من الجنة إلى الجحيم ( قصة)

كانغُوْلِيدْ يعيش في مسقط رأسه، وفي حارته التي تربى فيها منذ نعومة أظفاره، تألقم مع الحياة في العاصمة  “مقديشومع ما فيها من فوضة عارمة، ويسميها حرية زائدة، تعود أن يوقظه داعي الله عند بزوغ الفجر، ويجد نشوة تسري في عروقه حتى تسكن في سويداء قلبه إذا سمعحي على الصلاة.. ” ، هذا الندا الندي يشعل نورا في جميع كيانه، فلا يملك إلا أن يَدلِف إلى أقرب بيت لله، ومن حسن حظّه أنه كان في جواره مسجد يؤم المصليين فيه رجل صالح، وشيخ عابد، إذا قرأ القرآن في صلاة الفجر يُسمع له نشيج وأنين، تفيض عيناه من الدمع تأثرا بالقرآن، كلماته تخرج من القلب وتنساب في قلوب المصطفين من ورائه فتفعم فيها إيمانا وخشوعا، كان غوليد لا يستطيع التأخر عن حضور صلاة الفجر مع هذا الشيخ لأنها صارت له بمثابة فطوره وغذائه الروحي، فإن غاب عنها يوما خارت قواه، ويفقد ألّذ شيء تذوقه في حياته.

تعود غوليد في مقديشو أن يأكل من الحوم طريها، ومن الفواكه طبيعيها، ويشرب من الحليب نقيها، وكان يستمد من حرارة الشمس طاقة زائدة، وصحة كاملة. تزوج غوليد إمرأة صالحة قانتة عابدة، وقفت بجنبه حتى صارا في الحياة كالجسد الواحد، فإذا خرج غوليد لعمله يشتاق إلى بيته وزوجه الحنونة، وبدورها تحسمريم فراغا عند انصراف زوجها إلى العمل، وتعودت أن تستشرفه من نافذة بيتها إذا خرج من البيت لتقر عينها برؤيته حتى يتوارى عنها، وتهرول  إلى شباكة حجرتها عندما يحين وقت رجوعه من العمل لتجد السكينة. رزقهما رب البرية باثنين واثنتين من الولدان تقرت بهما أعينهما، وبينما الأسرة تتقلب في هذه النعمة، وتحلب من السكينة أشطرها إذ جائهم هاتف من أقصى البلاد من أرض بني الأصفر، يطلب منهم الرحيل إلى أرض أوروبا مع الراحلين، لملمت الأسرة أمتعتها فأمّت وجهها نحو الغرب يحدوها الأمل، ويسوقها طيف لمستقبل سعيد، وأول شيء رابهم لما وضعوا الأقدام على الطائرة المخترقة السحب أنهم وجدوا شعبا يلبسون أحذية العساكر، لم يقفوا على السبب إلا بعد أن حلوا في تلك الديار فلبسوا جزمة العسكر لبرودة البلاد، وتبدل كل شيء، استبدلوا الآذان بالأغان، والقرآن بأجراس الكنيسة، والحرارة بالجليد، والطعام الطازج بالمثلج، ورؤية وجوه المتوضئة بالوجوه المومسات.

بدأت مريم وأبنائها الأربعة المدرسة، أما غوليد ففرض عليه أن يبحث لقمة عيش الأسرة عن طريق تنظيق الحمامات وبيوت الخلاء، وفي الصباح المبكر تعود كل واحد من الأسرة أن يغدو من البيت كغدو الغراب، فالأم تخرج قبل زوجها وأبنائها، فاضطر غوليد أن يجهز الفطور لنفسه، فإذا عاد في المساء إلى البيت مرهقا تعبا لم يجد أحدا في البيت إذ الزوجة تنقلب عن المدرسة بعده بساعة.

بدأت مريم تخفف جلبابها تدريجيا حتى لبست بنطلونا، وأما بناته فبدأن يخرجن من البيت مخمرات فإذا تقربن إلى المدرسة ينزعن الخمار، وفي آخر المطاف خرجن سافرات. تبدلت الحياة لدى غوليد إلى جحيم وتعاسة، البيت فقد الراحة والإحترام، لا يحكم بناته ولا أولاده، ليس له قوامة ولا سيطرة على زوجته، لا يحس أنه رجل له قيمة وشخصية ومسئولية، لا يعلم أين تذهب زوجته، تدخل وتخرج متى تشاء، لا يدري أين يغيب أولاده ولا من يقابلونه. بدأ يلمظ حنقا، ويمتلء غيظا، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، يضرب كفا على كف، ظن السراب سحابا، والغرب جنة، والورم سمنا. وكانت الفاجعة الكبرى عندما طرق باب البيت طارق، فأسرع إلى فتح الباب فإذا شاب أشقر قائم وراء الباب، فبادره غوليد ماذا تريد؟ فقال الشاب: أنا صديق فاطمة في المدرسة، أريد أن أدخل معها في الغرفة! فلم يملك غوليد إلا أن زجره وطرده، ثم أصدر في البيت برتكولات وتعاليم شديدة الصرامة، وبدأ يراقب التلفاز، ويفتش هواتف الأولاد، وطلب الأرقام السرية لجميع الجهازات حتى أحس أنه استرجع شيئا من الهيبة، ثم خرج من البيت ليشتري طعاما للأسرة، وفي نفس الوقت توجهت زوجته وبناته إلى مكتب الشرطة ليقدموا الشكوى ضد غوليد؛ لأنه قيد حريتهم، وسلب عنهم حقهم، فلما عاد إلى البيت ويداه مثقلتان بالطعام والشراب، وجد شرطة أحاطت بيته من كل جهة، فدبّ الخوف في نفسه وأيقن أنه سُرق بيته، وأن أسرته في خطر حتى أسرع الخطا ثم وقف أمام البيت، فلما أراد أن يدخل البيت اعترضته الشرطة: أنت غوليد؟ فأجاب: بنعم، ثم اقتادوه إلى المخفر واستجوبوه فرفعوه إلى محكمة حكمت عليه بالسجن أربع سنوات وعدم الاقتراب من بيت الأسرة مادام في القيد الحياة.

يوسف أحمد الحسني

السويد

الدكتور يوسف أحمد

الشيح يوسف أحمد ... طالب في دراسة الدكتوارة. تخرجت كلية الدراسات الاسلامية بمقدشو عام 1989. إمام وخطيب بمسجد في السويد.
زر الذهاب إلى الأعلى