مكامن الخلل في شخصية الإنسان الصومالي (1)

المسؤول الأول عما حل بالبلاد من الخراب والدمار هو الإنسان الصوماليّ، وليس ذلك إلا انعكاساً لانهيار كثير من العوامل البنائية في شخصه، فلم يشمل الخراب الشجر والحجر إلاّ بعد أن استحكم في إنسان هذه الأرض واستولى عليه، وأتى على معظم قوى وملكات البناء فيه. وأحل محلّها عوامل فكرية وأخلاقية وعمليّة هدّامة، فاستعمله بعد تدمير شخصه لتدمير البلاد.

وفي هذه المرحلة التي تتجه فيها الأفئدة نحو الإعمار والبناء وتجاوز آثار الحروب يجدر الالتفات إلى الإنسان الذي هو مصدر هذا الخراب ومحركه، لمراجعة بنائه الشخصي واستكشاف الخلل الذي دفع به في اتجاه الإضرار بنفسه وبمجتمعه وبوحدته وبدينه وبثقافته، تمهيداً لبلورة رؤية لمعالجة هذا الخلل كشرط أوّل لصدقيّة ونجاح مسيرة الإعمار والبناء في تحقيق الأثر المرجوّ والدائم.

وخلل الشخصية المتحدث عنه تدخل فيه شخصية الفرد المشيرة إلى صفاته كفرد، وشخصية المجتمع التي تشير إلى الصفات العامة التي تميز المجتمع وتحكم سلوكه ونظمه وثقافته.

من بين نقاط الخلل الجديرة بالتأمّل:- 

  • غياب قضيّة وهدف الحياة:

تكتسب الحياة قيمتها ومعناها من وجود قضية يحيا الإنسان من أجلها، وتعبر عن ذاته وهويته وتطلعاته وحاجاته ومشكلاته، وتنعكس فيها رؤيته ونظرته التي تشكل أرضيته التي يقوم عليها وينطلق منها في ممارسة نشاطه الحياتي، واختيار سبل التعاطي معها. وتتحدد وفقاً لهذه الرؤية أهدافه في الحياة ومكانته فيها، وتبعاً لهذه الأهداف تتحدد أدواره ومهامّه والوظائف التي عليه أن يؤديها والوسائل والطرق التي ينتهجها لتأدية هذه الأدوار وتحقيق الأهداف. ، فالسياسي الذي يهب وقته وحياته من أجل الوصول بمجتمعه إلى أعلى درجة ممكنة من النضج والاستقرار والريادة السياسية وإلى التربع على منصات قيادة العالم والمشاركة في صنع قراره وصناعة تاريخه، هذه هي قضيته التي تنفخ في حياته الروح وتمنحه مذاقها وأهميتها، بسعيه لإلحاق أمته بركب الأمم ووضعها في مصافها ومقدمتها. وكذلك عالم الدين الذي يحيا من أجل الوصول بمجتمعه إلى أكبر قدر ممكن من تعميم تطبيق تعاليم الدين ومثله في المجتمع، ويسخر كافة الجهود ويوجه طاقاته في هذا الاتجاه، باعتباره ذلك هو الغاية المثلى التي ينبغي أن تتجه إليها حياة الأمّة، تتمثل في هذا قضيته التي تعطي لحياته قيمتها ومعناها بأنّه مؤمن بضرورة تغيير وتطوير مستوى الالتزام الديني في المجتمع لكي يحيا حياة لائقة به كبشر. وكذلك المجتمعات، فالمجتمع الإسلامي الواعي بدوره ومكانته بين الأمم، والمتبصر في شؤون دينه، يستمدّ قيمة وجوده من جانب أدائه وظيفة إشاعة البناء الفكري والأخلاقي والسلوكي المتكامل في الإسلام، وتصدير ذلك إلى سائر المجتمعات، وتقديمه بواقعه نموذجا لحياة هذا البناء في واقع المجتمعات البشرية، كما تستمد المجتمعات الغربية وزنها وثقلها من الإمساك بدفة التطور الصناعي والتكنولوجي الذي تقود به العالم وتقدّم  له من خلاله تسهيلات كثيرة في الحياة.

ووجود الرؤية المتكاملة ووضوحها لدى المجتمعات والأفراد هو ما يساعدها على القيام باستقلاليتها الكاملة في كيانها وقرارها ومواقفها واختيار ما يتلاءم مع أهدافها وإمكاناتها من أمواج المبادئ والأفكار والتطبيقات الواردة والصادرة التي تتلاطم في بحر الحياة، كما تكون حياة المجتمعات بفضل امتلاك هذه الرؤية منظمة وتطورها مضبوطا وموجها بخطط دقيقة وخطىً ثابتة، محدد الزمن والحجم، وخاضعاً للقياس والتقويم والمراجعة الدائمة لمعرفة مدى النجاح ومدى الفشل الذي يرافق العمل بالخطة أوينتظرها، ومن ثمّ تعزيز عوامل النجاح وسلب عوامل الفشل. كما هو حال الدول المتقدمة التي تضع خططا خمسينية أو مئويّة للتطور المرجوّ تحقيقه على مختلف أصعدة الحياة، فبات بإمكانها تقديم وصف لواقع النموّ الاقتصاديّ الحالي بالأرقام وتحديد التطور الذي  يجب أن تحققه مثلاً نسبة نموّ ناتجها المحلي بالأرقام بعد خمسين سنة، أو بإمكانها توصيف واقع مكانتها وعلاقاتها ونشاطها السياسي حول العالم، وتشخيص نقاط القوة والضعف فيها ليبنى على ذلك رسم ما ينبغي أن يتحقق على هذه الأصعدة بعد مضيّ خمسين أو مائة سنة أو أكثر، مع وضع الإجراءات العملية المتبعة لتحقيق ذلك، ثمّ تأتي النتائج بعد هذه الفترة كلها مقاربة أو مطابقة لماتم التخطيط له لتثبت نجاح الخطط وعلميتها وواقعيتها.

كلّ هذه العمليات من تخطيط الحياة وضبطها وتوجيهها إنما أمكن بفضل وجود الهدف والقضية في حياة الأفراد والمجتمعات. ومتى خلت حياة الأفراد والمجتمعات من مثل هذه الرؤى والقضية المحورية التي تعرّف ذاتها خلت كذلك من انتظام السيرورة على خطى الاستقرار والتطور، ووقعت فريسة حيرة واضطراب دائم، فلن تعرف حياتها الاستقرار، وستظلّ تهيمن عليها عوامل الفوضى والعشوائية والصدفة، مطلقة لا تضبطها خطط ولا توجهها غايات يسعى إلى بلوغها، ولا آلية لقياس مدى التقدّم ومدى الانتكاس الحاصل أو المتوقع في حركة حياة محكومة بعبث رياح الصدفة في توجيها الوجهة التي تتجه إليها دون الحاجة إلى عناء البحث عن مبرّرات هذا التوجه في واقع هو نفسه وليد الصدفة غير قائم على أيّ أسس ثابتة أو قدم راسخة على أرض أهداف المجتمع وحاجاته، وتطلعاته وآماله ومشكلاته، لينتهي الدوران في الفراغ بحياة المجتمع إلى التأكل والانهيار والفناء في مواجهة سيول الأفكار والمصالح والمعسكرات والتحالفات والتنظيمات التي لا يعرف ما يختار منها وما يذر، وما يتخذه من مواقف، لفقدان أسس الانتقاء، فيلجأ إلى أن يكون تابعًا لأحد المعسكرات والاتجاهات التي ربما لا تربطه بها أية مصلحة حقيقية تبعيّة عمياء، منزوع المبادرة والمشاركة ينتظر الإملاء، لتحقيق حركة وهميّة في الحياة بإقناع الذات بأنها بخير وتمارس أنشطتها كغيرها من المجتمعات.

وفي حالة المجتمع الصوماليّ وإنسانه، فإنّ الإفلاس من مثل هذه الغايات الحياتية المحددة للذات ومتعلقاتها من تطلعات وحاجات وغيرها، وآثارهذا الإفلاس المدمّرة في الاستقرار وانتظام حركة التطور والنموّ في جميع الأصعدة الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية غير خاف على أحد، طيلة تاريخه المعاصر منذ ما بعد الاستقلال الذي كان السعي في سبيله آخر قضيّة ذات معنى عاش من أجلها الإنسان والمجتمع الصومالي، وأكسبت وجوده معناه. ودخل بعدها في مرحلة تيه حيث لم يكن لديه برنامج لما بعد الاستقلال، فما أن رحل الاستعمار حتى وجد الإنسان الصومالي نفسه في مفترق الطرق، فاقدا لذاته ولقضيّة يحيا من أجلها، ومن هناك بدأت مشكلته، أولاً عندما أشكل عليه مفهوم الدولة والحكم، وما يمكن أن يعمل بها، فأخذ يستعير لدولته قوالب النظام الاستعماري، ومارس بواسطتها على الشعب صنوف التضييق والتخويف والسحق والإذلال والقتل والسجن، مما أفسد العلاقة بينها وبين الشعب، وولد النظر إليها كرديف للمستعمر، وتمّ ترجمة ذلك لاحقاً في تكون الجبهات وحركات التمرّد المدعومة من الخارج. ثم عندما قضى الإنسان الصومالي وقته حائراً وتائها في البحث عن ذاته وقضية تنتمي إليه ويعيش من أجلها من بين شريط القضايا أمامه التي كان سوء اختيار بعضها وسوء إدارة بعضها الآخر سبباً فيما آلت إليه الأوضاع بعد، فالزخم الذي أعطي لحلم الصومال الكبير، والطريقة التي اتبعت في السعي إلى تحقيق هذا الحلم أدّيا إلى تدهور علاقة الصومال بجيرانه والتصادم معهم، ومع المجتمع الدّولي الذي ما فتئ آنذاك يدعو إلى اتباع الطرق السلميّة ويقدّم مبادراته لحل النزاع سلميًّا دون أن تلقى آذاناً صاغية، وتم اعتماد الحسم العسكري العلنيّ على رغم منه ورغم ما يمثله من خرق للأعراف والمواثيق الدولية، وكان ذلك ممارسة لأعلى درجات الغباء السياسي والإداري في وقت كان الأولى فيه التركيز على التنمية الداخلية التي بدأت تحقق حينها طفرات، ولكن ما أن اندلعت الحرب حتى تلاشت وأحكمت الضائقة الاقتصادية طوقها على البلاد.

والقفز إلى حلبة صراع المعسكرين الشيوعي والرأسمالي وأداء دور فيها كان تقمصًا لقضايا آخرين لا صلة للذات بها. ومحاولة تطبيق مبادئ كلّ من الشيوعية والرأسماليّة بحذافيرها دون مراعاة لخصوصية المجتمع في دينه وثقافته أدى إلى التصادم بين الشعب والدولة، إلى جانب كون الانحياز لمعسكر على الآخر يؤدّي إلى خسارة الدولة علاقتها بأحد المعسكرين والدخول معه في حرب بالوكالة، لا حسابات ولا شأن لها به.

كل هذه الإخفاقات أدت بنصيب كبير إلى عزلة الدولة عن شعبها وعن محيطها، وعجزها عن إدارة شؤون البلاد، ومن ثمّ تفككها وانهيارها واندلاع الحروب الأهلية، وكان غياب الرؤية الاستراتيجية الصومالية منبع هذه الإخفاقات الدافع إلى الحيرة والتذبذب بين هذه الخيارات حينما غابت أسس الاختيار والمفاضلة التي كان توفرها مرتبطاً بتحديد ذاتنا في انتمائها وأهدافها وتطلعاتها ومشكلاتها وحاجاتها، ومن ثمّ اختيار ما يتوافق مع هذه المحددات وتكييف ما لا يتوافق منها وفقها. وكان بالإمكان تجنب تبعاتها والاستفادة من جوانبها الإيجابية لو كان الإنسان الصومالي متبصرا من هويته وغايته ومصالحه ووسائل تحقيقها.

زر الذهاب إلى الأعلى