دَلْمَرْ وولده على مفترق الطرق (قصة قصيرة.. حقيقية)

اغتدى دَلْمَرْ إلى متجره الذي يبيع فيه الملابس، ووقف أمامه ولدُه بقامته الممدودة، فألقى على والده السلام بكل حياء واحترام.

  • الوالد مالي أراك اليوم حزينا أسفا يا ولدي؟
  • كيف لا أحزن يا أبت وأوضاع بلدنا آلت إلى ما نحن فيه، ألا ترى أنه يُسحق شعبنا بلا سبب، وأنهم يُحرقون بلا جريرة، أمس قتل عمي بدم بارد وهو واقف أمام متجره، لم يرتكب أي جريمة، ولم يَذكر أحدا بسوء، وكما تعرف فإن عمّي كان رجلا مسالما مسامحا، يحبه المساكينُ والفقراء، لأنه من أهل النجدة والإحسان، والبر والصدقات، ومع هذا لم يَسلم عن هذا الظلم الذي فشا في البلد وعم الأرض وطم، بل ما هي جريرة هؤلاء الأطفال الرضع، والشيوخ الركع، والنساء الحمَّل، والقروي الساذج، ورعاة الإبل الرُحَّل، لماذا يُقتل هؤلاء بلا هوادة ولا رحمة! واليوم ذبح عدد  كبير منهم ثم قطعوا إربا إربا تمثيلا وتمزيقا.

   

يا أبت! لا يتحمل هذا التعدي، إنسان يجري في عروقه دم، وما زالت فيه عين تطرف، وبطن الأرض خير لنا من ظاهرها إذا كنا لا نستطيع أن نرفع عن شعبنا هذا الظلم المشين، ولا نوقف حدا لهذا الاعتداء السافر. يا والدي! جئتُ اليوم لأستأذن منك، لأنه وصل إلى سمعي أن “العقيد غُرْغُر” كوَّن معارضة مسلحة، وثوارا مدربة، وفتح جبهة ساخنة ترمي بإسقاط النظام، أو الحد من ظلمه، وكما لا يخفى عليك فإن “غُرغُر”رجل عنيد، له خبرة طويلة بالحرب، وله علاقة حميمة مع بعض دول المنطقة، وهذا كله يرجح كفة نجاحه، وتحقيق أهدافه، ولو بعد حين، ولذلك أطلب منك الإذن بالالتحاق به، ومشاركة العمل المسلح ضد النظام الغاشم.

  • يا ولدي العزيز! جميع ما ذكرتَ من أنواع الظلم وأزيد قد وقع على شعبنا، ولا يزال يتجرع غصن هذا العدوان، ويزداد يوما بعد يوم، ولا تظهر في السماء سحابة خير، ولا بادرة عدل، والذي يظهر من التوقعات المستقبلية لا يبشر بخير، ويتراءى لي نظام غبي وشعب جاهل، لا يعرفون مصلحة الوطن، ولا تهمهم إلا كروشهم المتدلية، ومصالحهم القبلية الضيقة، على حساب تدمير البلد، وترويع الآمنين، وقطع السبل، يا ولدي الجور والظلم هو دأب الحكام المستبدين، الذين لا يحسبون أي حساب لقاء الله يوم الجزاء.

        وَالظّلمُ من شِيَمِ النّفوسِ فإن تجدْ     ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ

      وَمن البَليّةِ عَذْلُ مَن لا يَرْعَوي     عَن جَهِلِهِ وَخِطابُ مَن لا يَفهَمُ

ثم يا ابني: إن هذه الحرب التي تدور رحاها في أطراف البلد ما هي إلا حرب فتنة، لا تزيد للبلد إلا تخريبا، ولا للأرواح إلا تزهيقا، ولا للشعب إلا تشريدا، فإن الصبر على ظلم هذا الحاكم ومساعديه خير وأرجح من حمل السلاح في وجهه، فالحاكم هو شخص له أجل محدود، سيرتحل عن الدنيا يوما من الأيام، وسيترك الوطن سليما معافا، أما إذا قاتلتموه فإنكم ستسفكون دماء الأبريا، وتكونون سببا لاستباحة أعراض محرمة، وأموال محترمة، تكون شؤما عليكم في الدنيا والآخرة، وتحملون نتيجتها يوم القيامة، ستكونون كمن يحاول علاج الزكام فأحدث جذوما.

  • يا أبت كلامك هذا يتضمن أن نستسلم للظلم، وأن يستعبدنا بنو فلان، ليس من ماتَ فاستراحَ بميتٍ.. إِنما الميتُ ميتُ الأحياءِ، الذين يعيشون مع الذل والهوان، من أعطاهم حق الظلم والعدوان، وفرض علينا تسليم الرقاب إليهم، يفعلون بنا ما يشاؤون، كأننا أغنام آبائهم وأجداهم. الحياة مع الذل هو الموت بعينه.

وظلـم ذوي القربى أشدُّ مضاضة     على المرء من وقع الحسام المهند.

  • يا ولدي كأني أراك مُندفعا إلى هذه الحروب التي لا جدوى فيها إلا الدمار، وأرى حماسك بعيدا كل البعد عن التعقل والحكمة، والعدل والشرع، كلامك يشبه عنتريات الجاهلية الأولى، التي لا تعرف شرفا سوى سفك الدماء، واشتعال فتير الحروب، وإخراج الناس من ديارهم وأوطانهم لأسباب تافهة.

أرى تحت الرماد وميض جمر .. ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تُذكى .. وإن الحرب مبدؤها كلام
فإن لم يطفها عقلاء قوم .. يكون وقودها جثث وهام

قال عمرو بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معد يكرب: صف لنا الحرب، قال: مرة المذاق، إذا كشفت عن ساق.. ثم أنشأ يقول:
الحرب أول ما تكون فتية … تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشب ضرامها … عادت عجوزاً ذات خليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت … مكروهة للشم والتقبيل

و الله أخرجنا من ظلمات الجهل، وأذهب عنّا فخر الجاهلية، وعصبية القبلية، نحن – والحمد لله- مسلمون، والمسلم مَن سلم المسلمون مِن لسانه ويده، ثم إن هناك عدة خيارات سلمية لا تدمر البلد، ولا تكلف خسارة للأرواح والأموال، يمكن الجنوح إليها لإخراج البلد عن الوهدة التي وقع فيها، والرأي عند العقلاء أبلغ من القتال، وأضمن للعاقبة.

   وفي الهجيع الأخير من الليل وصل إلى مربع ابن دلمر مجموعة من شبّان عزموا للالتحاق بالمعارضة المسلحة التي أسس نواتها العقيد ” غرغر” فيمموا وجههم نحو الغرب، متوارين في عتمة الليل، متسللين من الحدود إلى الأرض المحتلة من قبل الأحباش، ثم وضعوا عصا الترحال في معسكر التدريب، في سط شباب وكهول عَلتْ على وجههم الغبرة، وظهر على محيّاهم الكلُّ والتعب، والوَنى والكسل، وصار واضحا من حالهم أنهم لم ينعموا منذ فترة طويلة بسعادة الخرور بين يدى مولاهم، بعضهم يحتسي بأم الخبائث، وبعضهم يمضغ نبتة خصراء طلعها كأنه رؤوس الشياطين، يسمونها”قات” وهي لها نصيب كبير باسمها لأنها تسلب العقول.

    أما معسكرهم فظاهره نصرة المظلومين، وتنفيس عن الموتورين، وثأر للأقارب الذين ذهبت دمائهم هدرا، وإعادة العدل والإنصاف إلى أرض بني السمَّال، وباطنه تخريب البلد، وإشعال حريق التقاتل والفتنة بين الإخوة، وتزهيق مزيد من الأرواح البريئة، وتهجير الآمنين، وتدمير البنية التحتية للبلد، وجعل الوطن لغمة سائغة في أفواه الأعداء، وثأرا  لجثث الأحباش الساقطة في حرب سبع وسبعين. وتصور المعسكرين كان مبنيا على العاطفة وردة الفعل لظروف غير طبيعية، وتوهمات غير متماسكة الحلقات، لم يمعنوا النظر في المآل والمستقبل، ولم يتشاوروا أهل العلم والحنكة، والمعرفة والتؤدة، وإنما سلموا أزمّتهم لشباب موتورين، وثوَّار الثائرين على الحكمة والحجا، والشرع وحُكْمِه، فانصاعوا وراء عاطفة هوجاء.

     خضع ابن دلمر لتدريبات سريعة، وتعلم اللعب بالنار، فصار كالحمام الذي طار بالجذوة فأحرق عشّه، فأول طلقة أطلقها في حياته كانت نحو بلده ووطنه، دارت معركة شرسة بينه وبين جيش النظام البربري، الذي لا يفرق بين مدني ومسلح، وفي آخر المطاق سقط ابن دلمر وزميل له في أرض المعركة، فنقل جثمانهما إلى مستشفى البلد، ليصيرا شراكا يصطاد بهما أقاربهما، وفخا يُعرف به من يَعرفهما، لأن من يدعي أنه يعرفهما ، أو أنه من ذويهما، فيدفع نفسه ضريبة لذلك، فلما وصل إلى دلمر نبأ وصول جثّة ابنه إلى المستشفى دلف نحوه، وتعرف على محيا ابنه، لقد كادت أن تَرعد سحابُ عينيه، أو تسيل دموعُ أماقه، إلا أنه تجلد لما لحظ ذئبا بشريا يرمقه، ويجص نبض مشاعره وردة فعله، ليختبر ما يعتمل في جوانحه، فحلف برب البشرية أنه لا يعرف سواده، ولا رأى قبل اليوم شخصه، كان عنده محمد بن حسن من العرب صالح فقال” من يعيش حين يأخذ هؤلاء ثارهم فسيرى أمرا عجيا”!

 

 

الدكتور يوسف أحمد

الشيح يوسف أحمد ... طالب في دراسة الدكتوارة. تخرجت كلية الدراسات الاسلامية بمقدشو عام 1989. إمام وخطيب بمسجد في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى