عباقرة لهم أصول في منطقة القرن الإفريقي الشريف محمود عبد الرحمن (6)

جهوده في تطوير التعليم والثقافة الإسلامية:

قبل أن يخوض الشريف محمود نضاله السياسي وكفاحه الوطني والذي أطنبنا كثيراً فيما مضى، فإنّه رحمه الله قد تسلح بسلاح العلم والمعرفة، بحيث شرب معين العلم الصافي بدءاً في مسقط رأسه مدينة لوق الزارعية في جنوب البلاد ومروراً بالعاصمة، ثم في الديار المصرية وخاصة الأزهر الشريف، كما رافق كوكبة من العلماء الأعلام في منطقة القرن الإفريقي وفي العالم الإسلامي، ولا شك خلال وجوده في مصر احتك القادة في الحركة الإصلاحية أمثال: السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار ، والشيخ محمد خضر حسين الجزائري ثم التونسي ثم المصري صاحب المصنفات العديدة، والشيخ المحدث أحمد شاكر، والشيخ مصطفى مراغي الذي تولى زعامة الأزهر الشريف مرتين وقد أشرنا سبق علاقة بين الرجلين. ومن البديهي أن يعرف الشريف محمود بأن العلم أقوى السلاح يستخدمه الإنسان، وأقوى وسيلة إلى طريق الحرية والكرامة، ومن هنا كان يحرص كل الحرص على نشر العلم والمعرفة من خلال تأسيس المدارس والمعاهد، رغم هيمنة الاستعمار على البلاد. والحق أنّه قد نجح بفضل مثابرته واتصالاته مع المعنيين الذين تلقاهم في مقديشو وخاصة مع ممثلي مصر في لجنة الأمم المتحدة للإشراف على نظام الوصاية الدولي المعتمدين في الحصول على منح دراسية للطلبة الصوماليين للدارسة في مصر. ورحبت الحكومة المصرية هذا الطلب ، وبالتالي قد سافرت المجموعة الأولى المكونة من 25 طالبا فى 9 يناير 1952، وبذلك يٌعدٌّ ذلك أول دفعة طلابية منظمة تسافر إلى الخارج للدراسة على وجه الإطلاق. وفيما بعد تتابعت البعثات التعليمية إلى مصر تقريبا كل عام للدراسة فى المدارس المدنية والمعاهد الدينية ولاسيما الأزهرية وفى المعاهد الفنية. ومن ناحية أخرى فلم يقتصر جهود الشريف محمود في سبيل إرساء العلم والثقافة وتطويرها على ما ذكرنا فحسب ، وإنّما أيضاً سعى إلى حصول علماء وخبراء في التعليم يدعمون في الحركة العلمية في الصومال، وبناء على تحركاته العلمية ومساعيه الخيرية أيضا أرسلت جامعة الأزهر بعثة دينية اِلى الصومال لتولى الإشراف على التدريس الدينى واللغة العربية فى المدارس والمنتديات الأهلية والوعظ فى المساجد والقيام بالتوعية السياسية.

كان الشريف محمود رحمه الله رجلاً مخلصاً وصاحب الابداع والتجديد وكان لديه إلمام تام بما كان يجري حوله، وقد فطن بأن الاستعمار يتلون بألوان مختلفة ويلف ويدور، وكان ذكياً عندما فكر مباغتة الاستعمار البريطاني فور توليته بزمال الأمور في الصومال عقب هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، حيث سعى وبتنسيق مع الأعيان والقيادات التقليدية لدى الإدارة الجديدة بطلب إدخال النظام التعليمى وفتح المدارس الذى كان ممنوعا بقانون فى العهد الفاشستى الإيطالى. ومن حسن الحظ فقد لبت الإدارة العسكرية البريطانية المؤقتة بالشروع فى فتح مدرسة حكومية ابتدائية ومتوسطة ومدرسة لتخريج المعلمين فى مقديشو كنواة أولى لبدء النظام التعليمى الرسمى..وأعقب ذلك فتح مدارس ابتدائية فى معظم المدن الرئيسية فى البلاد بجهود أهلية ..وعمل على ذلك أمام ازدياد الحاجات الوطنية اِلى نشر التعليم،كما صرح ذلك سعادة السفير محمد الشريف محمود في ترجمته لوالدهبالإضافة إلى عدم قدرة النظام التعليمى الرسمى على تلبية هذه الحاجات، ومن هنا استطاع أن يقنع قادة الرأى فى المدن المهمة على أن تقوم كل فئة قادرة على تمويل فتح مدرسة ابتدائية وإعدادية بجهودها الذاتية عن طريق تحصيل رسوم ميسرة أن تفعل ذلك، مقابل أن توفر البعثة التعليمية المصرية المعلمين، وتتحمل مستحقاتهم . وبهذا الجهد الذاتى أمكن فتح مدارس تدرس باللغة العربية فى معظم أنحاء القطر الجنوبى.وقد استطاعت هذه المدارس أن تفوق المدارس الحكومية عددا، من حيث نسبة التلاميذ المنخرطين فيها، ومن حيث النوع من منظور المستوى التعليمى.

وقد أشار السفير محمد الشريف محمود بن عبد الرحمن فيما مضى بأنّ أباه الشريف محمود  كان على صلة مستمرة بقادة الدول العربية ويكاتب ملوكها ورؤساءها، وكذا أعيان المجتمع و العلماء، ولكن هذه المكاتبات انحصرت بعد الاستقلال بالبحث عن مصادر دعم النهضة التعليمية والتربوية فى الصومال، بثقته بأنّ الحرية و الاستقلال لا معنى له بدون العلم والمعرفة، ويصعب الاحتفاظ والدفاع عنها، وكان يفهم بأنّ المدراس والمعاهد سوف تخرج أجيالاً تحتاج إلى الجامعة والتعليم العالي، لذلك كان على صلة حميمة بالأمين العام لجامعة الدول العربية منذ عام 1952 الدكتور عبد الخالق حسونة، وكذلك مع خلفه محمود رياض. وقد قام الأخير بطلب من المعني بالأمر، وبعد اتصالات مع الدول العربية، بعرض الموضوع على مجلس الجامعة العربية الذى وافق على إنشاء جامعة فى الصومال على نفقتها، وتقوم بتمويلها وتشمل جميع الكليات ابتداء من الكليات النظرية، والحقوق والآداب والتجارة، إلى الكليات العلمية كالطب والهندسة والزراعة وغيرها. وبمجرد أن علم بهذه الموافقة، قام باِبلاغ الرئيس محمد زياد برى الذى كان رئيسا للدولة حينئذ فى عام 1971، ولم يكن على اطلاع بالمشروع لأنه بدأ قبل الانقلاب العسكرى بمدة طويلة. وقد رحب زياد برى بالمشروع أيما ترحيب. ووافق على اِرسال وفد من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لتقصي الحقائق ولدراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع والحصول على قطعة أرض لبناء المشروع عليها ، وبحث التفاصيل مع الوزارات المعنية. وقد وصل الوفد وتمت لقاءات مع المسئولين، إلاّ أن المشروع تعرض لمعارضة شرسة من قبل بعض الأجنحة فى الحكومة الموالية لإيطاليا، التى سارعت إلى تقديم مشروع آخر مماثل لاِنشاء جامعة وطنية تدرس باللغة الإيطالية ومستودة ماليا من دول الاتحاد الأوربى، وضغطت ايطاليا للاستعجال فى تنفيذ مشروعها، وأمام العراقيل التى وضعت أمام مشروع الجامعة العربية، انسحب وفد المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بخيبة بخيبة الأمل، واللبيب بالإشارة يفهم كما يقال. ولا شك أن إيطاليا استشعرت الخطر من الأبعاد السياسية لمشروع الجامعة التى كانت ستمول من الدول العربية فسارعت إلى وأده بسرعة خاطفة، وإحلاله بمشروعها الخاص.

اللغة العربية وحفظ الهوية للأمة:

من البديه أن يرفض الغيورون مثل الشريف محمود اختيار لغة للبلاد غير العربية، ومن هنا عارض فضيلته المشروع البريطاني حول اختيار لغة غير العربية، وذلك حينما حاولت الإدارة البريطانية تبني اللغة السواحلية كلغة للتعليم معللة ذلك بضرورات خلق وحدة سياسية وإدارية مع المستعمرات البريطانية فى شرق افريقيا، وقام بتأييد من أعيان البلاد بمعارضة هذا القرار، موضحا الخصوصية المتميزة للشعب الصومالى التى تتمثل قى كون الصومالية لغته الوطنية، وهويته الحضارية والثقافية عربية وإسلامية . وقد كانت اللغة العريية هى لغة التعليم والمعاملات على مدى العصور. وتمسك بأن تكون لغتا التعليم العربية والانجليزية فقط. وقد امتثلت الإدارة البريطانية لهذا المسعى الشعبي.

وكلما يحاول المستعمر تنفيذ مخططاته السلبية تجاه اللغة العربية كانت الجماهير بالمرصاد، لأنهم كانوا مصممين في تفيذ طموحاتهم، وتلبية مطالبهم، ويذكر السفير محمد الشريف محمود بأن الإدارة الإيطالية الوصية نظمت بمجرد تقلدها زمام السلطة استفتاء حول تحديد اللغة الرسمية للبلاد، وقد استطاع أن يقنع كل القيادات الاجتماعية والسياسية فى عموم القطر كله باختيار اللغة العربية واللغة الايطالية كلغتين رسميتين.. وكانت نتيجة الاستفتاء مربكة وصادمة للسلطات الإيطالبة التى كانت تتوقع أن يختار الشعب الصومالى اللغة الصومالية، وكانت حجته أن اللغة الإيطالية كانت لغة رسمية بحكم الأمر الواقع، وأن إيطاليا كانت تريد التنصل من التزاماتها السياسية طبقا لاتفاقية الوصاية التى كانت تنص على تأهيل البلاد للاستقلال بإنشاء المدارس والمعاهد اللازمة لتخريج الكوادر والتخصصات المؤهلة لتقلد المناصب الإدارية، لاسيما وأن اللغة الصومالية لم تكن مكتوبة، ولم تكن لغة تعليم ، بل كانت العربية دائما عبر التاريخ لغة الصوماليين الثقافية والتعليمية، كما أنها كانت اللغة الرسمية ولغة التواصل والثقافة لكل الشعوب الإسلامية، وأنها دعوة إلى التجهيل فى بلد كان التعليم فيه ممنوعا بالقانون، ناهيك عن أنها محاولة لفصل الصومال عن الاتصال بالعالم وبصفة خاصة عن المحيط العربى الذى يجاوره

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى