ما بين التّراث والسّياسة

“من أجل بناء مستقبل جديد لا بد من بناء ماض جديد”

د/ الشّنقيطي

إن المطلوب من الفقه عامّة والفقه السّياسي خاصة أن يكون مرشداً للحياة الواقعية للمسلمين كي تتوجّه بما تقتضيه الأحكام الدّينية ولذا يقول ابن عقيل رحمه الله تعالى” السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول – صلى الله عليه وسلم -، ولا نزل به وحي”

وبالرغم من أن الفقه السّياسي من بين التّراث الفقهي هو الحلقة الأضعف فيه من حيث التّوسع والشّرح والتفصيل[1]=وهذا التقصير يؤثر في العقلية السّياسية الإسلامية عبر الأجيال إلى يومنا هذا وربما كان بعض من هذا التأثير حاصلا بصفة تلقائية غير مقصودة؛ فالفقه السّياسي صار أقلّ أبواب الفقه تطورا وتجديدا فهو يكاد يكون قد حافظ على ما أنتجه فقهاء السّياسة الشّرعية في القرن الرّابع الهجري الذي استقر فيه الملك العضوض.

إذ قد ظلّت المؤلفات بعد ذلك تراوح في حدود ما ألفه أولئك الفقهاء مع إضافات قليلة، وقد تغير كل شيء تقريبا في الحياة عما كان عليه الحال..

فبالجملة إن البحث في النظام السياسي الإسلامي لم يأخذ مكاناً واضحًا متميزاً في كتب التراث وخاصة كتب الفقه، حيث توزعت أحكامه في أبواب كثيرة من كتب الحديث والفقه ، و لم يحظ إلا بالقليل من الكتابات المتخصصة ، مثلما وجدنا في كتابي “الأحكام السلطانية” للماوردي ، ولأبي يعلى الفراء، والغياثي لإمام الحرمين، والإمامة والسياسة المعروف بـ “تاريخ الخلفاء”  لابن قتيبه الدينوري وكتاب مآثر الأنافة، في معالم الخلافة، للقلقشندي، وكتاب السياسة الشرعية لابن تيمية، وغيرهم من العلماء.

وفي واقعنا اليوم كثرت دعاوي التحيّز في التّعامل الوظيفي مع التّراث ، ونتعامل مع التّراث تعاملا وظيفياّ[2]، إذ نتوسل به إلى نقد الاستبداد المعاصر، فهي لا تصدر عن تحليل موضوعي للاجتهاد الفقهي السّياسيّ ومناقشته أصولياً وفقهياً بقدر ما تعكس هموما معاصرة، كانت وما تزال، تؤرق ضمير كثير من المثقفين، تحت وطأة الاستبداد الرّاهن، مما يدفع كثيراً من هؤلاء إلى إسقاط تجربة الواقع المعاصر المثقلة بالمعاناة والحرمان على الواقع التّاريخي، وقراءة الموروث الفقهيّ من منظور هذه المعاناة وتحت ضغوطها.

ومما يلاحظ على المثقّفين ورجال الفكر خصوصاً تعامل آليات الإستدلال الفقهي تعاملاً اختزالياً يتجاهل الأصول المتعدّدة المؤطرّة للإستدلال الفقهي ليتم إختزاله في بعض القواعد الفقهية، وهي نظرة تجزيئية تجعل النّتائج المرغوبة مبرّرة، وتمنحها بعض المصداقية العلمية، ولو على حساب الحقيقية العلمية.[3]

فيجب أن نعلم أنّ النصّ الدّيني يتحرر من الواقع والتّاريخ ويتجاوز مواضعات الزّمان والمكان، ويمضي لكي يتعامل مع كل لحظة أو بيئة، وفق مطالبها المتميّزة، قديراً على الحضور بكل ثقله في قرن عاشرٍ أو عشرين في ساحة إفريقية أو آسيوية أو أمريكية، ومن ثمّ فإن محاولة إرغامه على أن يصير معطى تراثياً إنما هي محاولة خاطئة ومضللة ابتداء..

فينبغي أن نحافظ على محورين أساسين في[4] منهج التّعامل مع التّراث، إذا أردنا أن نصل الى صيغ واستنتاجات أكثر دقة وأدعي الى القبول  :-

المحور الأول_ إن هذا التّراث هو تراث إسلامي على وجه التّحديد، يعكس بدرجة أخري تصوراً متميزاً للكون والعالم والوجود، وهو _ بشكل أو بآخر_ تعبير عن العقيدة والشّريعة الإسلاميتين بغضّ النّظر عن مدى توافق هذا التّعبير أو تغايره_أحياناً_مع ثوابت هذه العقيدة أو الشّريعة.

لقد هيأت العقيدة الإسلامية، عن طريق المعطيات القرآنية والنّبوية المناخ المناسب للنّشاط المعرفي، ومنحته الحوافز والمبررات، ودفعته الى العطاء، ومكّنته من مجابهة تحديات المعارف التي وجد المسلمون أنفسهم قبالتها في أعقاب عمليات الفتح الكبري، والتي كان عليهم أن  يؤصلوا شخصيتهم الثّقافية إزاءها، ليس عن طريق تقبل هذه المعارف بالكلّية، الأمر الذي يقود الى الاضمحلال والانكماش، وليس عن طريق تقبل هذه المعارف بالكلّية، الأمر الذي قد يقود الى الإدّغام في الآخر، وإنما باختيار الحل الوسط الذي يقوم على الانفتاح والتّحصن القبول والرّفض والأخذ والعطاء.

المحور الثّاني_ يجب علينا أن نطمح للتأصيل الإسلامي للنّشاط المعرفي ولصياغة مشروعنا الحضاري، أو وضع لمساته الأولى بشكل أدق، بأن نرسم منهجاً مناسباً ومرناً في التّعامل مع التّراث، منهجاً يمنح المشروع عمقه التّراثي وشخصيته وخصوصياته، ولكنّه يحرره في الوقت نفسه من تيار من المعطيات قد لا تكون مناسبة أو ضرورية لحملها والمضي بها قدما عبر القرن الجديد، لكونها أسيرة لحظة ما من التّاريخ أو بيئة ما من الجغرافيا، قد تكون صالحة هناك ولكنّها لا تحمل جواز مرورها إلى لحظات أو بئيآت أخرى، ولكونها تنطوي على استنتاجات متناقضة، أو خاطئة ابتداء، بالإحالة على الكشوف المعرفية الأكثر حداثة ولكونها تقف عائقاً أمام حرية الفقيه في تنزيل أحكامه على الواقع المتغير في ضوء مقاصد الشّريعة العليا، وفق الضّوابط الأصولية المتعارف عليها.

  • وفي ضوء هذا يمكن إعادة تفكيك الموروث المعرفي الإسلامي، أو محاولة تصنيفه وفق أولويّات وضوابط محدّدة تستهدف التأشير المتأني على ما يلي:_

_المساحات التراثية المرحلية التي فقدت قدراتها على المرور الى العصر والتي يمكن أن تكون مجالاً للتًحقيق والبحث والدّراسة في السّياقات العلميّة والأكاديميّة والتّاريخية.

_المساحات الحيّوية المرنة والقديرة على الاستمرار، والتي يمكن أن تضيف الى المعرفة البشرية الراهنة والمستقبلية رصيداً خصباً من المعطيات في هذا الفرع المعرفي أو ذالك.

_ المساحات التي تعكس التّأثير العقدي الإسلامي، ومنطلقه الأساس، ومحوره الأم التّوحيد بأكبر قدر من الصدق والفاعلية.

وفي الختام=ينبغي الحذر من داءين خطيرين: الجبرية والجمود، أما الجبرية فكما يقول الشنقيطي هي إيمان بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان ونظرٌ إلى أحداث الماضي على أنها ضربة لازب لم يكن منها بدّ، بما يترتب على ذلك من الخضوع لا متدادات الماضي في الحاضر، وسدّ لأبواب الطّموح إلى الاستدراك والتّصحيح.

وأما الجمود فهو تبلد وانكفاء على وسائل نجحت في الماضي، لكنّها لم تعد مناسبة في الحاضر ولا مجدية في المستقبل، مما يؤدّي الى تخلف المبادئ عن الحياة .

الهوامش

المؤنس في الفلسفة / محمد الشيخ

الخلافات السّياسية في الصّحابة/د. الشّنقيطي

الفقه السّياسي / د. محمد محمد مزبان

التّجديد في الفقه السّياسي/ محمد النجار

[1] تجديد فقه السّياسة الشّرعية

[2] بحوث في السّياسة الشّرعية محمد محمد أمزيان

[3] الفقه السّياسي للدكتور محمد أحمد مزبان

[4] استفدت للباحث محمد خليل

زر الذهاب إلى الأعلى