نيروبي….. مظاهر لفتت انتباهي

أعيش في نيروبي منذ أغسطس (آب) الماضي.. وعلى الرغم من أنني كنت أتردد فيها طوال العقدين الماضيين لوجود الوالدة الكريمة في كينيا إلا أن تجربتي في هذه المرة كانت مختلفة، ربما لطول الفترة التي مكثت فيها، وربما لأسباب أخرى…. في هذا التقرير سنلقي مزيدا من الضوء على بعض المظاهر التي لفتت إنتباهي:-

  1. الثراء الفاحش لمجموعة من التجار … أناس عاشوا في المدينة لفترة محدودة فقط ثم صاروا بين عشية وضحاها من أثرى الأثرياء. ورغم أنني لا أتهم أحدا وليس عندي أية غيرة أو حسد لفضل الله على الناس، ولكنه إنتابني الشك في طهارة هذا المال وطرق جمعه، ولم أفهم بعد كيف تسنى لهؤلاء الناس الحديثي العهد بالبلد جمع هذه المبالغ الطائلة القريبة من ميزانية دول في غضون هذه المدة المحدودة.

  1. وعود لا تعرف الوفاء…. الكثير من المواعيد في نيروبي لا تعرف طريقها للوفاء ولا الالتزام بها. فكثير من السياسيين وأصحاب المال مع الأسف يتاجرون بالكذب ويعدونك بمواعيد فارغة لا تعرف الوفاء ولا الالتزام بها، فنصيحتي للذي لا يعرف نيروبي أن لا يغتر بها ولا يصدقها.

  1. التدين الشكلي …. ما أكثر الالتزام الشكلي في نيروبي… مظاهر جوفاء وملابس خادعة، وما أقل الالتزام الحقيقي.. الورع والتعفف مُسحا من قواميس أهل نيروبي إلا النزر منهم، فمن الصعب أن تميز بين المجرم الحرامي والناصح الأمين .

  1. الكادحون الذين بالكاد يحصلون قوت يومهم؛ فعلى الرغم من الثراء الفاحش عند البعض كما سبق ذكره إلا أن هناك فئة مطحونة، بالكاد تجد قوت يومها وتعمل جاهدة في توفير الضروريات لفلذات أكبادها، فتساءلت كيف ولماذا هذا البون الشاسع في العدالة الاجتماعية، وكيف تم حصر ثروات البلد فقط في أيدي مجموعة إنتهازية نزعت الرحمة من قلوبها وتتاجر بدماء البشر.
  2. الغش والخداع، وضعف جودة المباع، وعدم الاهتمام بإرضاء العميل من سمات تجار أهل نيروبي… فقد تشتري الشيء (المادة) اليوم بألف وتتعطل غدا… ثم إنك لو حاولت أن ترجعها إلى المحل الذي اشتريت منه ستكون أنت المتهم وتظهر بمظهر المجنون.
  3. في نيروبي لا تشتر أي شيء دون أن تساوم، فالأسعار الحقيقية للبضائع ليس المكتوب أو المنادى بها بل ما تتوصل إليه بعد عملية مساومة معقدة، فلاتصدق المكتوب ولا تستعجل في إتمام الصفقة وإلا ستغبن.
  4. التيه في وضع جيل المهجر…. يوجد في الأحياء التي تقطنها الجالية الصومالية كثير من أبناء المهجر الذين رحلوا من قارات العالم لصوملتهم وإعادة تأهيلهم ولكن العملية تحفها مخاطر جمة:-
    • منها أن تلك الأحياء لا تقل خطورة من البلدان التي وفد منها هؤلاء الشباب لكثرة عصابات الاجرام ومدمني المخدرات فيها.
    • ومنها الانتهازية والابتزاز الذي يتعرض له هؤلاء الشباب من قبل الجميع لتميزهم وسهولة تعرفهم في المظهر والملبس واللغة.
    • ومنها البعد عن مراقبة أولياء أمورهم؛ لأن معظم هؤلاء الشباب يعيش إما بمفردهم أو مع أمهاتهم اللواتي يصعب عليهن الجمع بين متطلبات البيت والسيطرة على كبح جماح هؤلاء المراهقين، علاوة على غياب دور الأب.
    • ومنها زج هؤلاء الشباب في مدارس داخلية يديرها أناس يهمهم فقط العملة الصعبة التي يدفعها هؤلاء الطلاب كرسوم دراسية ولا دخل في تربيتهم وإعادة تأهيلهم في شيء.

  1. الفساد: نيروبي هي بوابة إفريقيا الشرقيه، والمركز الرئيسي لكثير من المنظمات الإقليمية والدولية، واقتصادها يعد من أقوى إقتصادات العواصم الإفريقية ولكنه يعيبها الفساد المستشرى في دوائرها يستوي في ذلك القطاعين الحكومي والخاص. فمن المستحيل أن تنجز عملا أو تقضي مصلحة حكومية في نيروبي دون أن تدفع رشوة…… ويعزى تفشي هذه الظاهرة إلى تدني أجور العاملين خاصة في القطاع العام. فالموظف العمومي في أحسن الأحوال يتقاضى ببضع مائة من الدولارات، وهذا المبلغ لا يغطي تكاليف معيشة نيروبي الباهظة، الأمر الذي يضطره إلى أن يسلك طرقا أخرى لسد الناقص من احتياجاته بأية وسيلة.

وإذاكان العميل صوماليا فإن درجة حرارة الفساد ترتفع إلى ذروتها ولا أدري فهل العلة تعود إلي فوضوية الإنسان الصومالي، أو كونه الحلقة الأضعف في المجتمع، أو بالأحرى كونه الأقل صبرا ويريد أن يستعجل كل شيء حتى ولو كان يحق له توفير ذلك بطرق قانونية تتطلب فقط قليلا من الصبر والانتظار؟.

  1. المحسوبية الممارسات السيئة في نيروبي والتي تأسفت لها كثيرا إنتشار ظاهرة المحسوبية وفقدان العدالة الاجتماعية. فمحددات الوظيفة العمومية في كينيا ليست ماذا تعرف بقدر ماهي من تعرف. فأيا كانت مؤهلاتك وخبراتك فإنه إن لم يكن لديك وساطة قوية يُهاب منها، أو لم تدفع شيأ فإن أوراقك سترمى من الشباك. فالولاء القبلي أو الحزبي أو المناطقي هو العامل الحاسم لتولي الوظائف، الأمر الذي حرم كثير من العقول الناشئة والكوادر مشاركة الوظيفة العمومية وإخراج القبليين والنفعيين المفسدين من الساحة.

  1. التمييز العنصري على الرغم من حصورهم القوي في الساحتين السياسية والاقتصادية إلا أن المسلمين في كينيا لا زالوا يتعرضون لتفرقة ممنهجة خاصة فيما يتعلق بالحصول على الأوراق الثبوتية ( شهادة الميلاد، البطاقة الشخصية، جواز السفر).

فهذه الأشياء وإن كانت من أساسيات الحقوق الفردية لكل مواطن بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه إلا أن المسلمين في عموم كينيا يتلقون في سبيلها عوائق كثيرة، ويخضعون لفحوصات دقيقة من قبل جهاز المخابرات الوطنية قبل الحصول عليها. ولا أدري لم يهدر الوقت والمال في التأكد من مواطنة إنسان وأحقيته في الحصول على الأوراق الثبوتية لدى جهاز المخابرات الذي من المفترض أن تكون له أولويات أهم وسقف أعلى من ذلك.

في بداية أكتوبر الماضي تقدمت طلبا إلى إحدى المراكز الخدمية للحصول على شهادة الحالة الجنائية (الفيشة) فعندما انتهيت من الإجراءات سألت الموظف تقريبا كم يستغرق إستصدارها. فقال لي وبكل بجاحة بالنسبة لك قد يستغرق عدة أشهر، صُدمت فقلت له: أشهر!! لماذا؟ وما هي مشكلتي؟ وقد قدمت لك جميع الأوراق المطلوبة وبصَّمتني. فقال لأن اسمك: عبد الرحمن… لم أتمالك نفسي وكدت أن أخنقه، فقلت له الذي تقوله وأنت موظف عمومي جريمة يعاقب عليها القانون.. من حقي أن أقدم دعوى ضدك …. ثم قال لي بعد أن فزع من الغضب البادي من على جبيني مع الأسف يا سيدي… ولكن هذا هو الواقع !!….

عبد الرحمن ديقو جهاد

محاضر في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية- فرع لندن، ومدير شؤون التعليم بمؤسسة الفرقان التعليمية، لندن
زر الذهاب إلى الأعلى