مستقبل العلاقات السودانية الجيبوتية في عصر التحالفات الدولية   

دأبت الحكومة السودانية أن تنزع دوما إلى التحالف مع الأضعف في منظومة الدول العربية، وذلك ليس فقط للعمل على إشباع رغبات وتصورات الإحساس بالعظمة على مستوى القيادات السودانية ، وإنّما لتقليل التأثير السيء للوضع الجغرافي الجديد للسودان بعد انفصال الجنوب، وإحاطته بدول أفريقية مجاورة، تختلف عنه في النواحي الفكرية والسياسية،

ولطالما أحب السودانيون السماع والترديد بأنهم البوابة نحو الأمم الأفريقية، والجسر الذي يربط بين العالم العربي بشعوب القارة السمراء.

وترى حكومة السودان دولة جيبوتي جارا قريبا وشريكا أمينا لها، ويهمها أن تتخذ هذه الدولة منصة لمعالجة القضايا الإقليمية ذات العلاقة بالتوازنات الإقليمية والتحالفات الداخلية في منطقة القرن الأفريقي. الأمر الذي يحفظ للسودان مكانته وقدرته على التأثير في محيطه الأفريقي، خاصة أنّ جيبوتي تشهد حاليا تدافعا دوليا نحوها، وتحرص جميع دول العالم توثيق العلاقات بها.

وتحاول هذه الورقة عكس طبيعة العلاقات السودانية الجيبوتية، وفرص التعاون القائمة التي يجب اغتنامها، خاصة بعد أن قامت حكومة السودان بمبادرات عديدة ،كان آخرها تكفل المشير بشير ببناء وتجهيز مستشفى عسكري على طراز حديث وتقديمه هدية للقوات المسلحة الجيبوتية.

وتناقش الورقة المحاور التالية:

أولاً: الرصيد التاريخي للعلاقات السودانية الجيبوتية.

ثانياً: طبيعة العلاقة السودانية الجيبوتية .

ثالثا: الفرص القائمة وسبل تطوير العلاقات السودانية الجيبوتية.

أولاً: الرصيد التاريخي للعلاقات السودانية الجيبوتية.

إنّ وجود سمات كثيرة مشتركة بين جيبوتي والسودان كالمزاج الثقافي، والتقارب في السحنة والوجدان، تدل دلالة واضحة على عمق الصلة بين البلدين،ووجود علاقات تاريخية قوية منذ عهد الفراعنة.

إذ لا شك أن السودان كان يشكل دائما  الحلقة الرئيسية لاتصال منطقة القرن الأفريقي بالعالم الخارجي، فبحكم موقعه الجغرافي ظلت منطقة جيبوتي وما حولها  تتعرض لمؤثرات ثقافية من مصر الفرعونية، ولم ينقطع تبادل المنافع والعلاقات التجارية، والتأثير الثقافي لمصر الفرعونية على شعوب المنطقة ، وكان كل ذلك يتم بواسطة السودان، الأمر الذي جعل الرحالة ابن بطوطة  1329م  يعجز عن التمييز بين الصوماليين والسودانيين في القرن الرابع عشر، إلى درجة جعلته يعرّف سكان مدينة زيلع بأنهم سودانيون .

يذكر ابن بطوطة ذلك ويشير بقوله:  ” سافرت من مدينة عدن في البحر أربعة أيام ووصلت إلى مدينة زيلع  وهي مدينة البرابرة ، وهم طائفة من السودان شافعية المذهب …”    ويضيف قائلاً:   ” أهل زيلع سود الألوان وبلادهم صحراء مسيرة شهرين أولها زيلع وآخرها مقديشو …”

وتوضح الشواهد التاريخية أنّه بفضل الفتوحات الاسلامية المعروفة بــ “فتوحات الحبشة ” التي انطلقت من السواحل الصومالية بقيادة الإمام الغازي أحمد جوري ”  1543م”  انكفأت الإمبراطورية الحبشية في هضبتها الجبلية، وانشغلت عن التوسع والتمدد، وشنّ حروب صليبية على السودان.

ولما قسّم مؤتمر برلين 1885م الشعب الصومالي وأراضيه إلى خمسة أقاليم وصارت جيبوتي بموجب هذا التقسيم ” الصومال الفرنسي”  انتقل عدد كبير من الأسر السودانية من مدينة عدن واستقرت في جيبوتي العاصمة، فتميزت العلاقات السودانية الجيبوتية من جراء ذلك بطابع شعبي،  خاصة أنّ الموسيقى السودانية القائمة على السلّم الخماسي كانت قد ألهمت الكثير من الفنانين في جيبوتي، و ساعدتهم كثيرا في صفاء ألحانهم، كما كان التجار من السودان يأتون في فترات الجفاف بمحصول الذرة البيضاء من صومعة الغلال في مدينة القضارف، و يفرغون شحناتهم التجارية في مدينة أيشاعا ( Ayshaca )  الإثيوبية القريبة من جيبوتي .

ثانياً: طبيعة العلاقة السودانية الجيبوتية .

على الرغم من أن السودان كان من أوائل الدول التي بادرت بالتمثيل الدبلوماسي في جيبوتي، إلا أن العلاقات بين البلدين لم تتطور ، ولم تتجاوز المستوى الرسمي، إذ لم يكن من السهل إقامة علاقات تجارية بين البلدين نظرا لتوفر البديل المغري، المتمثل في الأسواق الإثيوبية فيما يخص المنتجات الزراعية ، وقدرة جيبوتي الاستيراد من الأسواق العالمية، نظرا لنظامها المالي المتطور ، وانخفاض عدد سكانها ، الأمر الذي الذي لم يشجع على إقامة علاقات تجارية وتبادل السلع بين البلدين .

ويلاحظ على السياسة الخارجية بالنسبة لدولة جيبوتي اعتمادها الشديد على دبلوماسية “الشيكات” الأمر الذي جعلها تسمح للسعودية والعراق ببناء مدارس تابعة لقنصلياتهم في جيبوتي، بينما وضعت العراقيل الفنية والإدارية أمام رغبة السودان تأسيس مدرسة ثانوية تابعة له في جيبوتي عام 1984م ( ذهبت هذه المدرسة فيما بعد إلى دولة تشاد )   بعد الزيارة التي قام بها الوفد السوداني في إطار ما أطلق عليه بعثة النوايا الحسنة المنبثقة من اللجنة الوزارية المشتركة المنعقدة بين الجانبين في الخرطوم 1982م .

ومهما يكن من أمر فإن جيبوتي قد تجاهلت تماما إقامة علاقات ثقافية وأي نوع من التعاون في مجال التربية والتعليم مع السودان ، لحماية هوية التعليم في أرضها، على أساس أنها دولة فرنكوفونية يجب أن تستلهم التجربة من نموذج دول المغرب العربي الذي يجمع بين العروبة والفرانكفونية.

ومع ذلك فإن المشروع الحضاري لنظام الانقاذ الهادف إلى نشر أفكاره السياسية وتجربته الى خارج السودان قد ساهم في تعليم عدد كبير من الطلاب الجيبوتيين – يبلغ تعدادهم 724  طالبا .  وقد نال هؤلاء الشباب الذين درسوا في الجامعات السودانية مواقع مرموقة في مرافق دولتهم وصاروا سفراء ، وأطباء ، ومهندسين  ، وقضاة ، ومدرسين ، وأساتذة في الجامعة، ومسؤولين كبار في موانئ جيبوتي العالمية.

وعلى الرغم من كل ذلك،  فإن العلاقات السودانية الجيبوتية تتركز كلها فقط على المحور السياسي، ولم ترتق إلى ما هو أبعد من ذلك، مع وجود عمق استراتيجي وروابط مشتركة للعلاقة بين البلدين المتمثلة في التالي :

1-  الانتماء المشترك للعالم العربي والإسلامي

2- الانتماء المشترك إلى دول حوض البحر الأحمر

3- الانتماء المشترك إلى الاتحاد الإفريقي

4- الانتماء المشترك إلى الهيئة الحكومية للتنمية( إيغاد )

5- ارتباط السودان وجيبوتي باتفاقيات إقليمية مثل الكوميسا

6- ارتباط السودان وجيبوتي باتفاقيات ثنائية مثل التعاون العسكري 2001م.

7- وجود تعاون وتنسيق أمني منذ العام 1991م .

8- توقيع مذكرة تفاهم على مستوى الشرطة 2002م ، لتبادل المعلومات في إطار الشرطة العربية، والانتربول.

ويتضح من خلال تحليل العلاقات السودانية الجيبوتية، بصورتها الراهنة القائمة على النمط التعاوني، أن هناك علاقة دبلوماسية كاملة تقوم على أساس من الاحترام المتبادل، وتبادل المصالح والمنافع، ومن أبرز إنجازات هذه العلاقة ، العمل على توحيد وتنسيق السياسات والمواقف الخارجية للبلدين، على المستوى الإقليمي والدولي،  لاسيّما فيما يخص أعمال الهيئة الحكومية للتنمية المعروفة اختصارا  بـ ”  الإيغاد”  ولقد نجح السودان كثيرا في التأثير على قرارات جيبوتي وتوجيه سياستها فيما يخص هذه المنظمة بما يخدم مصالحها.

ولقد استضافت جيبوتي محادثات السلام بين الحكومة السودانية والصادق المهدي زعيم حزب الأمة المعارض، أدت إلى توقيع اتفاق سلام شامل عام 1999م.

كما اهتمت جيبوتي بكل ما يتعلق بعملية السلام ووحدة السودان ، ولعبت في إطار “الإيغاد” دورا بارزا في عملية التوفيق بين الحركات المتمردة والحكومة المركزية في الخرطوم، وتشارك بكتيبة من قواتها للعمل ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور، كما تلعب دورا هاما في حلّ مشكلة دارفور بتقريب وجهات النظر من خلال اللقاءات الثنائية.

ثالثا: الفرص القائمة وسبل تطوير العلاقات السودانية الجيبوتية.

العلاقات بين الدول هي كمثل الكائن الحي ، يحتاج إلى رعاية مستمرة . وللمحافظة على قوة وحيوية العلاقات الثنائية، وإخراجها من الطابع التقليدي، لا بد من توسيع مجالات التعاون بين البلدين ،وعلى الخرطوم أن تكفّ النظر إلى جيبوتي باعتبارها حارسة البوابة الشرقية لأمنها القومي فقط ، فلقد سئم الجيبوتيون التعامل معهم على أساس الهواجس الأمنية للدول العربية، وكأن جيبوتي تستمد فقط في تقدير وزنها، من موقعها المتميز في خريطة العالم ، مما جعلها لا تكتسب أي بعد إنساني في مخيلة حكام العرب.

وكلما فكرتُ في النتائج المحدودة التي تحرزها الدبلوماسية الجيبوتية، لدفع علاقات الصداقة مع السودان الدولة الأقرب إلينا في كل النواحي من بين جميع الدول العربية، لا أجد ما يشفع لها،  فبعد تاريخ حافل من اللقاءات المتبادلة على أعلى المستويات، كان وزير خارجية جيبوتي يختبئ من الطلاب الجيبوتيين في السودان،  خشية أن يطلب أحدهم  المساعدة بخطاب بسيط  لمؤسسات التعليم العالي في السودان.

حتى أن اللجنة الوزارية العليا المشتركة التي تمثل الآلية الفنية، التي يتم من خلالها تطوير العلاقات، وتوطيد  أواصر الإخاء، بين الشعبين الشقيقين نجدها لا تجتمع،  وإن اجتمعت لا تفعل شيئا،  فعلى الرغم من أنها مصدقة إلا أنها غير مفعلة، ولم يتم حتى إعداد جدول زمني لتفعيلها،  ويعد مجال الرياضة استثناء في ذلك.

التوصيات:

في ختام هذه الورقة التي تناولت مستقبل العلاقات الجيبوتية السودانية في عصر التحالفات الدولية وناقشت طبيعة العلاقات بين البلدين  في صيغتها الراهنة، وأوضحت العمق الاستراتيجي والروابط المشتركة بين الشعبين الشقيقين، وتضمنت في ذيلها إشارات سريعة إلى نقاط الضعف في هذه العلاقة ، ومدى أهمية تقوية وتعزيز العلاقات مع  جمهورية السودان الشقيق ، فإن الورقة تخلص إلى التوصيات التالية:

1-  تفعيل وتنظيم عمل اللجنة الوزارية العليا المشتركة بين البلدين بصورة دورية ، لمتابعة تنفيذ البرامج المشتركة في مختلف المجالات .

2-  الإهتمام بزيادة التعاون في مجال التعليم ، واستخدام التعليم كرابط لتقوية العلاقات الثنائية بين البلدين والإسراع في إيجاد مذكرة تفاهم وصياغة بروتوكول تعاون في هذا المجال ، خاصة أن قطاع التعليم الهش الصادر باللغة العربية في جيبوتي يحتاج إلى دولة عربية ذات إمكانيات وقدرات للإشراف عليه ورعايته بإخلاص .

3-  للمحافظة على قوة وحيوية العلاقات الثنائية بين البلدين ، يجب إشراك أجهزة الإعلام في إقرار ذلك، لتوجيه الرأي العام في البلدين الشقيقين ، لترسيخها وشرحها ، وحشد الدعم والسند الجماهيري لها .

4-  الاهتمام باستغلال الأراضي الزراعية الشاسعة في ولاية القضارف، التي قدمها السودان للجانب الجيبوتي مجانا،  والبحث في سبل زيادة الاستثمارات المشتركة بين البلدين ، لتكون المحرك الفعلي للعلاقات السياسية نموذجا للتكامل العربي الإفريقي المنشود.

د. عبد الله قمني آدم

مدرس اللغة العربية في جامعة جيبوتي ومقيم في جيبوتي، وله مقالات وتقارير وابحاث باللغة العربية
زر الذهاب إلى الأعلى