كارين بليكسن .. نوستالجيا الأ مكنة

(إن ذلك المكان له طعم حرية من نوع خاص ويجد فيه المرء أحلامه)

كارين بليكسن .

منذ سنتين كنت أبحث عن فرصة سانحة لزيارة ذلك المكان الذي تفوح على جنباته أريج الحرية وترسو سفينة الأحلام على مرافئه ومرابعه الحاوية بصمات الأدب وآثار الإنعتاق المطلق من الخوف والعبودية دون أن أحظى رؤية هذا الصرح الشامخ إلى أن تلقيت دعوة كريمة من الصديق الكاتب منهل ـ الذي جاء نيروبي مؤخراـ ، لزيارة ميدان أدبي طالما شكل من أهم جسور التلاقح الثقافي الأفريقي الأوروبي عبر العصور. كانت الشمس الخجولة تدفئ البيت الغارق في الجنان والمروج عندما وصلنا ضاحية كارين بعد منتصف الظهيرة بقليل، دخلت بعمق الزمان والمكان ووقفت على مسرح الأحداث وأنا أعيد شريط الحياة إلى بداية العقد الثاني من القرن العشرين، لوهلة لم أصدق أن هذه الخضرة والبذخ الطبيعي ورائه ثقافة دفينة ونصوص حية وصور عتيقة وأدوات لم تتغير رغم مرور قرن من الزمن.

زرت مع السوداني المهتم بالقضايا الإفريقية وأدبها متحف كارين بليكسن الشهير الذي أصبح بمرور الوقت معلما سياحيا وأثريا بارزا ووجهة مفضلة لدى زوار كينيا من هواة التراث والأدب الإنساني، إذ يحتوى المتحف تاريخا حيا وحقلا خصبا يؤرخ لحقبة مهمة من تاريخ كينيا خاصة وعموم إفريقيا التي كانت تترنح من أجل سطوة الرجل الأبيض وإن كانت تعيش في بداية التململ والنضال من أجل التحرر ونفض القيود الكولونيالية المكبلة، إضافة إلى الصراعات الفكرية والأدبية والتصادمات الكونية التي عاشتها الكاتبة سواء فترة وجودها في كينيا، أو الأحداث التي هزت العالم بعد رحيلها إلى القارة العجوز بعدما شبعت من الثقافة الإفريقية حيث أتاح لها التفاعل والإنسجام مع محيطها الإيغال في عمق الجغرافيا والتحليق نحو التاريخ وكتابة قصص شائقة تدور حول إفريقيا أرضا وشعبا.

المتحف التراثي المتفرد المفتوح على الحضارة الإفريقية القديمة والفاخر بآثاره وصوره وكتاباته وعنايته وعدد زواره هو منزل الكاتبة الدنماركية العالمية كارين بليكسن التي ولدت في رونجستد الدنمارك عام 1885م من أم تنتمي إلى العوائل البرجوازية في القرن التاسع عشر وأب إمتهن الكتابة وهو في السلك العسكري، مارست كارين الكاتبة في بلدها الأصلي ونشرت عدة كتب تحت اسماء مستعارة قبل أن تخطر في بالها الهجرة إلى إفريقيا التي كانت مرتعا خصبا للبيض منذ التدفق الأوروبي نحو القارة السمراء بعد القرن الخامس عشر الميلادي .

إنتقلت الكاتبة إلى شرق إفريقيا وهي في نهاية عقدها الثاني وتحمل حسا أدبيا وعيونا فضولية وحكايات ملونة بالأساطير والحكاوي المنقولة من أرض الوحوش الكاسرة والسافانا. وصلت الشقراء الأوروبية إلى المحميات البريطانية في الشرق الإفريقي عام 1914م وعاشت في ضاحية كارين بنيروبي التي كانت قرية زكية لم يصل إليها السيارات والتمدن، بل كانت غارقة في ظلالها وأنغامها الطبيعي الخالد لكونها تبعد عن نيروبي 12 ميلا حسب ما ذكرت الكاتبة في سطور روايتها، وعلى وقع ألحان ريف القارة السمراء والسماء الناعسة على سفوح تلال نغونغ التاريخية قضت الكاتبة أنضر سنوات عمرها (1914-1931م) تلك الفترة الملئية بالتأملات الكونية والتلذذ بالمشاهدة الحية للحيوانات واللمسات الجمالية للإنسان والمكان والتعمق في الأدب الإفريقي الشفهي عبر الألغاز والحكم والأمثال والحكاوي المنسابة عن ذاكرة المعمّرين والضيوف والعمال مما صقل موهبتها الكتابية وأضاف إلى نصها نكهة إفريقية مميزة تجذبك وتجبرك على قراءة نصوصها، أما الصعيد العالمي فكان العالم في مخاض عسير وكانت الدنيا تمور وتموج بالتقلبات السياسية والفكرية والحروب والركود الاقتصادي والتحالفات والصحوة الإفريقية المتأخرة من أجل الحرية والنهضة والسلام.

كان الأفكار تتماوج في ذهنها وهي تتجه إلى قارة المستقبل والثروات والإمكانيات الهائلة (إفريقيا) وفور وصولها إلى الأرض البكر والفرص المذهلة إستثمرت في القطاع الزراعي في كينيا وأنشأت مزارع البُن (16 ألف هيكتار) في تلك المنطقة الساحرة التي تتداخل فيها الجمال مع الإقتصاد والشعوب الإفريقية الراقصة، ولكن للأسف لم ينجح المشروع وواجهة بليكسين إفلاسا إقتصاديا تزامن مع بداية الركود الاقتصادي الكبير الذي ضرب العالم الغربي.

تزوجت الكاتبة إبن عمها برور فون بليكسن قبل مجئيها إلى أفريقيا بسنة، وربما ألهم هذا الزواج دخول مغامرة جديدة إلى القارة المجهولة بالنسبة للإنسان الأوروبي، ولكن لم يدم هذا الزواج طويلا فتم الطلاق بسبب المزاجية والتباين الفكري بينهما؛ فتزوجت كارين البريطاني المغامر دنس فنش هاتون عام 1925م بعد انفصال زوجها الأول وبعد خمسة سنوات وفي عام 1931م مات دنس في إحدى مغامراته حيث تحطمت طائرته.

ورغم تقلب حياتها في إفريقيا وأخفاقها الكبير في الحب والحياة الزوجية ومرورها بحالات متنوعة من الإحباط والمرض والفشل الإنتاجي إلا أن الكاتبة تركت إرثا ثقافيا متميزا وصورة ناطقة في طيات يومياتها في إفريقيا الخضراء مما أعجب النقاد وأشهر الروائيين في القرن العشرين أمثال الكاتب والروائي الأمريكي الشهير أرنست همنغوي الحائز على جائزة نوبل للأداب عام 1955م الذي زار إفريقيا عدة مرات وكتب روايته تلال إفريقيا الخضراء (Green Hills Of Africa ) وتحت كلمنجارو ( Under Kilimanjaro) إبّان تجواله في المحميات البريطانية في شرق إفريقيا.

من الإطلالة البهية لتلال نغونغ المتربعة على هامة وادي المتصدع كان يبهرها لقاء الثقافات وتداخل الحضارات وتعايش الأديان، لذا فترة وجودها التي امتدت 17 سنة اختلطت في السكان وتعمقت في معرفة الروابط القبلية والثقافية في كينيا واستنشقت هواء إفريقيا المنعشة واستمتعت الأجواء الخلابة والطبيعة العذراء وسامرت مع النجوم المتلألئة في كبد السماء الصافية واستجممت بسهام الشمس الغاربة وراء الهضاب المبللة بالأعشاب وجذور القبائل والأغاني الدافئة لرعاة المواشي.

أعجبها الفرّادة القبلية وخاصة القبائل القاطنة في المنطقة فاقتربت الكاتبة كثيرا إلى الكيكويو أعرق وأكبر قبيلة في كينيا بحكم المنطقة الجغرافية إضافة الى الماساي تلك القبيلة المتمسكة بتاريخها وتقاليدها ورماحها، ويعتبر القبيلتان من أكثر المكونات الكينية تأثيرا من حيث الثقافة والاقتصاد والسياسية والموروثات الإجتماعية، ولم يخلو فترة وجودها المعايشة مع الصوماليين كما ذكرت كثيرا في كتابها الثري حيث تناولت حياة الصوماليين وخاصة النساء الصوماليات الأنيقات، وفارح رفيقها في الحل والترحال إبان وجودها في إفريقيا.

ومن الصدف الجميلة أني لاحظتُ وأنا أتجول في الأقسام المتنوعة للمتحف الغطاء الرأسي للكاتبة الدنماركية في كثير من صورها ولوحاتها الفنية فقال لي الشاب الخلوق إفرام مونيا المرشد السياحي المثقف إن كارين كانت شديدة الإحترام للثقافات والأديان والتنوع الأيديولوجي، وكان من ضمن العمال نساء صوماليات شديدات التمسك بدينهن وعاداتهن فكانت تغطي رأسها بوجود الصوماليات إحتراما لهن حيث كانت تعامل الإنسان الإفريقي الموظف في مزرعتها أو في المنطقة كند مساو لها من حيث الحقوق والحريات إختلافا للكولونيالية الغربية التي كانت تستعبد البشر وتطمس الحياة الثقافية والإجتماعية للشعوب المحتلة باسم الاستكشاف والتمدن في حقبة الإمبريالية الجديدة.

وبما أن بليكسين لم تنجب بسبب مضاعفات مرض الزهري الذي اصابها إهتمت الأطفال وأثقلت على كاهلها تعليمهم وتثقيفهم وحسب المرشد السياحي فإن عبدالله الشاب الصومالي صاحب النظرات الحادة الذي زينت صورته على الجدران والمتجر السياحي للمتحف كان طفلا صوماليا نجيبا حاد الذكاء فأرسلته كارين إلى مومباسا من أجل الدراسة وبعد أن تخرج من القانون أرسلته إلى الصومال ليكون أول قاضي في الصومال، هذه المعلومة تأكدت من مشرف المتحف ولكن لم أتأكد من المصادر الصومالية وتلك معلومة مبهرة كانت جديدة عليّ.

ولقد أخلدت الكاتبة بلمستها الأدبية المبهرة الحكايات والطقوسات الإفريقية الفرّادة ونظرتها للحياة والتصادم الثقافي والتباين الطبيعي في بطون كتبها ورواياتها الكلاسيكية وأحبت العفوية والبراءة المطبوعة على جبين الإنسان الإفريقي المرح بطبعه، كما عاصرت بليكسن الحقبة الإستعمارية وراقبته عن كثب حيث مجيئها تزامن مع النصف الأخير للكولونيالية الإنجليزية وبداية نهاية شمس المملكة البريطانية في المشرق الإفريقي.

وأعتقد جازما أن القبول الإفريقي والترحيب الذي لقيته الكاتبة كان نابعا أنها لم تكن تنتمي إلى دولة لها سوابق إستعمارية في المنطقة، ولم تكن من ضمن البعثات التبشيرية الذراع الناعم للإمبريالية، بل كان المبشرون المسيحيون أنكى في بعض المرات من بطش المستعمر لأنهم يستخدمون الدين من أجل السيطرة ونهب الثروات، ولقد وصفهم الرئيس الأسبق ومؤسس كينيا جومو كينياتا بكلامه المعبر:

“When the missionaries arrived, the Africans had the land and the Missionaries had the Bible. They taught how to pray with our eyes closed. When we opened them, they had the land and we had the Bible”

)عندما جاء المبشرون المسيحيون كنا نمتلك الأرض وكانوا يمتلكون الأناجيل ، علمونا أن نغلق أعيننا ونصلي لله وعندما فتحنا أعيننا وجدناهم يمتلكون الأرض ونحن نمتلك الأناجيل) .

وكذلك لم تكن تنتمي إلى الصحافة الصفراء والأقلام الكولونيالية، تلك الأقلام التي تفننت في إذلال الإنسان واستعباده، وسخرت إمكانياتها وإبداعها وتميزها الصحفي من أجل النكاية وكتابة تاريخ مزيف وبطولات كاذبة وتجميل وجه المحتل على أساس تقزيم ودونية السكان الأصليين.

ولكن كارين بنظرتها المغايرة وحبها للقارة كتبت عن إفريقيا وطقوساتها بكل صدق وشفافية، بل توغل حب الحضارة الإفريقيانية والملامح السمراء للسكان في مشاعرها واهتماماتها وحسها الكتابي والسردي فكتبت عن افريقيا وجمالها وغنائها وتاريخها وسحر فلكورها في رسائلها وانطباعاتها وكتابها “الخروج من إفريقيا” الذي حوّل إلى فيلم ناجح بكل المقاييس عام 1985م ببطولة روبرت ريدفورد وميريل ستريب. وفاز الفيلم جوائز عالمية أهمها جائزة أوسكار في تلك السنة وتم ترشيحه لجوائز كثيرة في السنوات اللاحقة.

اعتبر البعض كتابها ( Out Of Africa) أنشودة حب حالمة لإفريقيا ومذكرات تقطر عنها دموع الحنين لأيامها في القارة السمراء حيث التربة الزكية والرقصات الإفريقية المتميزة ورائحة القهوة والدخان المتصاعد مع قطرات الندى في الصباح الموشح بهديل الطيور وصخب الغابات المطيرة، ولقد أنصفت الكاتبة كثيرا حول الإنسان الإفريقي الذي وصفه المحتل وأقلامه الإمبريالية أسوأ الصفات واقبح الطباع العالقة في أذهان الشعوب البعيدة عن الميحط الإفريقي منذ عدة قرون، حيث وصفوه بالفساد الأخلاقي والكسل والهمجية والسحر والشعوذة، وكأن الإنسان الإفريقي بما فيه من قوة وصلابة وتحمّل وسمرة نبيلة كائن غارق في الجنس والحياة البهائمية وليس له مساهمات فعالة وواضحة في مسيرة الحضارة العالمية، ولا غرو فنظرة المستعمر المسيئة للشرق تعتمد على المبدأ الإستعلائي الشوفيني الذي ينص نهب الثروات وتنكيل الشعب ومصادرة الحقوق والحريات وقتل الكرامة والزحف نحو إفريقيا.

واختيار الإسم الذي لا أعرفه هل كان مصادفة أم علم ومعرفة كان موفقا حيث يدل الإسم الرنان “الخروج من إفريقيا” إرثا حضاريا إفريقيا له زخمه إذ يشكل هذا الإسم نبضا حيا لأصل البشر، فالإسم له علاقة وثيقة وصلة وطيدة بالنظرية العالمية ( Out Of Africa) وهي نظرية علمية متينة في علم تطور الإنسان تعيد أصل البشرية إلى إفريقيا مستدلة بأدلة أثرية وأحفورية وجيولوجية إضافة إلى التحليلات الجينية.

وبعد مرور أكثر من 50 عاما من الرحيل النهائي لكارين عن شرق إفريقيا وتاريخها الكامن في الأكواخ الريفية والأزقات الترابية وبين الحقول والقرى التي تفوح عنها الإبتسامات العذبة الممزوجة بالقهر والضنى، وبعد أن ضرب النسيان أطنابه على مساهماتها الثقافية والأدبية واللمسات التراثية لهذه الكاتبة أنصفت السينما العالمية لها بعدما حقق الفيلم الهوليودي إيرادات كبيرة إقتصاديا وإعلاميا فاستعادت إبنة الأكاديميات الفنية في العواصم الأوروبية العريقة (كوبنهاغن، باريس، روما) جزأ من بريقها الذي كاد أن تطويه الأيام في دجى نسيانها، وقد جذب الضوء البوليودي الساطع الإنتباه الكيني بعد نجاح الفيلم فحولت الحكومة الكينية البيت الذي يضم مزارع بليكسن إلى متحف للعامة والسياح وأصبحت الكاتبة بطلة إفريقية وكينية بإمتياز.

رحلت الكاتبة إلى موطنها الأصلي الدنمار بدون رجعة رغم انها كانت تنوي العودة مجددا إلى إفريقيا ولكن المرض والموت لم يمهلهما طويلا حيث توفيت عام 1962 بعمر ناهز 77ربيعا بعدما تركت إرثا ثقافيا وكتبا أدبية أخلد اسمها في ذاكرة التاريخ.

حسن محمود قرني

حسن محمود قُرنَي كاتب ومدون صومالي خريج جامعة أفريقيا العالمية كلية العلوم قسم جيولوجيا.
زر الذهاب إلى الأعلى