الصراع على خِرقة

من طبيعة  البشر أن يحدث بينه شئ من التنافس على حظوظ الدنيا، والصراعُ على المصالح المختلفة، وهذا متأصل ومغروز في سجيّة ابن آدم، إذ في الوهلة الأولى عندما وُجد البشر على وجه الأرض، فقد قتل ابن آدم الأول أخاه، لأجل اختلاف في مصالح دنيوية عابرة. وانطلاقا من هذه الحقيقة  كان هناك صراع عنيف بين الطريقة القادرية بشقيها الأويسية والزيلعية وبين الطريقة الإدريسية بقسميها الرحمانية والصالحية، وهذا الصراع كان له أسباب مختلفة، ذكر جلها الشيخ عبد الله معلم يوسف في كتابه ” نصر المؤمنين على المردة الملحدين مع بقية أحكام الدين ” و رسالته ” السكين الذابحة الكلاب النابحة” وهذه الرسائل من ضمن المجموعة القلنقولية المطبوعة المتداولة، علما بأن الشيخ عبد الله كان يعني المؤمنين الذين يُنصرون أتباع الطريقة القادرية، وكان يقصد بالمردة الملحدين، والكلابِ النابحة أتباعَ الطريقة الصالحية.

وكان من ضمن أسباب الصراعات بين الطريقتين التي لم يتعرض لها الشيخ الصراع على إكثار الأتباع ، فقد كانت كل طريقة تحاول أن يكون لها القدح المعلى، والحظ الأوفر من المريدين والخلفاء والأتباع، واستخدمت كل طريقة وسائلَ متنوعة للوصول إلى هدفها المرسوم، والتغلب على خصمها المحموم، وكان من أهم هذه الوسائل استخدام الدعايات والشائعات سلبا وإيجابا، وأحيانا كانوا يستخدمون الدعايات إيجابيا كذكر كرامات وخوارق علماء الطريقة، ويذكرون منزلتهم عند الله، وأن طريقتهم هي أفضل الطرق، وأحبّها إلى الله، وأن” كلّ طرائق الأقطاب حقا *** مواردها سلطان القادرية ”  الإنس لهم مشايخ ، والملائكة لهم مشايخ، وأنا شيخ الكل”( [1]). يعني الشيخ: عبد القادر

” فالأولياء جميعهم من كانوا أينما كانوا وحيثما كانوا مندرجون تحت قوله، وأمره، وطاعته إلى يوم القيامة، فلا يسع أحدا التخلف عن ذلك “([2])

وأحيانا آخر كانوا يستخدمون الشائعات سلبيا مثل طعن خصومهم، وحرق ملفهم، والتصيد بأخطائهم ثم تهويلها ونفخها، وأحيانا يُنتجون قصصا وهمية، ورواية ملفقة لعزل الخصوم.

   و في خضم نشر الطريقة بأوسع رقعة ممكنة وجلب أتباع لها، وتجنيد أعضاء جدد لصالحها  وتمييزها عن سائر الطرق اخترعت الطريقة القادرية الصومالية علما خاصا بها، بحيث كُتب عليه شعار خاص للطريقة تتميز به عن مثيلاتها، وكان هذا الشعار عبارة عن كلمتي التوحيد ” لا إله إلا الله محمد رسول الله ” وأضيف إليهما كلمتان أخريان تعبران بشيخي الطريقة ” الشيخ عبد القادر شي لله وأويس ولي الله” وبينما الطرق الأخرى رفضت أن يُضاف إلى التوحيد شيئ آخر من أسماء الشيوخ.

 ومهما يكن فقد حَكى لي عمَّي ـ رحمه الله ـ  و كان من شهود الأعيان بالواقعة، أن قادة الطريقة الأحمدية قررت أن تتخذ علما بها اقتداء بمثيلتها القادرية ، وفعلا اتخذوا علما خاصا بهم من خلاله يَعرفه الرائي بأنهم الطريقةُ الأحمدية، وفي أحد الأمسيات بينما الطريقة الأحمدية تُرفرف أعلامها في سماء حافة وَرْطِيغلَي، وقد عقدوا “حَضرة” في السوق المواشي القديم في ساحة ورطيغلي عند مسجد جدي ” الحاج آدم يري” إذ فُوجئوا بشباب متحمسين من الطريقة القادرية ، فأنزلوا الأعلام وأخذوا بها عنوة، وأخبروا الجمع بأن الأعلام حكر على طريقة القادرية، ولا يحق للإدريسيين إتخاذ العلم.

هذا الفعل أغضب أتباع الطريق الأحمدية، فقرروا أن ينتقموا من أتباع الطريقة القادرية، وفي يوم من الأيام، بينما الطريقة القادرية عقدت حضرة عند قبر الشيخ عبد الرحمن الصوفي، وكل الطرق كانت تكنّ للشيخ عبد الرحمن إحتراما وتقديرا إذ لم يكن ينتمي إلى أحد الطريقتين وإنما كان شيخَ تربية وتعليم، وكل الطلاب بمختلف إتجاهاتهم كانوا يحضرون دروسه، ويستفيدون من علمه الغزير، ولذك كل طريقة كانت تفتخر بأنه منهم. وفي هذا الأثناء بينما أهل الطريقة القادرية منهمكون بتمايلاتهم، إذا بمجموعة من الطريقة الأحمدية المسلحون بسكاكين استولوا على الأعلام وجعلوها قطعا وأشلاء، هناك دارت معركة عنيفة بين الجمعين، وسالت دماء من الجانبين، حتى تدخلت الشرطة لفض النزاع بين الفئتين، ثم رفعت القضية إلى محكمة ، والقاضي آنذاك كان قاضيا إيطاليا من المستعمر الإيطالي. وعندما درس القاضي القضية أصدر قرارا مفاده ” بعد اليوم يحقُّ لكل أحد – وإن كان هَبَرْ إيْشَا ([3])–  أن يتخذ علما، بأيَّ شكل كان، وبأيَّ لون كان “.

ما أشبه الليلة بالبارحة ، كانوا أمس يتقاتلون على خرقة من الثياب، والاحتلال ضارب أطنابه على البلد، صادر حريتهم وحقوقهم، واليوم بعد مرور هذا العمر المديد، وتقدم البشرية، واهتمام كل دولة وكل أمة بمصالحها ووحدتها، فإن بني الصومال ما زالوا يتصارعون على شيء أشبه ما يكون بهذه الخرقة !، من جنوبي وشمالي وشرقي، و صوفي وسلفي وإخواني،  وعلاني وفلاني، حكمتك يا رباه!

 

 

 

[1] – المجموعة القلنقولية ، جـ 2، ص 135

[2] – القلنقولية جـ 2 ص 136

[3] – هبر إيشا ، كانت إمرأة متخلفة عقليا ( معتوهة) تجمع العلب الفارغة، وتجلس في وسط البلد عند شبيل، وأََفَرْ إِْردُود في مقديشو

 

الدكتور يوسف أحمد

الشيح يوسف أحمد ... طالب في دراسة الدكتوارة. تخرجت كلية الدراسات الاسلامية بمقدشو عام 1989. إمام وخطيب بمسجد في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى