مكامن الخلل في شخصيّة الإنسان الصومالي (2)

في الحلقة الأولى والسابقة من هذه اللفتات تمت الإشارة إلى أنّ غياب أهداف وقضايا وطنيّة توجه سلوكنا تعدّ أولى معايب شخصيتنا التي جعلت من كلّ حراكنا السياسي أو الفكري أو الديني أو الاقتصادي أو التربوي أو غيره على مختلف الأصعدة الحياتية حراكا وهميًّا لا ينبع من خصوصيتنا وحاجاتنا ومشكلاتنا وتطلعاتنا وإنما يرتكز على التقليد الأعمى للآخرين، ودورانا في فراغ لا يؤدّي إلى أيّة أهداف مرسومة جديرة بأن تشكل إضافة ترفع من رصيد المقدّرات والإنجازات الوطنيّة.

في الحلقة الثانية هذه يتمّ الالتفات كذلك إلى ملمح آخر من ملامح الخلل التي تضع بصمتها على شخصيّة الإنسان الصوماليّ، وهو:-

2- الوهميّة ومعاندة الواقع

أوّل خطوة نحو التصحيح هي الاعتراف بوجود الخطأ أصلاً، وطالما أنّ هناك اعتقادا عامًّا يبرر الواقع، وينفي عنه صفة الخطأ، بل ويعتبره عملا عاديًّا جاء في سياقه الطبيعي، واقتضته – ولا تزال – تقتضيه الأوضاع القائمة، وليس بالإمكان تحقيق أفضل منه أو بديل له فلن يكون هناك توجّه نحو التغيير والتصحيح. وهذا ما يصدق على الحالة الصوماليّة التي لا تزال تزداد سوءاً وتعقيداً مع مرور وقت كاف للتعلّم وأخذ الدرس والعبرة  منها إلى الحدّ الذي يدفع أحد الشبّان أن يعبّر عن يأسه بأنّه الآن فقط أدرك أنّ الأزمة في هذه البلاد مستحكمة بعيدة الغور متغلغلة في جذور أعماق القواعد الفرديّة والحواضن المجتمعيّة، بما يجعلها عصيّة على كلّ العلاجات المطروحة والمتصورة حتّى الآن، وأنّ المخرج الأوحد منها هو الهجرة من هذه البلاد، وأن يتنازل الفرد عن مواطنته فيها إلى الأبد ويبحث لنفسه عن وطن بديل في الشتات.

والسر في ذلك هو أنّ الأطراف الخالقة لأزمة الدمار والقتل بصورتها الفردية أو المجموعاتية لا تزال تمارس أدوارها القياديّة، وتتصدر الواجهات السياسيّة والدعويّة والاجتماعية بصورة أكثر من طبيعيّة، وكأنّ شيئاً لم يحدث منها! ليس لأنها اعترفت بذنبها وتطهرت منه، وإنما لأنها كونت لنفسها نظرة وهميّة تنكر وقوع الخطأ في عملها مطلقًا، وتزكّيه باعتباره عملا بطوليًّا نضاليًّا يجب أن يكون مصدر فخر واعتزاز لهم ولكل المنصفين .

فكل الأطراف التي شاركت أوتشارك في الأعمال التي تؤدّي إلى مآسي تدهور الأمن وإزهاق الأرواح على الهويّة تارة وعلى غير شيء تارة، وإلى أمواج الهجرة العاتية لعشرات آلاف الشباب الذين يموتون بالمئات في الصحاري والبحار، واغتيال آمال الشعب في الاستقرار الحقيقي والنماء الاقتصادي ونيل الرفاهية المعيشية، وتدمير المنشآت والمؤسسات وانتهاك حقوق الإنسان، وتوطيد أركان الجهل والأميّة. كل هذه المآسي التي شارك في خلقها ولا يزال يغذّيها محسوبون على الأطياف المختلفة للمجتمع من حملة سلاح وحملة أقلام ورجال أعمال، وأرباب فكر، ومثقفين وعلماء دين تقاسموا أدوار التشريع والقضاء والتمويل والتنفيذ فيما بينهم ليسفر تكاملهم عن هذه اللوحة المرعبة من خليط المآسي التي لا تزال البلاد والعباد واقعة تحتها. لا أحد من هذه الأطراف على استعداد للاعتراف بذنبه والتراجع عنه بعد أن أحاط كلّ نفسه وعمله بأوهام تبرره وتزيّنه ويتحجب بها عن الواقع والحقيقة.   

والحقّ أنّ كلّ ما حدث ما كان ممكن الحدوث لولا التنظير له وإضفاء الشرعيّة عليه من قبل مثقفين وعلماء دين سوّلت لهم أنفسهم تزييف الحقيقة والكذب على الله وعلى الأمّة من أجل أغراض دنيئة في شعورهم أو لاشعورهم، ولولا تمويل رجال أعمال وجدوا فيه مصلحتهم، وأدباء وفنانون ندبوا أنفسهم للتطبيل لها تحت تأثير غمرة الانتماء القبلي أو الفئوي أو الشراكة النفعية، وصولا إلى دور التنفيذ لعامّة الشباب وضعاف العقول والقلوب المعبئين والمبرمجين من قبل كل هذه الجهات وبشتى الأساليب. ومع اتضاح ما أدّى إليه عملهم من النتيجة المرعبة والمحزنة، فلا يزال ذلك العالم أو المثقف أو رجل الأعمال أو الأديب مصرًّا على ممارسة دوره الدعوي أو الاجتماعي بصورة طبيعيّة يتخيّل معها المتابع أنّه نسي كلّ تجنّياته تلك على الأمّة وعلى حرماتها ومقدّراتها باسم العلم والثقافة والدين، ولكن يتفاجأ من يحاوره بأنه لا يجد غضاضة في أن يتحدّث عن ذلك كعمل بطوليّ لم يسجّل أروع منه في سياقه الذي جاء فيه، ولا يتورّع أن يعبّر عن اعتزازه بأداء دوره فيما يصفه بكفاح لتحرير مستضعفين مظلومين، أو لاستنقاذ حقوق مسلوبة، أو نشاط لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

وإذا صح أنّ الأعمال تقوّم بنتائجها، فإنّ من الإنصاف إدانة الأعمال التي أدّت إلى النتائج الكارثيّة على الأرض والأفراد والمجموعات المشاركة في أدائها. ما يعني وهميّة وعبثيّة أيّ تصور لتجاوز الأوضاع السابقة دون محاسبة جادّة وعمليّة غربلة تشمل كثيرين من مختلف قطاعات المجتمع يثبت ضلوعهم في المستنقع الآسن، ولا يزالون يتبوّأون مراكز قياديّة. وبدون ذلك ستبقى الأمور باطلا بني على باطل.

زر الذهاب إلى الأعلى