مجاورة النفايات

تعتبر النظافة مظهرا من مظاهر الحضارة والتقدم ،وجانباً منالجوانب التي يقاس بها مدى رقي الإنسان ووعي المجتمع وثقافته وسلامة ذوقه، وهي أيضا عنوان الجمال الذي تحث عليه الشريعة السمحة ويحبه الله تعالي”إن الله جميل يحب الجمال”. لكن واقع الحال مختلف هنا تمام الاختلاف، بحيث يساهم الكل في إفساد البيئة التي يعيش فيها.

كان تقرير سابق نشر في موقع المركز تحدث عن عودة مظاهر الحياة الطبيعية إلي العاصمة مقديشو بحيث ركز ذلك التقرير على الألعاب والفنون الشعبية المقامة في أمسيات بعض الأيام وخاصة يومي الخميس والجمعة وبعض المناسبات الخاصة في ساحة الجندي المجهول التي تمت صيانتها في وقت سابق من عام 2014، وقد شهدت العاصمة بعد ذلك تقدما ملموسا في مجال إعادة الإعمار تمثلت في ترميم وإعادة تأهيل بعض الشوارع المهمة، والتي تعد شريانا حيويا لحركة التنقل بين أحياء مقدشو المترامية الأطراف، نذكر منها على علي سبيل المثال لا الحصر(شارع القلب   jidkawadnaha) أحد أهم شوارع العاصمة، وقد ساهمت تلك الخطوة في تخفيف الأزمة المرورية على سيارات النقل العامة والخاصة التي يستخدمهاالمواطنون.

وها نحن نكتب هذه المرة عن نظافة الشوارع والمرافق العامة الأخرى والتي منها الأسواق العامة والطرق الفرعية والأزقة بين البنايات والعمارات والتي يزداد عددها يوما بعد يوم. وقد أصبحت مكبّا للنفايات. مما يشوه مظهر وجمال تلك العمائر المشيدة على الطراز المعماري الحديث، ويساهم أيضاً في انتشار الأوبئة والأمراض، وخاصة في مواسم هطول الأمطار.

ومن المظاهر المشاهدة التي اعتادها سكان هذه المدينة أكوام من النفايات والقمامة المكدسة في أطراف ووسط بعض الأسواق، والأكثر إثارة للسخرية والاشمئزاز هو تكيّف الناس مع مجاورة تلك القمامة ومباشرة أعمالهم التجارية بشكل طبيعيّ في محيطها القذر والعفن دون الشعور بخطورتها وضررها على الصحة العامة.

ومن الظواهر العجيبة أيضا أن أصحاب المحلات التجارية المنتشرة على طول الشوارع يقومون صباح كل يوم بتنظيف محلاتهم وكنسها بالقدر اللازم الذي  يتمكنون معه من العمل فيها وفق معاييرهم الخاصة، لكن من المفارقات الغريبة واللافت للنظر أنهم يكنسون النفايات نحو الشارع العام، وعلى الرغم من أن هذا السلوك معوج وغير صحّيّ وغير حضاري، فضلا عن كونه مشينا وغير أخلاقي، إلا أنه منتشر بحيث لايقتصر على أصحاب المحلات التجارية، بل يشارك فيه الشركات الكبرى وصغار الباعة الذين يفترشون على أرصفة الشوارع وبائعات الشاي وبائعي الخضراوت والفواكه وبعض المطاعم الشعبية، بحيث يساهم الكل في رمي القمامة وبقايا الطعام والمياه الملوثة إلي الشارع العام والذي غالبا مايكون مزدحما بالسيارات التي تساهم عجلاتها في خلط هذه الأنواع وبسط دائرة عجينتها إلى مساحات أوسع.

يقف المرء مندهشا ومصدوما أمام تلك المظاهر المقززة متسائلا عن الأحاسيس المتبلدة لأولئك الناس، وعن اللامبالاة التي أوصلتهم إلى هذا الحد، وعن جنس الثقافة تلك التي ينزّ عنها هذا السلوك المعوج البعيد كل البعد عن تعالم ديننا الحنيف التي تجعل “إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان”؟ وتمنع كذلك قضاء الحاجة في الطرق العامة.

ولا بأس أن يتساءل الفرد عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة؟ ولإيجاد الجواب الصحيح لهذا السؤال المنطقي علينا أن نفهم أن هناك عدة عوامل ساهمت في خلق هذه الظاهرة واستمرارها منها:

أولاً: طبيعة الشعب الصومالي الرعوية والبدوية، حيث إنه لايعرف حياة الاستقرار لانتمائه إلى هذا النمط من الحياة، فمن العادات البدوية الترحال والانتقال الدائم من مكان إلى آخر، والذي ربما يكون سريعا في بعض الأحيان بحثا عن منابت الكلأ(المراعي)ومواقع القطر(المياه)، ومضارب البدو الرحل متباعدة بطبيعة الحال لاتعاني من الازحام وتقارب البيوت، بحيث تفصل كل منزل عن أقرب جيرانه مسافات خالية لايسكنها أحد، مما يسمح بحرية تغيير المربد والزريبة من وقت لآخر ويكون كل شخص مسؤولا عن رعاية مواشيه وتنظيف حظيرتها الخاصة بما تقتضيه المصلحة والضرورة، وليست هناك مسؤولية عامة عن نظافة المساحات الخالية بين الجيران. أو عن تنظيف المكان عند الرحيل وإعادة بيئته إلى ما كانت عليه قبل الحلول.

ثانيا: الثقافة الفردية السائدة وتقديم المصالح الذاتية (الشخصية) على المصالح المشتركة (العامة) والتي نجدها عند الصوماليين عموما، وتشكل جزءًا من تلك الثقافة البدوية التي انتقلت إلى المدن مع الانتقال غير المنضبط لأعداد هائلة من البدو والأريا ف إلى المدن في الربع الأخير من القرن الماضي، مع العلم بأن وجود خلل كبير في عملية التحول والانتقال تلك أفضى إلى تكريس تلك الثقافة والمفاهيم المصاحبة لها والخاطئة في نفس الوقت؟ ولايمكن التغلب على تلك الثقافة إلا بالاعتماد على أساليب منهجيهة واضحة تبدأ من المدرسة.

ثالثا: لعبت سنوات الفوضى التي أعقبت انهيار نظام الحكم العسكري في البلاد في بداية تسعينيات القرن الماضي دورا محوريا في تثبيت ثقافة المجاورة مع النفايات والاهتمام بالخلاص الذاتي. كما أنه بدلامن إزالة أكوام النفايات المكدسة إلى جوانب الطرق والشوارع وداخل الأسواق بجهود السكان المحليين كان بعض المسلحين من القبائل في عهد أمراء الحرب يمنعون عمال النظافة المتطوعين- على ندرتهم – من نقل هذه النقايات وحرقها مطالبين بدفع مبالغ ماليّة إليهم مقابل نقلهم للنفايات أو تركها كما هي، بحجة أن العمال مقاولون تلقوا دعما من المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال حماية البئية أو في مجال الصحة.

رابعا: غياب دور البلديّة، التي حصرت عملها في الإشراف على تنظيف بعض الشوارع مثل شارع مكة المكرمة وشارع المطار وغيرها، دون أن تغطي كل المدينية.

صحيح أن هناك شركات ناشئة تعمل في مجال النظافة، وقد تلقت تشجيعا من الحكومة الفدرالية، ويمكن أن تلعب هذه الشركات دورا إيجابيا في إيجاد حل لمشكلة النفايات التي شوهت معالم العاصمة، إلا أنها ليست الحلّ الوحيد المتوفر على الساحة. كما أن مسؤلية مثل هذه الشركات تنحصر في تنظيف المدينة ونقل النفايات ومعالجتها بالطرق الصحيحة، ولاتتحمل مسؤلية المحافظة على نظافة المدينة، وإلزام الناس بإلقاء النفايات في الأماكن المخصصة لها، وهنا يأتي مرّة أخرى دور بلدية مقديشو في البحث عن الحلول التي تؤدي إلي المحافظة على نظافة العاصمة. ومن الحلول التي يمكن الاعتماد عليها إجبار الشركات والمحلات التجارية على تنظيف واجهات المحال وفرض غرامات مالية على الأشخاص التجار و المحلات التي لا تلتزم بالمعايير المحدّدة للنظافة.

وأخيراً يجدر التنبّه إلى أن مشكلة مجاورة النفايات مشكلة تعاني منها معظم البلدان الأفريقية والعربية المتخلفة، والتي تشهد أنظمة استبداية في الحكم لاتعير أي اهتمام لصحة المواطن ونظافة البلد وتحاول ملأ جيوبها حتي ولو على حساب الشعوب والأوطان، خاصّة وأن بعض الدول المتقدمة تستورد النفايات من الخارج لحاجتها إلى تدويرها وإعادة تصنيعها.

عبد النور معلم محمد

كاتب وباحث بمركز مقديشو للبحوث والدراسات
زر الذهاب إلى الأعلى