من أسباب بقائنا

تعيش أمم ، وتندثر أٌخَرُ، تقوم حضارات وتتطور ثم تخبو وتتلاشى، فالأمم تولد وتموت، تماما كما يولد الفرد ويموت، {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}(1) ، لكن الأرض التي قامت عليها الحضارات، وعاشت عليها الأجيال، وتربى عليها الأجداد، تبقى على قيد الحياة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وحتى تبدل الأرض غير الأرض، فكم من أمة واغلة في التأريخ، تليدة في الثأثير صارت أثرا بعد عين، فهل {تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا}(2)

بلينا وما تبلى النجومُ الطَّوالِعُ وتَبْقَى الجِبالُ بَعْدَنَا والمَصانِعُ
ومَا النّاسُ إلاّ كالدّيارِ وأهْلها بِها يَوْمَ حَلُّوها وغَدْواً بَلاقِعُ
ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ يحورُ رَماداً بَعْدَ إذْ هُوَ ساطِعُ (3)

وكم من أمة ترعرعت في أرض كانت مسكنا لها، ومسمرا لأجدادها، وملعبا لأطفالها، ومرتعا لأنعامها، ومسرحا لقطعانها، فإذا ترثها أمة أخرى، وتستولى عليها دولة أخرى { وأورثكم أرضهم وديارهم و أموالهم وأرضا لم تطئوها }()، وكل هذا لا يحدث إعتباطا وإنما يحدث وفق سنن وقونين وأسباب واضحات لا تحابي أحدا { وجعلنا لكل شيء سببا}(4).

فالأمة التي تأخذ أسباب البقاء والاستمرار في الحياة تستمر إلى ما شاء الله، والشعب الذي يتخلى عن سنن البقاء فإنه يصير لقمة سائغة في أفواه الأقوياء، ولعبة كرة بين المتلاعبين، وبضاعة رخيصة في سوق النخاسة.

فمثلا أجدادنا كانوا أبطالا بواسلَ، والتأريخ يشهد لذلك، والمعارك التي خاضوا في غمارها ضد الاحتلال يبرهن ذلك، ومن الأحداث المشهورة المتناقلة بين الرواة: أنه بعد انتهاء معركة ” عَغَارْوَيْن” المشهورة التي خاض في غمارها الدرويش، وقال فيها ” السيِّد محمد” :
قَتَلْنَا الأبْيَضَ ستمائةٍ وَنَيِّفٍ ** وَجَعَلنَا البَاقِينَ كالفَراشِ المبَثوثِ.

كانت هناك شجرة كبيرة عند معاطن إبل ” محمد حاج حسين”، وكان لِلَقْوَةٍ – وهي أنثى العُقاب – عليها عشٌ فيها أفراخها، وفجأة اختفت عن الأنظار، حتى تسائلت الأسرة عنها إلى أين ذهبت؟ بينما الأسرة جالسة أمام فناء البيت إذ ظهرت فجأة حتى هبطت على عشها، لكنّ فرع الشجر انكسر بها، ثم خرَّت اللقوة على الأرض فلم تستطع التزحزع عنها، فقال رجل من الحاضرين : إنها أكلت شيئا أثقلها! فقام إليها رجل آخر كانوا يسمّونه : “محمود أشول”، فبقرها ثم أخرج من معدتها خمسمائة خصيَّةً للرجال، وهذه الخصيات كانت من جيش الاحتلال الذي قتلته الدراويش.(5)

وهذه الحوادث وغيرها الكثيرة تدل على شجاعة الصومالين، وأنهم مواطنون من العيار الثقيل، بذلوا للدفاع عن وطنهم الرخيصَ والنفيس، والمهجَ والأموال.

لكن من أهم المشاكل التي واجهت الأمة سابقا، وتواجههم لاحقا، هي عدم التخطيط للمستقبل، والجهلِ عن معرفة الواقعِ والظروفِ المحيطةِ في عالم بني البشر، من إتخاذ وسائل حمايةِ الأوطان، وإعداد العدّة المطلوبة لحماية أرض الوطن، ومعرفةِ ما عند الآخرين من التطورات التي استجدت في مجال وسائل الدفاع للتسابق معهم أو التفوق عليهم.

فالأمة التي لا تجدد دائما وسائل الدفاع عن نفسها، ولا تعتمد على نمط جديد من التكتيكات، والوسائل فستكون لغمة سائغة في أفواه الأقوياء، ومستعبدة لدى الأمم اليقظة!
وكذلك الأمة التي توكل أمنها لغيرها لن تزداد إلا ضعفا وهوانا، وذلك الغير لا يدخر جهدا لتوسعة الخرق، وأجيج الخلاف ليجد قدما ثابتا، وحاجة مستمرة.

1- سورة الأعراف، الآية 34 

2- آخر آية من سورة مريم.

 3- من شعر لبيد بن ربيعة

 4- الأحزاب، الآية 27 

5- سورة الكهف، الآية 92

 6- أنظر تاريخ الدراويش.

الدكتور يوسف أحمد

الشيح يوسف أحمد ... طالب في دراسة الدكتوارة. تخرجت كلية الدراسات الاسلامية بمقدشو عام 1989. إمام وخطيب بمسجد في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى