عشرا بعد عشر من التخرج من الجامعة(1)

عمر الإنسان رصيد يزداد من جهة، ويقترب إلى الصفر والمنيّـــــــــــة من جهة أخرى، والجديدان اذا ما استوليا على مولود جديد أدّباه  طوعا أو كرها،وصروف الدهر تجارب لا فشل لمن وعى و تذكّر ، وقدجعل الله الليل والنهار خلفة لمن  يتذكر ويشكر،ورسم  للكون سننا لا تتبدّل ولا تتغيّر، فمن سار علي الدرب وصل،ومن حاول القفز عنها ندم وخاب  بعدفو ات الفرص والأمل ،فاذا كان الإنسان ابن بيئته ، وتفكيره وخططه الاستراتيجية مرّة في يده في الكبر ،وتارة في  يد وليـــــّه في الصغر، فقد أحببتُ  الحرية والاستقلال الفكري، وكرهتُ التقليد وعادات الأسر، والطاعة العمياء للبشر، وكنتُ مولعا بخلق الجديد وألا أكون صورة طبق الأصل ،فالكبير مكلّف مختار،له إرادته الميسرة فيما يسعي إليه،ولايدري الإنسان عند العزم والإقدام أيعطب مركبه أم يعلي قدحه، ، فالقرار الأخير لربّ البشر فهو المالك المدبّر

فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ.اذا لم يكن عون من الله للفتي ***

اخترتُ طريق العلم  والتعلّم توقا وطوقا مع مرارة تعلّم الفقير وبؤسها،وقلّة المساعد عند الأمر الجلل، وكرهتً التغرّب مبكّرا،والسعي للعمل والمال ومرافقة الجهل طيلة الحياة،مع أنها كانت الطريقة المفضلة لأقراني أنذاك ،للخروج من الإعوزاز وطرد الفقر من محيط الأسر،وبعد عقد من الزمن، وجد كلّ راغب بغيته، فالعامل وجد المال بعد بكور ورواح،والطالب وجد العلم ونال  الشهادات بعد  الغدوّ والرواح، فأيّ النتيجتين  أحسن من الآخر العلم أم المال مسألة لم يستطع القدامى والمعاصرون بتّــها  ،والحسم في أمرها، ولعل  السبب اختلاف الرغبات والقناعات والأحوال، ولو استقبل مااستدبر  من الأمر، لذهبتُ بالقول الثالث ، فمن طلب العلم وحده أتعبه الفقر غالبا وأصبح عالة على الإخوان، ومن طلب المال وحده رافقه الجهل  وتخبط خبط عشواء للكسب السريع ،والفائز من جمعهما، فطلب العلم صباحا، والعمل مساء، وبعد أمد  وطول زمان  نال ما أراد وتغنّي” ما أحسن الدين والدنيا اذا اجتمعا” ،

بعد تخرجي من الجامعة في السودان الحبيب، ومكوثي خمس سنوات بحلوها ومرّها،من عام 2002-2007م،وبعد  عون الله وتوفيقه  حصلت إجازة من كلية الحاسوب 2006م، من جامعة افريقيا العالمية وأخرى من كليّة  أصول الدين عام 2007م، من جامعةأامدرمان الاسلامية ،فآثرت الرجوع إلى الصومال والحروب في مقديشو في أوجها، والصراع الصومالي الصومالي يستعر ويتوهّج، فاستشرتُ الأصحاب والعلماء وعملت ُاستفتاء لمن حولي في السودان  الحبيب بالإجابة عن السؤال الصعب  التي ارّقت الخريج آنذاك،” فأين تذهبون “؟؟  وبعد استخارة واستشارة ألقيتُ عصاترحالي في مدينة بوصاصو  بونتلاند ،وتعاقدتُ مع جامعة شرق إفريقيا، معيدا غير متفرغ في كليـــــة علوم الحاسوب،وكانت يوم 20/11/2007م ، بعد شهرين من التّخرج من جامعة أمدرمان الإسلامية، واليوم بعد عشر سنوات من العمل في هذا الصرح العلمي المبارك، وتخريج أكثر من 12 دفعة من الجامعة مهندسين ودعاة، وترقي المناسب الوظيفية للكلية تدرّجا،وبعد حصولي الماجستير من الهند عيّنتُ عميدا للكلية عام 2016م،وقد سجلتُ الدكتوراة ذا العام 2017، فسأسرد لكم عشرا من الخواطر العطرة تبصرة وتذكرة، نبراسا للخريج وزادا لدنيا العمل والاعمال، من واقع التجربة لا من بطون الكتب والقراءة، ومن محيط العمل في مجال التعليم  العالي تدريسا وإدارة،  والتعامل مع جميع أصناف البشر ،سطّرتها بالمشاهدة  والخبرة لا بالنظريات والأقوال، ومن ربــــّــى أجيالا ناشئة،واشتغل في بلد متقطّع الأوصال ومنقطع الرجاء، ليس كمن اشتغل في  دولة القانون والمجتمعات المتقدمة،وإليكم الدرر المضيئة، والجواهر النفيسة وعشرا كاملة بعد عشر من أعوام مضت، ولله در أبي العتاهية :ما أسرع الساعات في الأيام ** وأسرع الأيام في الأعوام

أولا: أيها الخريج المغترب العودة إلي الوطن أحمد،

في مقهي الإنترنت الحرمين في الخرطوم قلتُ لزميلي محمد ولي تمنّ في دنيا الأعمال؟ فقال تمنيتُ بعد التخرج  ان أعيش في الولايات المتحدة، فذهب الي كينيا،ومكث خمس سنوات وذهب إلى أمريكا أخيرا، وبالمثل قال لي تمنّ، فقلتّ أتمني التدريس والانخراط في سلك الجامعات محاضرا وأستاذا،وفي عالم التصنيف مؤلفا ومحققا، الخريجون بعضهم اختاروا طريق الهجرة والعيش في المهجر، ولم يستفيدوا غالبا من الشهادات العلمية التي حصلوا عليها بعد سهر وتعب، وبعضهم واصل الدراسة واستوطن السودان، ومنهم من مارس التجارة  في الغربة، وقد لقيتُ بعضهم بعد عقد من الزمن وتواصلتُ مع بعضهم ولسان حالهم يقول كما قال ابن زريق:

لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ *** قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ

يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ *** مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ

ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ  ***  رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ

أخبرني شيخي  العلامة الفقيه  محمد معلم أحمد أنه لما تخرّج من جامعات الحجاز أخذ القرار للرجوع إلى الوطن طوعا بينما زملاء ه في حيرة من أمرهم ،يفضّلون الإقامة في الحجاز تحت أيّ مسمى، ولكن الشيخ العائد أسس مدارس ومؤسسات وبدأ  عمله من الصفر، وأفاد للعباد و أحيا البلاد ، وهي اليوم من أرقى المؤسسات التعليمية  تخرج الأجيال في بونتلاند في كل عام ، مدرسة دار القرآن الكريم ،

ثانيا: العمل في مجال التخصص أسعد

العمل في مجال التخصص نعمة من نعم الله وسعادة نفسية، فالبعض ترك المجال الذي أنفق زهرات عمره وكرائم أمواله طوعا أوكرها، ويقال أن 80% من الناس يشتغلون بغير تخصصهم، ،ولكني رفضتُ جملة وتفصيلا العمل في غير تخصصي ومهنتي فكلّ ماله علاقة بالتكنولوجيا فمرحبا به، وكذالك ما كان في مجال  أصول الدين من العقائد والفلسفة والأديان، فالإنسان يبدع في مجاله أكثر، واكتساب مهارة جديدة تكلّف زمنا آخر ولها متطلباتها وصعوباتها، والعمر قصير والشواغل متعددة، فالزم تخصّصك يا أخي تسلم وتغنم،

ثالثا: من ثبت نبت واكتسب خبرة

يستغرب الكثيرون  عشرة سنوات في مؤسسة واحدة، وقد عاتب بعض زملائي في الأمر، وقالوا:كيف صبرتَ علي طعام واحد؟، والصوماليون بطبعهم قوم رحل وذو استعجال، ولكن خفي على القوم أني لستُ نسخة لأحد، وقد حفظتُ في الصغر من ثبت نبت، وفي المثل الصومالي العصا في الأرض لن تنكسر، وفي دنيا الأعمال يشترط الخبرة بثلاث أو خمس سنوات ، فلما ذا الاستعجال؟،والتحوّل من مؤسسة الى أخري بدون فارق يذكر،إن اكتساب الخبرة وتوطيد العلاقات أفضل من الوثوب واستبدال الزملاء، وتكوين علاقات جديدة قد تتعرض لتحدّيا ت أكثر، وكيف الأمن بالبدل؟.

رابعا: أعدى عدوّك نفسك والمألوف عقبة، فاقرء سير من مضي،

لا للمنازعات شعار رفعتُه طوال عملي فصفريّة المشاكل أحسن طريق لأداء عملك ، فمن يختلق مشاكل، أو يكبرّ عن حجمها،أو لا ترضيه الحلول الوسطية، سيطيع العوالي، و يتعثـــــّر في مسيرة العمل ودروب الحياة،  وقد انتهجتُ فلسفة أحنف الحليم الحكيم عند نشوب النزاع والصراع فقد قال” ما نازعني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال ، إن كان فوقي عرفتُ له قدره ، وإن كان دوني أكرمتُ نفسي عنه ، وإن كان مثلي تفضلتُ عليه”.
فأعدى عدوّك نفسك فاجتهد بها وزكّها عن الحظوظ الدنيّة والوساوسات الشيطانية، نعيب الزمان والعيب فينا، والمألوف والعاداة السابقة جزء من مشاكلك فتحرّر عنها فما كان صالحا  في افريقيا مثلا  قديكون  عيبا عند  الغرب وآسيا ، فتعلّم من الزمان الحكم وتأقلم مع البيئات والمناخ، فللحرارة طريقة للتعامل معها كما  أنّ للبرودة أحوالا، واللبيب من تأقلم وفهم الواقع حتي لا يصدم بكواليس الكون، فمن مشي بالشمس حافيا فالمشكلة منه لا من الشمس،فقليل الماء يرويك وكثيره يغرقك، فاقرأ  كتب السير والتراجم، ترى العجب العجاب، فاختر سيرة من شئتَ تكن مثله، تشبهوا بالكرام وإن لم تكونوامثلهم .

خامسا: الجار قبل الدار فالطبع خلاّب

بعد التخرّج يحاول المرء العمل مع أيّ مؤسسة ، وإن كانت لا تناسب تقاليده وسلوكه، ظانّا أنّه يتأقلم ويؤثّر،فإمّا أن  يذوب فيها ويـتأثر بالعوامل، فالتجالس تجانس،أو ينفصم عنها بعد أمد، فأطب مطعمك،  وأجمل الطلب ،واختر من الزهور أبهجها،ومن الأنهار أحلاها واصبر ساعة،وإيّاك وخضراء الدمن، والكسب الطيب لا يعادله شيء والبركة لا تقاس بكثرة الراتب المادي، وليس الرزق الدولار والفلوس فقط، ولاقيمة للدار عند الجار السوء، ولله در ابن الوردي الفقيه الساسي الحكيم حين قال:

دارِ جارَ السُّوءِ بالصَّبرِ وإنْ *** لـمْ تجدْ صبراً فما أحلى النُّقَلْ

زهدتُ العمل في الوظائف الحكومية –وقد عُرضت لي- والمنظمات الأممية ،والهيئات الدولية، فقد امتحن من التحق  بهم  من الزملاء، فلا التديّن والورع التزموا عند الإقبال، ولا الدنيا حصلوا عليها عند الإدبار، طيف زائل، وتعاقد منتهي الصلاحية بأمد قصير.

قتلك خمسة والبقية تأتي

زر الذهاب إلى الأعلى