أزمة التعليم وإنجابها عند الأمم!

صدق من كانت مقولته ” الجهل في حقيقته وثنيىة لأنه لا يغرس أفكارا بل ينصب أصناما” مالك بن نبي، ولا يعيب المرء بفقره ولا عيب في جسمه فليس له في ذلك حول ولا قوة وإنما يعاب على قبح تفكيره ورداءة تعليمه، ولهذا قال إيمانويل كانط في مقولته المشهورة ” لكي تغيروا المجتمع ينبغي أولا أن تغيروا العقليات السائدة فيه عن طريق التعليم والتشقيف والتهذيب” لأن التعليم هي قاطرة أمم نحو التقدم والتطور، وهو صدارة بين المجتمعات البشرية، لذا تتوجه الجهود لتقدمه، وتتركز الاهتمامات ليحصله مواكبا لمقتضيات وحاجات العصر…

ومما لا شك فيه أن الأمم تزدهر وتزداد تقدما وتطورا كلما كانت نظم تعليمها جيدة وخالية من الأزمات، وكثيرا ما نجد الأمم الفقيرة أو الدول النامية متخلفة بسبب نقص وتدهور النظام التعليمى الذى تتبعه تلك الأمم، فكثير من الناس يظنون بأن الأزمة في التعليم هي أزمة مستعصية على العلاج، وليس الأمر كما يظنون، لأن التربية والتعليم هما عمادان لكل المجتمع!

فهناك أزمة حقيقية للتربية والتعليم كما تسلم رجال الفكر التربويين والاجتماعيين، تلك هي أزمة تعاني دول العالم غنية كانت أم فقيرة، بيد أن الأزمة تعمم جميع المجتمعات البشرية في جميع مجالات الحياة، ولهذه الأزمة مظاهر متنوعة يمكن أن نوجزها بما يلي:-

أولا: أزمة التربية والتعليم.
إن التغير الذي طرأ في المجتمعات البشرية أدى إلى حدوث أزمة فادحة في التربية التي أصابها هذا التغيير والسلوك غير مرغوب فيه، ولذا نجد في الغالب انسجاما بين القيم الذي طرأ في المجتمع وبين المنظومة الرسمية التي أسستها تجليات أزمة التربية والمجتمع، فتفكك كيان المجتمع يؤدي إلى تفكك القيم والسلوك التي تحدد طبيعة وهوية المجتمع، كما تؤثر تصنيف المجتمع والأسرة التي ينتسب بها كل فرد في هذه الحياة…

فمن أسباب أزمة التربية  فصل الدين (التعقد) والتراث (هوية المجتمع) عن حياة المجتمع، وهذه يخرق الفرد المسلم من عقيدة ونظامه التربوي، مما يسبب الكثير بالتقهر الفكري، ولهذا لا يمكن فصل التربية عن الحياة وفصل التعليم عن الحياة وفصل التربية عن التعليم، لأن كلا منهما أساس في عملية تفاعل بين الأجيال الناشئة والبيئة الاجتماعية، فالمشكلة العظمي هي غياب التنسيق بين المؤسسات التربوية وتهميش كيان المجتمع وتقليص دورها وغياب المعيار…

أضف إلى ذلك فإن التعليم مازال في مختلف مراحله وبشكل إجمالي، سطحيا في معظم بلدان العالم الثالث في منهجه ومحتوياته، فطرق التعليم ما زالت قديمة، وتنحصر في طريقة واحدة أشهرها طريقة المحاضرة… ومن مشكلات التعليم الشائعة في الدول النامية، هي الانفصال بين لغة العلم ولغة الحياة اليومية، ونعني ذلك دراسة العلوم الطبيعية والعلمية بلغة أجنبية، فهذا تمس قضية ديمقراطية التعليم الصميم.

ثانيا: أزمة المناهج التعليمية.
تعتبر غياب المنهج التعليمي عن أية عملية تعليمية مقصودة يعنى ذلك مجرد تخبط عشوائي لا يؤدي في النهاية إلى غاية مرغوبة فيها ولا يحقق أهداف مرتقبة…فأزمة المناهج تتمثل في الاهتمام بالحفظ والتلقين على وجه الأرض، وقلة المفاعلة والمشاركة سبب في هبوط مستوى الوعي الفكري…لأن المناهج الدراسية يغلب عليها صفة الجمود والركوك وتركيزها نحو الكم أكثر من الكهف، وغلبة الجوانب النظرية دون تركيز الجوانب التطبيقية، ولهذا فإن كل دول العالم تسعى سعيا حثيثا لبناء ومراجعة مناهجها الدراسية وتطويرها والارتقاء بها نحو الأحسن… فعملية بناء المنهج تختلف تماما عن عملية تطوير المنهج، حيث تختلف من نقطة الأساس وهي بداية وانطلاق عملية بناء المنهج، وتبدأ من الصفر أى بمعنى بناء المنهج الجديد وإلغاء المنهج السابق كله…فعملية بناء المنهج الجديد أو تطويره أصبح أمراً ضروريا، لأنه يرتبط بعملية التقدم والنهضة في الدولة والشعب في كل المجالات (الاقتصادية والصناعية والزراعية، والتطور العلمي، والتقني…) والفرق بين دولة وأخرى في التقدم يرجع إلى بناء وتطوير الدولة قطاعها التعليمي.
ومن المتفق عليه أن المنهج عنصر أساسي من عناصر العملية التعليمية إن لم يكن صلبها وعمود فقرها، والسبب في ذلك أنه يقدم للطالب تصورا هاما في جميع أنواع الخبرة من معلومات وتفكير وميول واتجاهات ومهارات وقيم، كما أن المنهج التعليمي يوضع لترجمة الأهداف العامة للتربية وكذلك يقترح الخطوات التى ينبغي أن يسير عليها المجتمع لبناء الأجيال الناشئة والطريقة التى يريدها…

ثالثا: أزمة المعلمين.
إن أشكال أزمة المعلمين متنوعة ومتعدده، إذ لا يمكن حصرها في هذه السطور، ولكن نتكلم بشكل موجز، فأشهر هذه الأزمة انخفاض مستوى الثقافي أو التخصصي، فعدم اتساع الهوية الثقافية بين المعلم والمتعلم تسبب ضمور مستوى القيم والإحساس الوطني، وعدم الحفاظ على التراث الحضاري في المجتمع، وهناك أزمة أخرى وهي عدم تأهيل الكوادر والخبراء لتدريب المعلمين، وعدم مراعاة الفروق الفردية بين المتعليمن، وقلة توفير الكتب والمقررات الدراسية، ونقص الوسائل التعليمية التي تستخدم في التعليم (التقنيات التعليمية)، فكل هذا يؤدى إلى نهاية مؤسفة.

رابعا: أزمة المناهج الأجنبية.
تعتبر مشاكل تعددية المناهج التعليمية في البيئات الاجتماعية ضمن أكثر المشاكل التي تشكل خطورة على الأجيال الناشئة، لأن المناهج الأجنبية صممت ووضعت لبيئات بعيدة ومختلفة عن البيئة الأخرى التي وضعت وصممت، فكثيرا ما تحتوى على موضوعات محلية بحتة، بعيدة عن أذهان التلميذ، ولعدم اتصالهم بحياتهم وظروف بلادهم، ومن هذه المشكلات أولها عدم وجود فلسفة تربوية للمجتمع، وانقطاع النظم التعليمية عن الحياة وعن المجتمع، فتسعى كل حاضرة إلى حصر نظم التعليم على نقل المعلومات فيكون الناتج تأهيل شخصية لا تعرف مصالح وطنها، فيفقد الشخص نظرية الإنسانية الشاملة…لذلك فإن استخدام المناهج الأجنبية ظلت تدريسها حاليا ما يعيق العملية التعليمية من بلوغ الأهداف التربوية المرجوة.

خامسا:أزمة اللاتوازن داخل التعليم.
تتمثل التعليم بكل أطرافها متوازنة في كل بيئات المجتمع، بيد أن تغلبات الطروف تتوعد التعليم بأن تكون غير متوازنة بين الريف والحضر أو بين البنين والبنات وتعليم الأغنياء والتعليم الفقراء…

 بأي طريق يكون حل هذه الأزمة؟
…مع أن الأمم يمتلكون كل المقدرات التي يمكن أن يصبحوا بها قوة عظمى والخروج بها في كل الأزمات التى تواجه في الداخل والخارج، إلا أن الفائدة في كل من هذه القدرات قليلة جدا! بيد أن التعليم ليست دروس الحقائق فقط، بل هي تدريب لذهن العاقل أن يفكر…“لأن التعليم بدون تفكير جهد ضائع، والتفكير بدون تعلّم محفوف بالمخاطر” كما يقول كولفوشيوس

 وعلى الرغم من ذلك يجتمع المتخصصون بعلوم التربية والتعليم على أن عجز الأمم عن استفادة قدراتها البشرية إنما يمكن في القصور الكائن في أجهزة التفكير المستقبلي والتقدمي وتجسيد ثقافات المجتمع، فالأمم الواعية والأمم المتحضرة هي التي تحس بأزمتها والخلل في نقص الفاعلية والممتلكات… لذا فإن أول شيء تسعى فعله هو قيام الخبراء والمختصين بعلوم الإنسانية بتشخيص وتجسيد القيم وعادات المجتمع بالنظم التربوية القائمة.


وبالتالي فإن كل أمة تريد أن تنجح في الخروج من الأزمات والتحديات التي تواجهها داخليا وخارجيا يجب عليها ان تبدأ بفحص نظامها التربوي والثقافي.

 

حسن عبدالرزاق عبدالله

طالب، دكتوراة في التربية _ مناهج وطرق التدريس. جامعة بخت الرضا.
زر الذهاب إلى الأعلى