الفساد.. ضوابط ومؤثّرات

تعريف الفساد

فى تعريفه البسيط يقال أنّه عبارة عن “تحويل الممتلكات العامّة إلى أغراض شخصيّة يهبها المتنفّذ فى السلطة إلى من يشاء مقابل علاقات شخصيّة ينتفع بها لتحقّق له مكاسب ومصالح شخصيّة أو فئويّة ’ يحدث هذا عندما يصبح صنّاع القرار ووكلاء الأمّة المخولين بتنفيذ القانون أنفسهم لصوصا يسرقون ما فى أيديهم من أمانة تحت غطاء السّلطة وعباءة القانون”

من التّعريفات الأكثر إستخداما بخصوص الفساد ما قال عنه كولن ناي “السلوك الّذى يحيد النّاس عن أداء واجباتهم الرّسميّة ودورهم العامّ لإعتبارات خاصّة بهم (شخصيّة او أسريّة او مصلحة فئويّة او طبقيّة) ممّا يخرق القانون”

تقول منطمة الشّفافيّة الدّوليّة: “الفساد هو التّحدّى الأكبر للعالم المعاصر , هو الّذى يقوّض الحكم الرّشيد وينغص مسار السّياسة العامّة حيث يتسبّب بشكل أساسىّ فى تبديد الثّروات الوطنيّة ويحول دون تقدّم القطاع الخاصّ والعامّ ويلحق الضّرر بالمجتمع والفقراء على وجه أخصّ”.

هذا المرض الّذى يصفه الباحثون بـ ورم سرطانىّ يفتك بالنّسيج الإجتماعى والإقتصادى ويتغلغل فى جذور المجتمع حتّى النّخاع لم تسلم منه دولة على وجه الأرض فوجوده مضمون من قديم الأزل ويتعذّر إستئصاله أو إجتثاثه من الوجود , لكنّ الدّول الحضاريّة على إمتداد العصوروضعت لها آليات كفيلة بالحدّ من إنتشار هذا الوباء القاتل أمّا فى الدّول المستبدّة فيظلّ الفساد فيها وضعا طبيعىّا بل ويعتبر أداة يستخدمها الطّغاة للتحكّم الإقتصادى والهيمنة السّياسيّة لتطويع رغبات النّاس وتسيير شئونهم على هواه

عندما نطلق مصطلح الدّولة الفاسدة لا تعنى أن القيادة كلّها فسدة ومجرمون بالضّرورة لأن التّقييم العامّ تؤثّر عليه جملة من العوامل مجتمعة , نلاحظ مثلا أنّ الرئيس السّابق سياد برى لم يودع الكثير من أموال الدّولة فى حساباته الشّخصيّة على الرّغم من تربّعه على عرش الجمهوريّة عقدين من الزّمن بلا حساب او رقابة , بينما الكثير من أصدقاءه وأقاربه ومستشاريه الأقربين إنكبّو على سرقة المال العامّ وقامو بإستغلال السّلطة للتّربّح وإحتكار الصّفقات بشكل ممنهج

هنا يجب التّفرقة بين الفساد السّياسى الّذى ينبع من هرم السّلطة وبين الفساد البيروقراطى الّذى يحدث إداريّا بفعل الموظّفين فى الدّولة الفاسدة كنتيجة طبيعيّة متولّدة من البيئة الخصبة لممارسته ولغياب الآليات الكفيلة لوقفه ومحاربته, إذا على كاهل من تقع المسؤوليّة لحدوث هكذا الأنواع من الفساد؟ , على الحاكم المتربّع على العرش وزبانيته المقرّبين أم على الإداريين المتربّحين؟ , فى الحالتين يبقى النّظام فاسدا كونه لم يقم بإستحداث السّبل النّاجعة الكفيلة وتأطيرها قانونيّا على نحو يساعد فى القضاء عليها ومن هنا فإنّ القيادة العليا تبقى مسؤولة بالأساس عن التّجاوزات الإداريّة الّتى تحصل تحت سيادتهم لتقصيرهم عن منعه وذالك على منهج عمر بن الخطاب ” والله لو تعثرت دابة لخشيت أن يسألني الله

هل يمكن لدولة سلطويّة ديكتاتورية أن تتّسم بالنّزاهة؟ هل الفساد يترادف فقط مع الأنظمة الإستبداديّة الّتى لا تقيم وزنا للدّيمقراطيّة والأفكار الحرّة؟.

فى الحقيقة الفساد يتلازم مع الأنظمة القمعيّة وحيثما يوجد نظام شمولى يستحيل أن يغيب عنه الفساد لكنّه فى نفس الوقت قد يوجد كذالك فى الدّول الّتى تطبّق الديمقراطيّة الهشّة  ” عقد الإنتخابات المسيّرة , التعدّديّة الشّكليّة , المحاكم الصوريّة” (الصومال فى عهد الحكومة المدنيّة 1960-1969) او(كينيا حاليّا نموذجا).

المسبّبات المرضيّة للفساد

الجهل: المجتمعات الرّاقية على مرّ التّاريخ إزدهرت عندما إستيعبت أنّ الرّخاء والتّقدّم يكمن فقط فى التّوزيع العادل لثروات البلدان وخيراتها على عموم أبناء شعبها , إزدهرت عندما أدرك الحاكم فيها كونه مجرّد خادم لشعبه لا يحقّ له أن يستأثر لنفسه من مال رعيّته ويودع ما يتلقّاه فى فترة رئاسته من هدايا فى خزينة الدّولة , لقد كان الخليفة الرّاشد عمر بن الخطّاب صاحب رؤية فلسفيّة حازمة ضدّ الظّلم والفساد فعندما وجد أن أحد ولاته إحتفظ لنفسه هدايا تلقّاها عنما كان يشغل منصب ردّ عليه ” إجلس فى بيتك وانظر لو أحدهم سيعطيك شيئا”

الجاه: المنزلة الإجتماعية سواء كانت إقتصاديّة أو إنتماء قبلى تعدّ أحد العوامل الرّئيسيّة فى إنتشار الواسطة والمحسوبيّة وينتج عن ذالك تمتّع البعض بالخدمات العموميّة على وجه الخصوص دون غيرهم بسبب علاقاتهم المميّزة وإرتباطهم بالطّبقة الحاكمة

الجشع: فى ظلّ الأوضاع الإقتصادية الصّعبة والخانقة الّتى يعيشها البلد (الصومال حاليّا) وإرتفاع المستوى والمتطلّبات المعيشيّة بشكل جنونى يحاول الكثيرون من موظّفى القطاع العام كما الخاصّ البحث عن مصادر دخل إضافيّة زيادة عن أجورهم المتواضعة عادة , من الملاحظ أنّ الوازع الدّينى والضّابط الإجتماعى تراجعا كثيرا فى السّنوات الأخيرة أمام الإغراءات الماديّة نتيجة للإنهيار فى أركان البيت الصومالى على مدى العقود الثلاثة الماضية

عموما فإنّ الدول المتقدّمة أدركت بأنّ التّقدّم يستلزم إصلاحا إقتصاديا  والّذى بدوره يعتمد على الهيكلة الإداريّة والإقتصاديّة مثل الحكم الرّشيد وتحسين الخدمات المدنيّة وحقوق الإنسان وضمان الرّأى العام والمحاسبة والتّعدّديّة الحزبيّة والدّيمقراطيّة , كلّ هذا يحتّم محاربة الفساد بالدّرجة الأولى

كيف يمكننا محاربة الظاهرة؟

الشّقّ التّشريعى:  يجب أن تكون التّشريعات واضحة وحازمة وقابلة للتّطبيق بخصوص الظّاهرة

كما أنّ شرعيّة السلطة الحاكمة من عدمها تؤثر على مستويات الفساد ومدى إنتشاره فكلّما كانت الحكومة غير شرعيّة فى نظر شعبها قلّ إحترامهم لها وإلتزامهم للتّشريعات وذالك على رأى المقولة الصوماليّة Hal booli ah nirig xalaal ah ma dhasho (لايمكن لناقة مسروقة إنجاب مولود حلال).

الشّقّ التّنفيذى: كلّ دول العالم تتبنّى سياسات وإستراتيجيّات تهدف للحدّ من هذا الوباء المستفحل, فقط العبرة فى التّنفيذ والتّطبيق, ويجب أن يكون الجهاز التّنفيذىّ قابل للمراقبة والمسائلة تحت إطار قانونىّ محدّد لكن شريطة أن يتمّ توفير العيش الكريم للقائمين على هذا الجهاز لأنّنا حين نقوم بتثبيت ثلاتمائة دولار كأجر سنوىّ لمحافظ أو مسؤول دائرة ماليّة فإنّنا أوّل من يدرك أنّ هذا المسؤول لا يمكنه العفاف وضبط النّفس فى أغلب الأحيان

وبما أنّ مؤسّساتنا المدنيّة والعسكرية لا تزال فى طور النّشىء فإن القائمين عليها يجب أن يكونو على درجة عالية من الحساسيّة تجاه هذا الدّاء المستشرى ليؤسّسو على دعائم مقاومة للإستغلال الفردى على حساب المصلحة العامّة إذا ما أرادو إنتشال البلد من ذيل التّرتيب العالمى للدّول الأكثر فساد فى العالم.

 

                                                                                                              محمود عيسى فارح

زر الذهاب إلى الأعلى