفي عام 1974 كان حكم الامبراطور هيلاسلاسي بدأ في الضعف الشديد والتداعي بعد وقوع مجاعة كبرى في البلاد تضرر منها بشكل خاص الاورومو , كما زادت حركات المعارضة نشاطها لا سيما المعارضة المسلحة الاريترية , وفي زيارة لرئيس اليمن الجنوبي سالم ربيع علي الى الصومال عام 1974 اقترح على سياد بري القيام بعمل عسكري لاستعادة اراضي الصومال التي تدعيها من اثيوبيا مع استعداده لمساندة الصومال بوحدات عسكرية متنوعة , لكن الرئيس سياد بري رفض المقترح مذكرا ان الصومال لديه ما يكفي من القوات وأن لديه خطط سلمية لاستعادة هذه الاراضي.

منجستو وسياد بري وحرب 1977

في عام 1975 وقع انقلاب منجستو هيلامريام في اثيوبيا على الامبراطور هيلاسيلاسي , واعلن في اثيوبيا انها دولة اشتراكية , ولائها للاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية , ومع هذا الاعلان رحب الصومال بهذا التطور , وبحكم ان النظام في الصومال اشتراكي ايضا ولكنه اقل ولاء للدول الاشتراكية حيث حافظ على علاقات قوية مع  السعودية ومصر وايران الشاه وامريكا , وكانت هناك اتفاقية صداقة بين الصومال والاتحاد السوفيتي قام الاتحاد السوفيتي بموجبها بتسليح وتدريب الجيش الصومالي مما مكن الصومال من امتلاك جيش قوي ومدرب في حين منح الصومال الاتحاد السوفيتي قواعد عسكرية وتسهيلات في جميع الموانئ الصومالية , نظرا لأن الحرب الباردة في اشدها مع المعسكر الغربي , بالمقابل خسرت اثيوبيا دعم امريكا واوقفت كل تعاون معها بعد الانقلاب العسكري حيث كان هيلاسيلاسي موالِ لأمريكا والغرب عكس العسكر الذين اطاحوا به فولائهم للاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية.

بحكم ان سياد بري كان اشتراكي وان بدرجة اقل فقد رحب بالتطورات في اثيوبيا , وفي برقية له قال بري” ان ما يجري في اثيوبيا هو من شؤونها الداخلية , ولن يسمح بصفته افريقيا وصوماليا أن يتدخل أحد في شؤونها , وأرسل مبعوثا سريا خاصا للتفاوض حول المشكلات بين البلدين ثم ارسل مبعوثا سريا آخر لكن الحكومة الاثيوبية الجديدة اعلنت عن هذين المبعوثين.

في فبراير عام 1976 عقد الرئيس سياد بري اجتماعا للمجلس الاعلى للثورة ومجلس الوزراء لبحث العلاقات الصومالية الاثيوبية على ضوء التطورات الاخيرة , ومنح المجتمعون الرئيس سياد بري سلطة التوقيع على قيام اتحاد فيدرالي بين اثيوبيا والصومال , وبالفعل طرح الرئيس سياد بري الفكرة على المسؤولين الاثيوبيين أثناء انعقاد مؤتمر القمة الافريقي الطارئ أواخر عام 1976 , ووعد الجانب الاثيوبي بالرد على المقترح الصومالي خلال 15 يوما إلا أن اثيوبيا شنت حملة دعائية مضادة على الصومال في النصف الثاني من الشهر نفسه فيما يشبه رفض هذا الاتحاد , ولهذا طلب الصومال من الرئيس “جوليوس نيريري” ورئيس اوغندا “عيدي امين” وكذلك طلب من الرئيس اليوغسلافي ” جوزيف توتو” اقناع اثيوبيا بالدخول في الاتحاد الفيدرالي لما فيه مصلحة البلدين , وقد رفضت اثيوبيا كل المحاولات , وليس هناك سبب رسمي معلن لرفضها الاتحاد , ولكن ربما ان الحكام الجدد لا زالوا في بداياتهم ويعانون من حرب قوية على جبهة اريتريا وتيجراي , وجيش لم يتعلم على الاسلحة السوفيتية حيث لا زال في بدايته جعلهم يرفضون هذا الاتحاد الذي قد تسيطر عليه الصومال.

مع فشل الجهود السرية والعلنية لإقامة اتحاد فيدرالي , ومع تعنت الجانب الاثيوبي الذي وضع من مبادئ ثورته المحافظة على وحدة البلاد , بدا التفكير الصومالي في استعادة اقليم اوغادين بالقوة لا سيما بعد حالة الضعف والتشتت لدى الجانب الاثيوبي وانشغاله عسكريا بالحرب في اريتريا حيث سيطرت قوات المقاومة الاريترية على معظم مناطق الريف في اريتريا ولهذا فقد اتخذ الرئيس الصومالي سياد بري قراره بغزو الاقليم واستعادته بالقوة , ولا يعرف هل هذا القرار صومالي محض , او بتأييد أو اقتراح أو تشجيع من دول أخرى خاصة الدول المعادية للمعسكر الشيوعي مثل السعودية ومصر وايران الشاه , وان اثيوبيا والعالم سيكونون امام الامر الواقع ولن يكون هناك أي تدخل لصالح اثيوبيا.

في 13 يوليو 1977 شن الصومال هجوما مباغتا وكبيرا على القوات الاثيوبية على طول الحدود بين البلدين استخدم فيه مختلف الاسلحة السوفيتية التي بحوزته , ولم يخبر عن هذا الهجوم الاتحاد السوفيتي أو اي من الدول الاشتراكية التي يفترض أنها دول حليفة, واستطاع خلال الشهر الاول من القتال من السيطرة على 90% من اقليم اوغادين ولم يتبقى سوى مدينتي هرر وديرا داوا حيث حاصرت القوات الصومالية مدينة هرر لكنها لم تستطع دخولها بسبب نقص الدعم اللوجستي وطول خط الامداد.

من جهة اثيوبيا فقد غضب العقيد منجستو واعلن ان القوات الصومالية اجتاحت بلاده بدعم مباشر من قوى رجعية وامبريالية في المنطقة حسب زعمه, وبرر هزيمة القوات الاثيوبية الى انها في مرحلة تحول الى استخدام الاسلحة السوفيتية بعد ان قطع الدعم الامريكي عنها , وان الجنود يحتاجون الى اشهر حتى يجيدون استخدامها , وبعد ذلك سافر منجستو الى موسكو واستطاع اقناع القيادة السوفيتية برئاسة بريجينيف بدعم اثيوبيا , وبعد مفاضلة بين الحليفين السابقين للاتحاد السوفيتي رأت القيادة السوفيتية دعم اثيوبيا نظرا لأن الصومال هو الطرف المعتدي من خلال قرارات مجلس الامن ومنظمة الوحدة الافريقية , ونظرا لأن قيادته اكثر ولاء للاتحاد السوفيتي وحلفائه , اضافة الى موقعها الاستراتيجي الاكثر اهمية على البحر الاحمر وعند مدخل باب المندب , وثقلها السياسي في افريقيا بصفتها تستضيف مقر منظمة الوحدة الافريقية , ولهذا قام الاتحاد السوفيتي بدعم غير مسبوق لأثيوبيا , ومع بداية عام 1978 عقد مؤتمر ضم الجنرال كوليا كوف المسؤول عن العمليات السوفيتية في افريقيا ومعه خمسة من كبار جنرالات الاتحاد السوفيتي , وراوول كاسترو وزير الدفاع الكوبي ومعه 10 ضباط كوبيين , ومجموعة من جنرالات المانيا الشرقية ورئيس الاركان في اليمن الجنوبي , وفي المؤتمر تم وضع خطة لاستعادة الاقليم على اساس القيام بهجوم شامل على القوات الصومالية على محاور متوازية بدلا من الفكرة التي طرحت لمهاجمة الصومال من الجنوب والاستيلاء على ميناء كسمايو ثم الاتجاه شمالا للاستيلاء على مقديشو واسقاط حكم سياد بري.

منح الاتحاد السوفيتي اثيوبيا مستشارين واطقم دبابات واسلحة اخرى كما نقل وحدات مدربة من القوات الكوبية من انجولا الى خطوط القتال تقدر باكثر من 9000 جندي , كما امدت ليبيا اثيوبيا بدبابات ايطالية متطورة شكلت رأس الحربة في الهجوم على جيكجيكا خصوصا , اما اليمن فأمد اثيوبيا بحوالي 2000 مقاتل على وحدات مدفعية ومدرعة , وفي شهر فبراير 1978 بدأ الهجوم الاثيوبي مع القوات المساندة له بحجم 3 فرق مشاة , و 4 فرق متطوعين ,ولواء مشاة ميكانيكي , وثلاثة الوية مختلطة اثيوبية كوبية , ونجحت القوات الاثيوبية في اختراق الدفاعات الصومالية , واصدرت القيادة العسكرية الصومالية أوامرها لقواتها بالانسحاب , وتوقفت القوات الاثيوبية المشتركة عند خط الحدود الدولي.

ادت هذه الحرب الى مقتل ما يزيد عن 12000 مقاتل من كلا الجانبين اضافة الى الاف المصابين , كما ادت الى نزوح عشرات الالاف من الاقليم الى الصومال والذي قام سياد بري بتوطينهم في الاقليم الشمالي الغربي , كما ادت الى اضعاف الصومال عسكريا واقتصاديا وسياسيا , وظهرت الحركات المعارضة المسلحة لأول مرة في الدولة منذ الاستقلال بدعم من اثيوبيا , واصبح الصومال يعتمد تقريبا على المساعدات الخارجية من دول الخليج وامريكا والصين , وانتهج كل طرف سياسة دعم المعارضة والحركات المسلحة ضد الطرف الآخر مما ادى الى انهاك الدولتين بالحروب الداخلية على حساب التنمية.

=======================

مصادر المقال
1/ موسوعة / مقاتل من الصحراء

2/  النزاع الصومالي الاثيوبي حول اوغادين – د. سعيد شخير سوادي / جامعة واسط بالعراق

3/ موسوعة ويكبيديا الحرة

4/ عدد من المقابلات على اليوتيوب لعسكريين وسياسيين عاصروا المرحلة
بالاضافة الى مصادر متنوعة أخرى.

سعيد معيض

الكاتب – الصحفي السعودي ومختص في شؤون القرن الإفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى