الاصطفاف مع العدالة 

في الفصل القبلي، كثيرا ما كنا نسمع عن قصص حول حوادث أغرب من الخيال  تبدأ بمشاجرة بين شخصين وتنتهي بحرب قبلية لا تبقي ولا تذر، وبصراع دموي لا يقبله  العقل السليم ولايقره الشرع الحنيف .

كانت القبائل  منحازة لأبنائها واذا اقترف أحدهم جرما لا توقفه عند حده، بل تصطنع لأجله مائة حيلة وحيلة للحيلولة دون إحالته إلى العدالة الناجزة إذا ما توفرت لينال جزاؤه الرادع وعقابه الصارم.

هذا الأمر  كان سببا  لإفتعال الأزمات بين القبائل الصومالية طيلة العقود الماضية، سيما العقود الثلاثة الأخيرة التي كانت البلاد وخاصة المناطق الوسطى والجنوبية في دوامة العنف والفوضى وانعدام الأمن والنظام حيث صار الانحياز لمطالب القبيلة سواء كانت ظالمة أو مظلومة، أو كان الحق معها أو ضدها سمة بارزة ومظهرا سائدا في أوساط المجتمع الصومالي .

هذه الحالة أدت إلى فقدان الثقة بين شرائح المجتمع، وغياب التعايش السلمي بين القبائل، وجعلت كثيرا من خيرة شباب الوطن وشيوخه ضحية العنف وفوضى السلاح  الناجم عن العقلية القبلية المتحجرة التي تعود الى العصر الحجري عصر أمرؤ القيس ونعمان بن منذر.  

اليوم وبعد مرور ما يقارب  27 عاما على “ثورة القبائل” تهب علينا نسيم التغيير ونلاحظ أن المجتمع الصومالي يتعافى بشكل جزئي من داء القبلية المقيتة الذي اكتوينا بناره طيلة السنوات الماضية حتى بلغت العشائر لمرحلة متقدمة من النضوج أوصلها أن تتجرأ على ردع الظلمة من أبناءها والوقوف مع المظلومين ونصرتهم.

وها نحن اليوم نسمع نماذج رائعة من هذا القبيل كانت آخرها قصة عدادو المدهشة التي حملتني على كتابة هذه السطور، والقصة تبدأ بمقتل رجل أعمال منحدر من عشائر دغل وميرفلي في مدينة عداودو -في منطقة جلمدغ – على  أيدي شاب من شبّان المدينة على خلفية مشاجرة حصلت بينهما.

وبعد الحادثة ،  وقفت الأسرة مع ابنها الجاني وحاولت الدفاع عنه وهرّبته إلى أبوظبي خوفا من ينال جزاءه، وقيل أن تكاليف سفره إلى أبوظبي بلغت 14 ألف دولار، لكن أعيان المدينة ووجهائها لم يرق لهم ما حصل، وسعوا جاهدين لإخماد فتيل نار  الحادثة،  واستئصالها من جذورها حتى لا تتكرر في المستقبل، ونجحوا بمنتهى الصعوبة في إحضار الجاني من منفاه.

لم تتوقف محاولات اسرة الجاني للحيلولة دون معاقبته وأصرت على انقاذ أبنها ودفعت في سبيل تحقيق ذلك 50 ألف دولار كرشوة، لكن كل ذلك لم يحل أيضا دون تحقيق العدالة والاقتصاص من الجاني تطبيقا للشرع وتنفيذا لطلب أولياء المقتول وحفاظا للأمن العام.

ينبغي أن يكون هذا الحدث الرائع والأول من نوعه في المجتمع الصومالي مثلا يحتذى به ، وأن تكون عشيرة عدادو قدوة للعشائر الأخرى وأنا أدعوا من هذا المنبر إلى الإطلاق على مدينة عدادو لقب “مدينة العدالة” .

ذكرني هذا الأمر بما روي عنه صلى الله عليه وسلم في تتمة حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ( اولئك خيار الناس، إنه لا قدّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع ) . 

ووقعت مثل هذه النماذج في مدن أخرى وليست قصة غلدوغب عنا ببعيد، وكل هذه المؤشرات واضحة الدلالة والإشارة، وهي لدليل قاطع على أن زمن الغطرسة القبلية قد بدأ يتولّى.

وللمزيد من البيان في هذه النقطة دعني أستعير كلام خطيبنا في الجمعة الأخيرة في معرض حديثه عن الرئيس المنتخب محمد عبد الله فرماجو والترحيب  الواسع الذي حظي بانتخابه رئيسا للبلاد، حيث قال لجمهور السامعين يريد اشعارهم بانتهاء زمن الغطرسة القبلية ” تخيلوا لو كان هذا الرئيس المنتخب في حي من أحياء مقديشو وقت سقوط النظام العسكري السابق وعلى أوج ثورة الجبهات…ماذا تظنون أنه كان يفعل به ذاك الوقت “. 

يبدوا أنه ينطبق علينا تماما كلام العلامة أبي الأعلى المودودي حين قال ” بداية المصلحين هي نهاية الثوريين ” .

زر الذهاب إلى الأعلى